
تَتَبَلْوَرُ رُؤَى الشَّاعِرِ التُّونُسِيِّ مَحْمُود عَبْسِيّ فِي عَرْضِ جُزْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ الذَّاتِيَّةِ فِي مَجْمُوعَتِهِ الشِّعْرِيَّةِ، بَلْ وَتَظْهَرُ شَخْصِيَّتُهُ وَوَعْيُهُ الدَّاخِلِيُّ مِنْ خِلَالِ الْمَجْمُوعَةِ ذَاتِهَا، وَقَدِ اخْتَارَ مَحْمُود عَبْسِيّ عُنْوَانًا قَاسِيًا يَفْرِضُ خَشُونَةً فِي التَّعَامُلِ مَعَ الذَّاكِرَةِ وَوعُورَةً فِي الِاسْتِرْجَاعِ الذَّاكِرَاتِيِّ الذَّاتِيِّ. فَفِي حِينِ تَعُودُ بِهِ الذَّاكِرَةُ مِنْ خِلَالِ تَقْنِيَةِ الِاسْتِرْجَاعِ وَتَقْنِيَةِ السَّرْدِ الذَّاكِرَاتِيِّ، يَسْتَذْكِرُ عَبْسِيّ تَأْثِيرَ جَدِّهِ عَلَى بِنَاءِ الذَّاكِرَةِ؛ فَيَحْضُرُ الْجَدُّ وَكَأَنَّهُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَصِيدَةِ (جَدِّي آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ)، فَيَقُولُ:
“جَدِّي اتَّهَمَ الْجَمِيعَ بِأَنَّهُمْ دَفَنُوا حَبِيبَتَهُ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ
وَأَنَّهَا قَدْ زَارَتْهُ فِي الْمَنَامِ مُتَشَحَّةً بِالْبَيَاضِ”. ص: 9.
بَقِيَ الْعُنْوَانُ الْقَاسِي بِصُورَتِهِ الْوَحْشِيَّةِ الدَّمَوِيَّةِ، بِحَالَةِ الِامْتِنَاعِ اللَّاإِرَادِيِّ عَنِ الْقُدْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، بَقِيَ مُسَيْطِرًا عَلَى مَجْرَيَاتِ الْقَصِيدَةِ النَّثْرِيَّةِ لِمَحْمُود عَبْسِيّ، فَاسْتَخْدَمَ الْهَرَبَ بِتَقْنِيَةِ الْحُلُمِ السِّيكُولُوجِيِّ إِلَى أَلْفَاظِ الْبَيَاضِ وَالِاسْتِحْضَارِ الشَّخْصِيَّاتِيِّ؛ فَمِنْ عَادَةِ الْقَصِيدَةِ السِّيرَذَاتِيَّةِ أَنْ تَسْتَحْضِرَ الْأَحْدَاثَ الْمُؤَثِّرَةَ وَالشَّخْصِيَّاتِ الرَّئِيسَةَ فِي الدَّائِرَةِ الْأُولَى لِلشَّاعِرِ. وَنُلَاحِظُ كَيْفَ جَعَلَ الشَّاعِرُ مِنْ شَخْصِيَّةِ جَدِّهِ اسْتِحْضَارًا لِحَوَارَاتِ الْغَائِبِ الْمَيِّتِ فِي حَضْرِهِ الْحَيِّ، وَهِيَ حَوَارَاتٌ مُلْهَمَةٌ فِي تِلْكَ التَّقْنِيَةِ، حَيْثُ يَقُولُ فِي الْقَصِيدَةِ ذَاتِهَا فِي حَوَارٍ بين جدّه وجَدَّتِهِ الْمَيتَةِ، يقول فيه :
“قَالَتْ لَهُ جِئْتُ لِأَحْمِلَ مَعِي شَطْرَ الْقَرْيَةِ
جِئْتُ لِأَطِلَّ عَلَيْكَ كَيْفَ تَقْضِي يَوْمَكَ
كَيْفَ؟ كَيْفَ؟ كَيْفَ؟”. ص: 10.
لَقَدْ ذَكَرَ الشّاعرُ جَدَّهُ فِي مَجَالَاتٍ كَثِيرَةٍ فَهُوَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ الْعَاشِقُ، وَهُوَ الْمُحَارِبُ، وَهُوَ الَّذِي :
“تَحْتَ إِبْطِهِ خَرِيطَةُ وَطَنٍ كَسِيحٍ
يَمْشِي عَلَى جَمْرِ الطَّائِفِيَّةِ وَالْقَبَلِيَّةِ
وَالْعَشَائِرِيَّةِ وَالْجَاهِلِيَّةِ”. ص: 12.
وتَبْقَى شَخْصِيَّةُ الجَدِّ فِي عَدَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ مِنَ الصَّفَحَاتِ هِيَ الشَّخْصِيَّةُ السُّلْطَوِيَّةُ عَلَى ذَاتِ الشَّاعِرِ، وَهِيَ المُلَاصِقَةُ لِذَاكِرَةِ الطِّفْلِ الأُولَى، حَيْثُ بَدَتْ مَشْهَدِيَّةُ الجَدِّ وَصِفَاتُهُ وَحَدِيثُهُ وَأَعْمَالُهُ، وَهَذَا التَّوْزِيعُ فِي عَدَدِ الصَّفَحَاتِ لَمْ يَأْتِ مِنْ فَرَاغٍ، بَلْ جَاءَ لِيُؤَكِّدَ حُضُورَ الجَدِّ الذَّاكِرَاتِيِّ، وَسُلْطَتَهُ فِي ذَاكِرَةِ القَصِيدَةِ السِّيرِ الذَّاتِيَّةِ، كَمَا يَجْعَلُ مِنْ شَخْصِيَّةِ جَدِّهِ تَعْبِيرًا عَنْ مُفَارَقَاتِ الْقَسْوَةِ فِي نِقَاطِ اللَّاوَعْيِ الذَّاتِيِّ، حَيْثُ يَقُول:
” جدي طَبَّاخٌ
دَلَقَ دُمُوعَهُ فِي قِدْرِ فَخَّارٍ
بَعْدَ أَنْ رَمَى أَصَابِعَهُ مَعَ شَرَائِحِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْعَدَسِ
رَشَّ بِهَارَاتِ عُمْرِهِ الْكَلْبِ
وَبِلِسَانِهِ الْأَحْمَرِ تَذَوَّقَ مَرَارَةَ الْحَيَاةِ وَنَامَ”. ص: 14.
وَيَبْدُو أَنَّ الْجَدَّ دَالٌّ لفظيّ تكراريّ دَاخِلِيٌّ بِطَبِيعَةِ تَكْوِينِهِ، وَسِيمِيَائِيَّتِهِ الْحُضُورِيَّةِ داخل التَّكْوِينِ السَّرْدِيِّ لِذَاتِ الشَّاعِرِ، حَيْثُ كَانَ يَتَحَدَّثُ مِنْ خِلَالِهِ عَنْ حُزْنٍ وَرِثَهُ، وَعَنْ بُؤْرَةِ الْخَيْبَةِ الَّتِي رَافَقَتْهُ، وَهَا هُوَ الْجَدُّ يَرْتَبِطُ بِتَكْرَارِ حُضُورِهِ بِالتَّمْثِيلِ الصُّورِيِّ الْمَشْهَدِيِّ وَالتَّشْكِيلِيِّ وَالْإِيقَاعِ الدَّاخِلِيِّ الْمُبَعْثَرِ، الذي يشبه ذاته الداخلية، حيث يقول:
جَدِّي نَجَّارٌ أَكْثَر مَا يُصْقِلُهُ هَذِهِ الْأَيَّامَ
التَّوَابِيت بِشَتَّى أَحْجَامِهَا
…..
صَنَعَ وَاحِدًا لِلْعَالَمِ مِنْ نُخَاعِهِ الشَّوْكِيِّ. ص: 17
ويضيف في القصيدة ذاتهَا :
” جَدِّي خَبَّاز
عَجَنَ قَلْبَهُ رَغِيفًا قَرَوِيًّا
وَوَزَّعَهُ قِطعَةً قِطعَةً عَلَى الْحَزَانَى”. ص: 17
وَيُضِيف الشّاعرُ مُؤَكِّدَا تمَحْوِر ذَاتِيَّتهُ حَوْلَ إِرْث الذَّاكِرَة الْمَلِيئة بِحُضُور الْجِدّ المُضحِّي المتألِّم، لقد حَاوَل الشَّاعِر صِيَاغَة تَجْرِبَته الذَّاتِيَّة مِنْ خِلَالَ حَديثه عَنْ تَضْحِيَة جِدّه، وَجَوَانِب الضَّيِّق وَالْاِتِّسَاع فِي حَيَاته، الَّتِي أَثرت وَبِكُلّ تَأْكِيد عَلَى ضَيِّق وَاِتِّسَاع الْاِسْتِرْجَاع، حيث يقولُ:
” جَدِّي بِدَمِهِ الْمَلِيءِ بِالْمَعَادِنِ سَقَى هَذِهِ الْأَرْضَ الْخَضْرَاءَ الَّتِي تَرَوْنَهَا
حَتَّى أَرِثَ مِنْهُ حَقْلًا
لَا ضَغْطَ دَمٍ أَوْ وَرَمًا وَرَاثِيًّا
حَتَّى أَرِثَ مِنْهُ جُرْحًا غَائِرًا
يَضِيقُ
يَتَّسِعُ
يتعفّن” ص:18
ثُمَّ يُتَابِعُ الشَّاعِرُ السَّرْدِيَّةَ الِاسْتِرْجَاعِيَّةَ الطُّفُولِيَّةَ بِاسْتِحْضَارِ أَدَوَاتِ الِاسْتِرْجَاعِ الذَّاكِرَاتِيِّ، وَمِنْهَا تِلْكَ الْأَدَوَاتُ الْجَمَادِيَّةُ الَّتِي تَتَمَحْوَرُ حَوْلَ طُفُولَتِهِ مَعَ جَدِّهِ، لَكِنَّهَا تُعْطِي دَلَالَاتِ الطُّفُولَةِ الْغَامِضَةِ الثَّائِرَةِ الثَّابِتَةِ الْمُتَزَعْزِعَةِ الْمُتَنَاقِضَةِ، كَمَا يَذْكُرُ أَدَوَاتُ الْحُضُورِ الذَّاكِرَاتِيِّ وَأَوَّلُهَا الْعَكَّازُ، حيث يقولُ:
” وَرِثْتُ عَنْهُ عَكَّازَهُ الْخَشَبِيَّ
هَا أَنَا ذَا أَهْشُّ بِهِ عَلَى الْوَقْتِ
لَكِنِّي
تَذَكَّرْتُ أَنَّ الزَّمَنَ تَوَقَّفَ مَعَ جَدِّي”
ص: 26
ويعدّد من تلك الأدوات :عُلْبَة النَّفْة،الْقُبَّعَة، الْمِذْيَاع، والْبِيَانُو، ففي قصيدة القبعة يقول:
” وَحْدَهَا مَصَابِيحُ الشَّارِعِ
كَانَتْ كُلَّمَا نَطَقَ الظَّلَامُ اسْمَهُ
رَفَعَتْ لَهُ الْقُبَّعَة”
ص: 29
ويضيف في قصيدة الْمِذْيَاع على لسان جدِّه:
” الْمِذْيَاعُ هَذَا الْمِذْيَاعُ الَّذِي تَرَاهُ يَا بُنَيَّ
قَلْبِي الَّذِي يَهْذِي منْ حمَّى الْعَالَمِ
قَلْبِي الَّذِي سَيَخْرَسُ يَوْمًا ما إِلَى الْأَبَدِ
وَسَوْفَ تَحِنُّ إِلَى خَشَخَشَاتِه”
ص: 34
ووجَدْتُ أَنَّ الشَّاعِرَ يَضَعُ طَاقَتَهُ السَّرْدِيَّةَ وَالشُّعُورِيَّةَ السُّلْطَوِيَّةَ عَلَى شَخْصِيَّةِ جَدِّهِ؛ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ تَأْثِيرَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ كَثِيرًا سِوَى بِبَعْضِ الْجَوَانِبِ، أو من خلال تداخل السرد الذاتي مع فن اليوميات، حيث يقول في قصيدة ( امْرَأَةٌ ) :
” أُمِّي لَا تُجِيدُ الْقِرَاءَةَ
لَكِنَّهَا تُجِيدُ فَكَّ طِلْسِمِ وَجْهِي
بِمَهَارَةٍ عَالِيَة” ص: 99
وَرُبَّمَا كَانَتِ الْأُمُّ بَوَّابَةً لِلتَّخْيِيلِ السَّرْدِيِّ، وَفَتْحًا لِبَوَّابَاتِ الْحِوَارِيَّةِ التَّمْثِيلِيَّةِ لِلذَّاتِ السَّارِدَةِ وَأَوْجَاعِهَا، وَمِنْ بَابِ تَخْفِيفِ الْعِبْءِ السِّيرَذَاتِيِّ، حَيْثُ يَقُولُ:
قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ وَقْعَ الدُّمُوعِ شَظَايَا زُجَاجٍ
فَأَمْسَحُ وَجْهِي بِكُمِّ قَمِيصِي
أَقُولُ نَامِي بِسَلَامٍ يَا أُمِّي
طِفْلُكِ صَارَ شَاعِرًا بِحَجْمِ قَبْرٍ
لَكِنَّ شَخْصِيَّةَ الْجَدِّ كَانَتْ بِمَثَابَةِ كَثَافَةٍ حُضُورِيَّةٍ سَرْدِيَّةٍ، وَكَأَنَّ مَرْحَلَةَ الِاسْتِرْجَاعِ تَرْتَبِطُ فَقَطْ حَوْلَ حُضُورِ الْجَدِّ أَوْ غِيَابِهِ، لَقَدْ شَكَّلَ هَذَا التَّبَايُنُ الْحُضُورِيَّ إِشْكَالِيَّةً فِي تَوْزِيعِ الدَّلَالَاتِ وَحُضُورِهَا، بَلْ وَخَلَقَ فَوْضَى فِي التَّمْهِيدِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى سُلْطَةٍ سَرْدِيَّةٍ أُخْرَى مِنْ مِثْلِ الْجَدَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ حُضُورُهَا سِوَى حُضُورٍ سَرْدِيٍّ هَامِشِيٍّ لِلتَّخْفِيفِ مِنْ سُلْطَةِ الْجَدِّ الْحُضُورِيَّةِ السَّرْدِيَّةِ، كَانَتْ لَازِمَةً لِإِكْمَالِ الْحَبْكَةِ الِاسْتِرْجَاعِيَّةِ وَالنِّسَقِ الذَّاكِرَاتِيِّ، لَكِنَّ هَذَا الْحُضُورَ كَانَ تَفْصِيلًا لِيَوْمِيَّاتِ الشَّاعِرِ وظهورًا للدّفقاتِ العاطفيةِ في مُفرداته، فَفِي قَصِيدَةِ الْمَلِكَاتِ يَقُولُ:
” الْمَلِكَاتُ
اللَّاتِي يَكْحِلْنَ رُمُوشَهُنَّ بِعَلْكَةٍ وَعُودِ كِبْرِيتٍ وَمِلْعَقة”
ص: 37
صُورَةٌ مُفَارَقِيَّةٌ عَجَائِبِيَّةٌ، صَنَعَهَا حُضُورُ الْجَدَّةِ الِاسْتِرْجَاعِيُّ، تِلْكَ الْمَلِكَةُ فِي مَكَانَتِهَا تَتَكَحَّلُ بِالْمَعَانَاةِ وَقَسْوَةِ الْعَيْشِ، حَيْثُ اسْتَحْضَرَ الشَّاعِرُ أَقْسَى الْأَلْفَاظِ وَعُورَةً وَانْدِمَاجًا مَعَ قَسْوَةِ الِاسْتِرْجَاعِ وَذَاكِرَةِ الْحُزْنِ وَالْمَعَانَاةِ، جَعَلَ الشَّاعِرُ مِنَ الْمَشْهَدِيَّةِ الْمُفَارَقِيَّةِ انْعِكَاسًا لِتَهَشُّمِ الصُّورَةِ الِاسْتِرْجَاعِيَّةِ فِي الطُّفُولَةِ، وَفِي أَحْيَانٍ أُخْرَى كَانَ حُضُورُ الْجَدَّةِ الِاسْتِرْجَاعِيُّ بِمَثَابَةِ الْحُضُورِ الزَّمَانِيِّ، الْمُرْتَبِطُ هُوَ الْآخَرُ بِسِيكُولُوجِيَّةِ الطِّفْلِ الْحَزِينَةِ وَوَعْيِهِ الذَّاكِرَاتِيِّ الْمُرْتَبِطِ بِالْحُزْنِ وَالْفَقْدِ، فَفِي قَصِيدَةِ (دِيسَمْبِرَ الْحَزِينِ) يَقُولُ بعد وفاة جدّتهِ:
” لَا أَعْرِفُ مَنْ أَخَذَ دَوْرَ طَبِيبِ الْأَسْنَانِ
وَسَرَقَ سِنَّهَا الذَّهَبِيَّةَ الْوَحِيدَةَ
الَّتِي كَانَتْ تَعَضُّ بِهَا خُبْزًا يَابِسًا” ص: 41
وَيَضِيفُ فِي قَصِيدَةِ ( إِصْبَعٌ فِي رَمَادٍ ) ، صُورَةً مَشْهَدِيَّةً قَاسِيَةً، تُبَيِّنُ الحُضُورَ الحَيَّ المُسْتَمِرَّ، بِتِقْنِيَةِ حُضُورٍ سِينِمَائِيَّةٍ، وَهِيَ بِتَحْرِيكِ الرَّمَادِ وَإِعَادَةِ إِشْعَالِ النَّارِ، هَذِهِ النَّارُ رَمْزِيَّةُ البَقَاءِ وَالصُّمُودِ وَعُنْقَائِيَّةُ الصَّبْرِ وَتَجَلِّيَاتُ الشَّخْصِيَّةِ الصَّلْبَةِ، حَيْثُ يَقُولُ:
” كُلَّمَا كَانَتْ النَّارُ تَبْرُدُ
تَخْفِتُ قَلِيلًا
حَرَّكَتْ جَدَّتِي بِإِصْبَعِهَا الرَّمَادَ”
ص: 41
وَكَانَ مِنْ تَمَظْهُرَاتِ السِّيرَةِ الذَّاتِيَّةِ ذَلِكَ الْحُضُورُ الْمَكَانِيُّ الْمِرْآوِيُّ الدِّلالِيُّ، انْعِكَاسٌ مِنْ ذَاتِيَّتِهِ الِاسْتِرْجَاعِيَّةِ الْمَشْهَدِيَّةِ عَلَى مُجْرَيَاتِ السِّيَاسَةِ الْحَالِيَّةِ وَالِامْتِدَادِ الْإِقْلِيمِيِّ الْعَرَبِيِّ وَحَقِيقَةِ الْوَحْدَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْهَشَّةِ، حَيْثُ يَقُولُ فِي قَصِيدَةِ ( الْحَوْشِ الْعَرَبِي ) :
” نَتَبَارَزُ بِالسُّيُوفِ الخَشَبِيّة ” ص : 38
حَيْثُ جَعَلَ الشَّاعِرُ مَشْهَدِيَّة الْقِتَالِ في الحوْش العربيّ اِنْعِكَاسًا رَمْزيا تَخْيِيليا لَكِنَّهُ اِسْتِرْجَاعٌ سَرْدِيٌ حَقِيقِيٌ، وَهُنَا تَكْمُنُ الْمَهَارَةُ فِي إِحْدَاثِ تَوَازُنِ بَيْنَ التَّخْيِيلِيِّ وَالْوَاقِعِيِّ. وقَدْ جَعَلَ الشَّاعِرُ مِنَ الْبُؤْرَةِ الْمَكَانِيَّةِ الْمَحْصُورَةِ بِلَفْظِهَا وَالْمُمْتَدَّةِ بِدَلَالَتِهَا أُفُقًا دَلَاليا وَقَفْزَة زَمَانِيَّة سَرْدِيَّة مُفَاجِئَة، حَيْثُ يَخْنُقُ هَذَا الْمَكَانِ سَاكِنِيِّهِ وَهَذَا الْخَنْقِ الدَّلَالِيِّ جَعَلَ الشَّاعِرُ مُضْطَرًّا إِلَى الْمُغَادِرَةِ الشُّعُورِيَّةِ الزَّمَنِيَّةِ إِلَى المَرَحلةِ العُمريّة التي وصلها الآن بقفزة زمنية متسارعة ، حَيْثُ يَقُولُ:
” الْحَوْشُ الْعَرَبِيُّ أَمْسَى صَالَةً عَصْرِيَّةً
فِيهَا اخْتَنَقَتْ الطُّفُولَةُ
وَكَبُرْنَا سَرِيعًا كَبُرْنَا
فِي رَفْهِ رَمْشٍ وَاشْتِعَالِ كَوْمِ قَشٍّ جَافٍّ” ص: 39
أَمَّا عَنْ الصُّورَةِ الْحِوَارِيَّةِ الْمَرْآوِيَّةِ، فَقَدْ كَانَتْ فِي حِوَارَاتٍ عِدَّةٍ أَجْرَاهَا الشَّاعِرُ مَعَ أَصْدِقَائِهِ أَوْ مَعَ الْمُحِيطِينَ بِهِ، تِلْكَ التَّجْرِبَةُ الذَّاتِيَّةُ الِانْعِكَاسِيَّةُ، الَّتِي تُبَلْوِرُ حَقِيقَةَ الْوَطَنِ الْخَانِقِ الْقَاتِلِ لِطُمُوحَاتِ أَبْنَائِهِ، فَهُوَ يُقول في الفصل ( صَفْعَةُ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهِ حَيَاتِي ) :
” نَحْنُ نَعِيشُ فِي مَسْلَخٍ وَطَنِيٍّ يَا صَاحِبِي
انْفدْ بِجِلْدِكَ
كَيْ لَا تَصْبَحَ ثَوْبًا لِلْيَوْمِيِّ وَنَعْلًا لِكُلِّ قَدَمٍ” ص: 56
وله حِوَارٌ تخييلي مع قاتله العسكريّ، مشيرًا بصورة غير مباشرة إلى الحروب الأهلية الطاحنة، فهو يقول فِي قَصِيدَةِ ( خَيْبَةٍ ) :
” فَمِنْ أَجْلِ مَاذَا تَسْفِكُ دَمِي؟
وَتَأْكُلُ لَحْمِي نِيئًا وَمَسْلُوقًا وَمَشْوِيًا
مِنْ أَجْلِ مَاذَا؟
هَلْ مِنْ أَجْلِ بَضْعَةِ نَجْمَاتٍ عَلَى أَكْتَافِكَ؟” ص:57
وله حوار تخييلي آخر في قَصِيدَةِ ( ضَيْفٍ )، وفيها يتحاور مع الموت، حيث يقول فيها :
” قُلْ لِي مَاذَا تَأْكُلُ؟
حُلْمًا طَازَجًا
فَرَحًا سَمِينًا
دَهْشَةً مَحْشُوَّةً بِالْمَجَازِ”ص:76
جَعَلَ الشَّاعِرُ مِنْ حَوَارِيَّاتِهِ السَّرْدِيَّةِ فِي تَجْرِبَتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَسِيلَةً تَخْيِيلِيَّةً مُفَارَقِيَّةً عَجَائِبِيَّةً، أُسْلُوبِيَّةً تَنْدَمِجُ بِانْزِيَاحَاتِهَا مَعَ طَبِيعَةِ المَوْتِ المَجَّانِيِّ وَالرَّخِيصِ فِي زَمَنِ الشَّاعِرِ الآَنِيِّ، جُمَلٌ تَحْمِلُ مِرْآةً أُسْلُوبِيَّةً لِتُزِيدَ بِرَمْزِيَّتِهَا قَتَامَةَ المَشْهَدِ الدِّرَامِيِّ المُؤْسِفِ، وَقَدْ ضَاعَفَ ذَلِكَ مِنْ تَرَدُّدَاتِ الحَيْرَةِ فِي ذَاتِ الشَّاعِرِ.
أَمَّا عَنْ حُضُورِ الْأَنْوِيَةِ الضَّمَائِرِيَّةِ فَقَدِ اتَّضَحَتْ بِقَصِيدَةِ الْوَحْيِ، هَذَا الضَّمِيرُ الْأَنْوِيُّ الْمُحْتَشِدُ بِتَكْرَارَاتِهِ تَأْكِيدٌ عَلَى ضَعْفِ الْأَنَا بِصُورَةٍ مُغَايِرَةٍ وَصَادِمَةٍ، فَالْكَثَافَةُ التَّكْرَارِيَّةُ لِلْأَنَا لَمْ تَكُنْ سِوَى مَجَالَاتٍ وَتَرَدُّدَاتٍ صَوْتِيَّةٍ مُونُولُوجِيَّةٍ وَتَدَاعِيَاتٍ حِوَارِيَّةٍ تَبُثُّ شَكْوَى الشَّاعِرِ الْمُتَكَرِّرَةِ مِنْ طَبِيعَةِ حَيَاتِهِ وَقَسْوَتِهَا، حَيْثُ يَقُولُ:
” أَنَا رَجُلٌ نَاهَزَ الْأَرْبَعِينَ خريفا ونزيفا
في كفالتي عائلة برمتها يا الله” ص: 60
ويضيف في موضع آخر:
” أَنَا رَجُلٌ فِي الْأَرْبَعِينِ
يَقُولُونَ إِنَّهُ سِنُّ الْمَعْجِزَاتِ
سِنُّ التَّجْرِبَةِ وَالنُّضْجِ وَالِامْتِلَاءِ يَا اللَّهُ
إِذَا هَرَبْتُ مِنْ فَاتُورَةِ الْمَاءِ تَلْحَقُنِي فَاتُورَةُ الْكَهْرَبَاءِ” ص: 62
أَمَّا فِي (مُحَاكَمَةُ رَجُلٍ مَيِّتٍ) فَإِنَّ الأَنَا تَغِيبُ ظَاهِرِيًّا بِقِنَاعٍ ضَمِيرِيٍّ سَرْدِيٍّ بِاسْتِخْدَامِ ضَمِيرِ الغَائِبِ، حَيْثُ يَقُولُ:
” رَجُلٌ فَارَقَ الْحَيَاة
مَا زَالَتِ الْأَحْكَامُ تُصْدَرُ بِشَأْنِهِ
حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالْمُؤَبَّدِ
رَغْمَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ
بِجُرْثُومَةٍ فِي الدَّمِ” ص: 65
ويضيف:
” سَيُخْرِجُونَهُ مِنَ الْقَبْرِ لِيُحَقِّقُوا مَعَهُ
وَقَدْ يَبَاعُ رِفَاتُهُ فِي الْمَزَادِ الْعَلَنِيِّ
مَنْ سَيَشْتَرِي مَيْتًا وَمَدِينًا؟” ص: 66
اسْتَخْدَمَ الشَّاعِرُ كَذَلِكَ أُسْلُوبَ السَّرْدِ الذَّاتِيِّ الْمُقْنِعِ أَوِ الْقِنَاعِ السَّرْدِيِّ بِاسْتِخْدَامِ شَخْصِيَّاتٍ عِدَّةٍ كَانَتْ تَمْثِيلًا لِذَاتِهِ الدَّاخِلِيَّةِ وَطُمُوحَاتِهِ الْفَرْدِيَّةِ، تُمَثِّلُ تِلْكَ الْأَقْنِعَةُ حَجْمَ مُعَانَاتِهِ وَتَدَاعِيَاتِهِ الْحُرَّةِ، فَهَا هُوَ يَتَقَنَّعُ بِقِنَاعِ بَائِعِ الْإِسْمَنْتِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَيَقُولُ فِي قَصِيدَةِ ( بَائِعُ الْإِسْمَنْت )
” بَعْدَ الْوَفَاةِ
” كَانَتِ الْجُدْرَانُ تَسْقُطُ الْآجُرَّ
وَهِيَ تَهْذِي: رَحَلَ أَبِي
الَّذِي صَنَعَنِي فِي قَوَالِبَ
لِأَخْبِئَ النَّاسَ مِنْ مَخَالِبِ الصَّقِيعِ
وَأَنْيَابِ الشَّمْسِ” ص:103_104
وَفِي فَضَاءٍ بَصَرِيٍّ آخَرَ، وَمِنْ خِلَالِ قِنَاعِيَّةٍ سَرْدِيَّةٍ، أَضَافَ الشَّاعِرُ صُورَةً لِتَدَلِّي الأَحْلَامِ وَسُقُوطِهَا مِنْ خِلَالِ التَّدَرُّجِ الحَرْفِيِّ المُتَقَطِّعِ، وَبِامْتِزَاجِيَّةٍ احْتِرَافِيَّةٍ، فَهُوَ يَقُولُ فِي قَصِيدَةِ ( الإِسْكَافِي ) :
” هَا هُوَ الْإِسْكَافِيُّ يَنْهَضُ مِنْ مَكَانِهِ
سَاحِبًا مِنْ فَمِهِ أَحْلَامَهُ الْمَثْقُوبَةَ وَهِيَ
تَ
تَ
د
لَّى
فِي الْقَاعِ ” ص: 117
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ تَنَوُّعِ الأَقْنِعَةِ الضَّمَائِرِيَّةِ، وَغِيَابِ الأَنَا السَّرْدِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ، إِلَّا أَنَّنِي وَجَدْتُ فِي قَصِيدَةِ (هُوَ ذَا اسْمِي) السَّبَبَ الحَقِيقِيَّ لِهَذَا التَّشَتُّتِ وَالضِّيَاعِ، حَيْثُ يَقُولُ:
” لمْ يَجِدْ لِي أَبِي اسْمًا
فَكَانَ يُنَادِينِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِاسْمٍ غَرِيبٍ
أَيْنَ أَنْتَ يَا وَحْشُ؟
تَعَالَ يَا ذِئْبُ، اذْهَبْ يَا غَزَالُ
عُدْ يَا حَمَامُ، حَلِّقْ يَا نَسْرُ
تَكَلَّمْ يَا حَجَرُ، انْظُرْ يَا مِرْآةُ، اُسْكُتْ يَا مِذْيَاعُ
تَكَلَّمْ يَا جِدَارُ، هَيَّا يَا بَطَلُ
حَمَلْتُ أَسْمَاءً مُتَعَدِّدَةً وَخَطَايَا غَيْرِي” ص: 105
وَمِنْ هُنَا فَقَدْ ظَهَرَتْ بَعْضُ مَلَامِحِ السِّيرَةِ الذَّاتِيَّةِ في مشرَطٍ تحت اللِّسان لِمَحْمُودِ عَبْسِيّ؛ فَقَدِ اسْتَخْدَمَ السَّرْدَ الِاسْتِرْجَاعِيَّ لِلطُّفُولَةِ، وَذَكَرَ السُّلْطَةَ الحَضُورِيَّةَ لِشَخْصِيَّاتٍ يَوْمِيَّةٍ، وَقَدْ تَدَاخَلَتْ فَنِّيَّاتُ قَصَائِدِهِ مَعَ الِاعْتِرَافَاتِ وَاليَوْمِيَّاتِ وَالسَّرْدِ الذَّاتِيِّ، وَفِيهَا اسْتَخْدَمَ الأَنَا وَالأَقْنِعَةَ السَّرْدِيَّةَ، بل وعبّر عن ضياع الأنا وضياع الحلم وتشتت المرآة الذاتية مع قسوة الواقع الذي فشل بتجمييله من خلال التخييل السرديّ، كما عَبَّرَ عَنِ البُؤْرَةِ الزَّمَكَانِيَّةِ بِأُسْلُوبٍ سَرْدِيٍّ لَافِتٍ.