
يتناول هذا المقال الرواية الشهيرة ” الحب وأصول علم التربية ” للكاتب الفيلسوف ميغيل دي أونامونو، وتستكشف فيها العلاقة المعقدة بين الفن والحرفة من خلال تحليل عميق لشخصيات وأحداث الرواية. تسعى الدراسة للإجابة على السؤال المحوري: هل الفن هو نتاج طبيعي للحرفة، أم أنهما مجالان منفصلان؟
تقدم الرواية رؤية عميقة للحرفة كقاعدة أساسية للفن. فالشخصية المحورية للمعلم، الذي يمثل الحرفي المثالي، يعمل على تشكيل شخصية تلميذه من خلال عملية تربوية دقيقة. هذه العملية التربوية يمكن تشبيهها بالحرفة، حيث يقوم المعلم ببناء شخصية التلميذ بشكل تدريجي، كما يبني الحرفي قطعة فنية. يلعب الحب دورًا محوريًا في عملية التربية الفنية. فحب المعلم لتلميذه وللعلم هو القوة الدافعة التي تدفعه إلى بذل كل جهده لتشكيل شخصية متكاملة. الحب هنا ليس مجرد عاطفة، بل هو قوة إبداعية تساهم في تحويل الحرفة إلى فن، في حين التعليم الصارم يفسد حياة الأبن ،مشروع، عبقري المستقبل.
تقدم الرواية تحليلاً فلسفيًا عميقًا للعلاقة بين العلم والفن، والحرفة والإبداع. فمن خلال شخصية البطل، تستكشف الرواية حدود المعرفة العلمية في تفسير الظواهر الإنسانية المعقدة. وتخلص الدراسة إلى أن الرواية تدعونا إلى إعادة النظر في مفهوم العبقرية، واعتبارها نتاجًا لتفاعل متعدد الأبعاد بين العقل والقلب، بين العلم والفن، فهذا يقودنا للتساؤل هل العبقرية تصنع؟ وهل هي نتاج العلم والنظريات الجامده فقط؟ وأليس للفن والمشاعر أى تدخل، أي هل العبقري هو عبقري النوع فقط دون أن يتأثر بالمشاعر التي هي نابعه من الفن
تعكس الدراسة إلى أن رواية “الحب وأصول علم التربية” تقدم رؤية فلسفية عميقة للعلاقة بين الحرفة والفن. فالحرفة ليست مجرد مهارة عملية، بل هي أساس الإبداع الفني. الحب هو القوة الدافعة التي تحول الحرفة إلى فن، والتربية هي العملية التي تدمج الحرفة والفن في شخصية متكاملة.
من الإبداع إلى الخلود: كيف ولد الفن من رحم الحرفة؟
لطالما ساد الاعتقاد بأن الفن هو نشاط سامٍ يرتقي بالإنسان، بعيدًا عن الأعمال اليومية. لكن هذه النظرة تضيق من فهمنا للفن، فبدلاً من النظر إلى الفنان على أنه كائن استثنائي، يمكننا رؤيته كحرفي ماهر يضفي لمسة من الإبداع على عمله. فالفنان والحرفي يشتركان في الرغبة في خلق شيء جميل ومفيد، وإن اختلفت أدواتهما وموادهم. فكلاهما يسعى إلى التعبير عن نفسه وإرضاء ذوق المتلقي.
تاريخ الفن يشهد على هذا الترابط الوثيق، ففي العصور الوسطى، كانت الكنائس والمعابد شاهدة على اندماج الفن والحرفة، فقد عمل النحاتون والزجاجون والنجارون جنبًا إلى جنب لخلق أعمال فنية مذهلة، ولم يكن الفن مجرد زينة، بل كان وسيلة للتعبير عن الإيمان والتاريخ والثقافة. وهكذا، فإن الفن والحرفة كانا وجهين لعملة واحدة، يخدم كل منهما الآخر. كما قال أونامونو في روايته الحب وأصول علم التربية ، ذلك المفكر الذي تأثر بفلسفة هيجل، أضاف بعداً جديداً لهذه الفكرة. فقد رأى أن الحرفة هي الأساس الذي ينطلق منه الفن، وأن كل حرفة، مهما كانت بسيطة، تحمل في طياتها إمكانية التحول إلى فن. فكما أن الرسم والموسيقى كانتا في البداية أدوات عملية، كذلك يمكن للنجارة والزراعة أن تصبحا فنوناً” ( أونامونو، 1902:ص 103)
ومن ناحية أخرى، الفلاسفة أيضًا تناولوا هذه العلاقة. فقد رأى هيجل أن الحرفة هي الأساس الذي ينطلق منه الفن، وأن كل عمل حرفي يحمل في طياته إمكانية التحول إلى عمل فني. فكما أن النجار يبني كرسيًا، يمكن للشاعر أن يبني قصيدة، وكلاهما يسعيان إلى خلق شيء متماسك وجميل. وبالتالي، فإن الفن والحرفة ليسا متعارضين، بل يكملان بعضهما البعض.
الأمثلة على هذا الترابط كثيرة ومتنوعة، فالأغاني الشعبية والأمثال والحكايات، التي كانت تنتقل شفاهةً بين الناس، هي أعمال فنية نشأت من الحاجة العملية. فهي تساعد الناس على تذكر المعلومات الهامة، وتسليتهم، وتقوي روابطهم الاجتماعية. وهكذا، فإن الفن، في هذه الحالة، هو وسيلة للتواصل والتعبير عن الهوية الثقافية. على عكس الفيلسوف الكبير أونامونو فقد رفض على لسان كاراسكال،البطل، تنشأت الابن عبقري المستقبل على حب الفنون وتعلم الرسم كفن ولكن رضخ فقط لأنه أعتبره حرفه وعلم : ” يُدرك كاراسكال أهمية تعليم “أبولودورو” فنّ الرسم، مُؤمنًا بأنّه السبيل الوحيد لاكتساب حاسة الشكل، التي بدورها تُساهم في تطوير حاسة المضمون. ويستخدم طريقةً ذكيةً لتعليمه، حيث يُطلب منه رسم طيورٍ ورقيةٍ في مختلف الأوضاع والتكوينات، مُستفيدًا من كونها أجسامًا ثلاثية الأبعاد تتخذ أشكالًا هندسية.” ( أونامونو، 1902:ص 65)
نجد إن أحد أهم المواضيع التي تطرق إليها ميغيل دي أونامونو وتعمق فيها هو التناقض بين العلم والحياة. أي أن الفلسفة والعلوم الأخرى يمكن أن تقتل الحياة، لأن الغرور المتمثل في محاولة فرض تصورات العقل على العالم يؤدي فقط إلى الفشل واليأس. ولكن هذا الموضوع لم يظهر إلا في نهاية القرن التاسع عشر(1)، بعد الأزمة الوجودية الشهيرة التي مر بها عام 1897. في أعماق فلسفة ميغيل دي أونامونو، يكمن صراع أزلي بين العلم والحياة، حيث يرى الفيلسوف الإسباني أن العقل العلمي، إذا ما استهلك الإنسان كليًا، قد يقوده إلى الهاوية بدلاً من النجاة. ففي سعيه الدؤوب لتفسير الكون، قد يغفل الإنسان عن جوهر وجوده، وعن تلك الأسئلة الوجودية التي تثيرها الحياة نفسها، فإن رواية ” الحب وأصول علم التربية ” (1902) تعد رمزية، حيث ظهرت في هذه المرحلة انتقاده للعلم، وبدت بنية الرواية وكأنها اعتراف خطأ من أونامونو نفسه.
إذا نظرنا إلى الرواية من منظور علماء اجتماع الأدب، سنجد أن الرواية هي قصة تتبع تطور شخص معين، يواجه تحديات كبيرة في عالم معقد. هذا التطور هو جوهر الرواية، ويسعى الكاتب من خلاله إلى فهم طبيعة الإنسان والمجتمع. الروايات الواقعية في القرن التاسع عشر هي مثال جيد على هذا النوع من الرواية، حيث تركز على تصوير حياة الأفراد العاديين وتطورهم، لتطبيق هذا التعريف على الرواية الواقعية في القرن التاسع عشر، وهي نوع من الرواية يسعى كل من السرد والحوار فيها إلى إعادة إنتاج تطور ومغامرات وعمق نفسية الفرد الحديث (لوكاش 1970: 95) (2)
وبالتطبيق على دون أفيتو كاراسكال، بطل رواية ” الحب وأصول علم التربية “، يريد أن يكون رجل علم، رجلًا “يسير وفق الميكانيكا، يهضم وفق الكيمياء، ويخيط بدلته وفق الهندسة الإسقاطية”( أونامونو، 1902:ص 29). قصة كاراسكال هي قصة رجل كرس نفسه تمامًا للعلم، وحاول أن يجعله مرشده الوحيد، ولكنه فشل فشلاً ذريعًا، ودمر حياته وحياة ابنه، مما يعكس إلى حد ما رغبات الشاب أونامونو عندما كان يسعى لبناء نظام فلسفي جديد.”
وعلى هذا المنوال يؤكد الإيطالي روبرتو أرديغو أن أونامونو كتب: تجمع العلم الحقائق وتصنفها. العلم هو بمثابة لوحة شاملة أو تصنيف للحقائق (أرديغو). لذلك، فإن شخصية دون أفيتو، التي تتبنى هذه الأفكار تمامًا، تعكس شخصية أونامونو نفسه. وعندما يصرخ دون أفيتو قائلاً: “العلم وحده هو سيد الحياة”( أونامونو، 1902:ص 65)، لا يمكن لأونامونو أن يتوقف عن التشكيك، مضيفًا: “أليس الحياة هي سيدة العلم؟( 3)
تصل طموحات دون أفيتو كاراسكال إلى ذروتها حين يحاول هندسة عبقري، مستعينًا بعقلية علمية صارمة. يرى الزواج كمعادلة علمية، حيث يختار شريكته بعناية فائقة لتحقيق هدفه. لكن الحياة، كما يظهر في رواية أونامونو، لا تخضع لقوانين علمية صارمة. فبالرغم من كل حساباته الدقيقة، يقع أفيتو في شرك الحب، ويتزوج مارينا، مخالفًا بذلك نظرياته.، واستخدم أونامونو على لسان بطله كلمة ” المادة ” كأشارة للزوجة و”الهيئة” كأشارة للرجل حتى يعكس لنا أن الزواج هو عملية علمية بحته ” تُصبح مارينا ،المادة ، حاملًا مرة أخرى، مما يُثير دهشة أفيتو، الهيئة، الذي لم يتوقع هذا التعقيد””( أونامونو، 1902:ص 9). هذه المفاجأة تسلط الضوء على محدودية العلم في فهم التعقيدات الإنسانية، وتكشف عن الطبيعة العشوائية للحياة التي تتجاوز أي محاولة للسيطرة عليها. كما تكشف الرواية عن نظرة أفيتو الذكورية، حيث يركز على إنجاب ابن عبقري، متجاهلاً إمكانية أن تكون ابنته هي العبقرية.
أخيرا، إن النظر إلى الفن والحرفة على أنهما وجهان لعملة واحدة يساعدنا على تقدير قيمة كل منهما. فالفن يضفي على الحياة معنى وجمالًا، والحرفة توفر لنا الأشياء التي نحتاجها للعيش. وعندما ندرك هذا الترابط، نصبح أكثر قدرة على تقدير الإبداع في كل أشكال
المراجع
(1)NAZZARENO FIORASO (2007). “Un ejemplo de dialéctica entre Ciencia y Vida en Unamuno”, Dialnet.
(2) Lukács, G. Teoría de la novela. Barcelona: Edhasa, 1970.
(3) Ardigò, La psicologia come scienza positiva, in Ardigò, Opere filosofiche, vol. I.
NAZZARENO FIORASO (2007). “Un ejemplo de dialéctica entre Ciencia y Vida en Unamuno”, Dialnet.
(4) M. de Unamuno, Amor y Pedagogía, en M. de Unamuno, Obras Completas, edición de M. García Blanco, Escelicer, Madrid 1966-71, vol. I.