
نظرُوا في أنفسهم، فلم يجدوا إلاّ فيها، شفاءً لشقاءِ أنفسهم.
لم تكن الشجرةَ الوحيدةَ في القريةِ. لكنّها كانت الأكبر والأعلَى بين كلّ الأشجار. كانت مُنتصبةً ضخمةً، على ربوة عالية، تُطلّ على كلّ الأكواخ والبيوت المُنتشرة في السّهول المحيطة بها. وكانت، على خلاف بقيّة الأشجار، دائمة الاخضرارِ ولا تُعطي ثمارًا ولا تزورُها الطّيورُ والحشرات مُطلقًا.
غير أنّها لم تكن بلا فائدةٍ. فقد اعتاد سُكّان القرى المحيطة، الذين يطلقون عليها أسماء كثيرةً، منها المباركة والعالية والحضن، استشارتها في أمُور حياتهم ومشاغل أيّامهم ويطلبون مُساعدتها على تحقيق أحلامهم، من خلال نُذُر تحملُ رموزًا لا يفهمُها، إلاّ الكتبةُ المُبحرُون في علوم الطّلاسم والنّجوم.
هكذا، كانوا يُعلّقون على أغصانها تمائمَ وأحرازًا تحملُ أمنياتهم وتنقلُ هواجسَهم وأحلامَهم. وكانت الشّجرةُ الشاهقةُ تحمل تلك التمائمَ، صابرةً عليها وعلى أصحابها. ومرّت الحياة على تلك الحال، لا ييأس النّاسُ من كرمها عليهم، ولا تشتكي هي من تراكُم أحلامهم وثقلِ هُمومهم عليها.
وذات فجر، اكتست فيه القُرى بضباب كثيف، خرج طفلٌ ضامرٌ من كوخ بسيط على أطراف القرية مُتوجّها نحو الشّجرة. وحين وقف أمام جذعها العظيم بدا هيّنًا كئيبًا. تسلّق أغصانها الطّويلة المُتشابكة بصعوبة، وغاب بين أوراقها الكثيفة. لم تكن الشّجرة الضّخمة غافلة عنه، فقد أحسّت بقبضته الصّغيرة القويّة المُمسكة بأغصانها، وبأنفاسِهِ المُتسارعة تلفحُ أوراقهَا المُغتسلةَ بالنّدى.
ولمّا بدا للطّفل أنّهُ قد اقترب أخيرًا من قلبها، وشوشَ في صدرها كلامًا كثيرًا. تكلّم بحرقة، فظهر عليه الحزنُ والتّوتّرُ. أخفض رأسه مرّاتٍ، وحرّك يديه مُفسّرا، وفتح عينيه، كأنّما ينظر في جوفها. ولمّا أنهى مُحاورته لها قال:
– هذا طلبي. وتلك هي أُمنيتي الأخيرة.
نزل الصبيُّ خفيفًا، كأنّما تخلّص من أحمالٍ ثقيلةٍ، وعاد إلى كوخه، قبل طُلوع الشّمس على القُرى النّاعسة. وأمّا الشّجرةُ فقد أحسّت بضيقٍ كبيرٍ، وألمّت بها حالٌ امتزج فيها الحزنُ بالأسَى. وبعد أيّام، أصابها اكتئابٌ أورثها قُنوطًا جعل أوراقَها الكبيرةَ الخضراءَ ترتجفُ، ثمّ تذبل وتصفرُّ، حتّى أدركها اليُبسُ، فبدأت في التّساقط.
انشغل أهلُ القُرى بأمر الشّجرة العظيمة العالية. تجمّع الكبارُ والصّغارُ حولها. تلمّسُوا أوراقها الصّفراءَ اليابسةَ، نظرُوا في جذعها وأغصانها. سألوا الأكابرَ من ذوي الرأي والبصيرة عن أمرها، لكنّهم لم يظفروا بجواب. وأمّا الصبيّ، فكان ينظر من بعيد، إليها وإلى المتحلّقين حولها، مُمسكًا بورقة من أوراقها الصّفراء التي شتّتها الريحُ، مُطرقًا في سكون.
طال حزنُ الشّجرة وتواصل تساقطُ أوراقها الكبيرة الذّاوية، التي بعثرتها الرياحُ، حتى أدركت النّهرَ وأطرافَ القُرى وغطّت السّهولَ والرُّبى. وحين تعرّت العاليةُ من أوراقُها تمامًا، انكشفت التمائمُ الكثيرةُ المُعلّقةُ على الأغصان المُتفرّعة الجرداء. ولمّا اجتمع الأهالي تحتها، تعجّبوا من كثرة التّمائم والأحراز التي علّقوها هم وأسلافُهم على أغصانها، طيلة أجيال لا تُعدُّ.
لكن، مع تتالي الأيّام، انشغل أهالي القُرى عن أمر الشّجرة بأمر أحلامهم المُعلّقة في العراء، تهبّ عليها الرّيحُ وتهطلُ الأمطارُ. وحين يطولُ تخمينهم في أمرها، دون أن يجدوا حلاّ يرتاحون إليه، يعودون إلى أكواخهم حَيارى مَحزُونين. وفي الليل، ينظرون من نوافذ بيوتهم، أو من على عتبات أكواخهم، إلى أحلامهم المُعلّقة على الأغصان، تتأرجحُ في الرّيح، تحت ضوء القمر الكابي، مثل خفافيش تتدلّى من أرجلها، فيثُير ذلك المشهدُ فيهم مشاعرَ مُوجعةً غامضةً.
أحسّ كثيرون بخجلٍ غريبٍ من أحلامهم وأمنياتهم المكشوفة في العراءِ. ربّما خافوا انكشافها للآخرين. أو ربّما لم يرغبوا في رؤية عوراتهم تنكشفُ أمامهم وتذكّرهم بحقيقة طالما سترتها أوراقُ الشّجرة العالية عنهم وعن الآخرين. وهكذا قرّروا أن يتخلّصوا منها، أن يسترجعوها، وأن يُقبروا أمنياتهم وأحلامهم المُرجأة، في أنفسهم من جديد.
أخذ بعضهم عصيّا وأسقط تمائمَهُ وتعاويذَ أسلافهِ. وصعد البعضُ الآخرُ إلى الشّجرة وانتزع أحرازَه وتمائمَ أهله. ثمّ آخرونَ وآخرونَ. ومع تتالِي الأيّام لاحظ النّاسُ أنّ التّمائمَ قد قلّت كثيرا، ثمّ اختفت جميعُها، وبقيت الشّجرةُ العظيمةُ عاطلةً تمامًا، من التّمائمِ والأحرازِ والأوراقِ.
هكذا، وبعد أن جُرّدت الشجرةُ من أحلامهم التي أودعوها بها منذ البدء، انشغلوا عنها، في أعمالهم وعادُوا إلى حقولهم. ثمّ، ومع تتالي الأيّام، تناسُوا أمرها وتخلّوا عن عادة التحديق فيها والتطلّع إليها، قبل النوم وبعد الصّحو، حتّى كأنّها ماتت أو غابت. فقد عادت الأحلامُ والأماني والمخاوفُ التي كانت مُعلّقة بين الأغصان، مُتخفية بين الأوراق الكثيفة، تملأ رُؤوسَهم وأسرّتهم وأكواخَهم، من جديد.
وكان الصبيُّ صامتا، لكنّ عقله يضجُّ بالأفكار والهواجسِ. كان يُفكّر في أمّه غالبا، في غيابها المُرّ، في وجعِ الفقد المُبكر للحُبّ، في كوخه الذي سكنته الوحشةُ والأحزانُ. لكنّه كان يفكّرُ في الشّجرة العالية أيضا. في زيارته لها، في كلامه معها، في قسوته عليها، وتهوّره معها. ومع تواتُر الأيّام لم يعد يذكر أمّه إلاّ تذكّر الشّجرةَ، ولا يرى الشّجرة دون أن يستحضر صُورة أمّه وذكراها.
أحسّ سُكّان القُرى بالارتياح أيّامًا عديدةً، بعد أن استعادوا تمائمهم، ثمّ جدّت حالات وأحداث لم تطرأ عليهم قبل ذك. ألمّ بأغلبهم ضجرٌ مُمضٌّ مصحوبًا بمشاعر غريبةٍ مُوجعةٍ. مشاعر تقضّ مضاجعهم، تُؤرقهم، وتجعلُ من أحلامهم كوابيسَ مرعبةً. اصفرّت الوجوهُ وسهمت النظراتُ وثقلت الخُطى، ولا أحد يفهم ما أصابهم من فُتور واختناق ووهن، كلّما أرادُوا أكلاً أو نومًا أو عملاً، حتى مات فيهم الشّغفُ وامّحت الرّغباتُ.
استفحل الأمرُ بعد أسابيع قليلة. فقد ظهر طفحٌ جلديٌّ ينزُّ صديدًا على وجوه البعض وعلى أجسادهم. وهام بعضُهم على وجهِهِ بلا وجهةٍ، وكلّم آخرُ خيالاتٍ في الغيبِ، فضحك وبكى وسُرّ واغتمّ، في ساعة، وأصبح كلٌّ في حالٍ، حتّى تنافُروا وتخاصمُوا، وصارت حياة النّاس في القُرى جحيمًا مُرعبًا، لا سلوى فيه ولا رجاء. وأمّا الطّفلُ فكان يراقبُ بؤسَ النّاس وصمتَ الشّجرة مُطرقًا حزينًا، مُمسكًا بالورقة الصّفراء، مُسترجعًا زيارته للشجرة وكلامه معها حين قال:
– لقد ماتت أمّي أيّتها الشّجرةُ الكبيرةُ العاليةُ. ماتت دون أن تُحقّقي أحلامها التي بقيت مُعلّقة بأغصانك. ماتت وهي لا تحمل من عالم النّاس، إلاّ أحلامًا مُرجأة تحوّلت مع الأيّام إلى غُصص مُوجعةٍ. فقد كانت مع كلّ ألمٍ يُلمّ تُوقدُ حُلمًا، تعلّقه أملاً. لكن لا شيء، لا شيء غير الصّبرِ والأحزانِ.
هاجرَ أبي بحثا عن خبزٍ أوفرَ. مات أخي من أجل وطن أعدل، وكانت أمّي أيّتها الشّجرة العالية، إثر كلّ مأساة تبحثُ عن أمل يزهرُ. تصنعُ حُلمها من رماد أوجاعها وتعجنه بدموع أحزانها، وتعلّقه أعلى، ليكون سراج لياليها الحزينة ورجاء أيّامها البائسة. ومثلها كان يفعل كلّ النّاس المحزونين والعشّاق المقهورين والرجال المهزومين. فماذا فعلت معهم وبهم أيّتها العظيمة العالية؟ كيف خدعت كُلّ الحالمين بالصّبر وكُلّ المحزونين بالرّجاء والوعد؟ تذكّر كلماته الموجعة. وحين نظر إليها رأى حزنها بسبب كلامه، فأحسّ بالحزن هو أيضا، وارتجفت الورقةُ بين يديه وفكّر في طلب الصّفح منها والاعتذار لها.
وأمّا أهلُ القُرى فقد استغربوا ما حلّ بهم، وخمّنوا أن ما أصابهم منها وبسببها، فتوجّهوا إليها، مثل عهدهم الأوّل، يستعطفُونها ويستجدُون حُلولها بالذّبائح والبخور والدّعاء. لكنّ الشجرة كانت عاريةً عاطلةً صمّاءَ. لقد أضحت كائنا قاسيًا غريبًا مُتعاليًا، بأغصانها المنتصبة رماحًا جارحةً. ولمّا طال انتظارهم وازداد شقاؤُهم وعمّ بؤُسهم، حتى كاد الهلاكُ يفنيهم، يئسوا من الشجرة التي أصابها اليبسُ وعرّاهُم عراؤُها.
تردّد الصبيّ أيّامًا قبل الرّجوع إلى الشجرة، لأنّه لم يكن يعرف ما سيقول لها. هل يعود إشفاقا عليها أم على أهله التائهين في الهواجس والمخاوف والأوهام؟ هل يسألها أم يعتذر منها ويعترف لها؟ أم يكتفي بالتربيت على أغصانها، لأنّها أنصتت لشكواه؟ لم يكن يعرف بالضبط، لكنّ قدميه أخذتاه إليها، قُبيل الفجر، مثل أوّل مرّة، محزونًا خِلوًا من الكلام.
حين اقترب منها مُحاذرا، أحسّ بدفءٍ أليفٍ. أرخت له الشجرةُ غصنًا متينًا، احتضنه ورفعه إليها. أحسّ بنبض قلبها وحُنوَّ أغصانها تصافحُ جسده ووجهه. عمّه إحساس غامر بالحبّ. سقطت كلّ الأسئلة من رأسه وفقد رغبته في الكلام. أسند رأسه إلى جذعها وأسلم روحه للسّكينة. وفي غمرة الطمأنينة الشّاملة، لم يسأل ولم يعتذر. لكنّها، كمن أنصت إلى أعماق روحه، قالت له:
– هل تريدُ أن تعرف حكايتي مع أهلك من بَني الإنسان يا بُني؟ أنا لا أعرف شيئا عن زمن البدايات. لا أذكر إن كنتُ قد انبثقتُ من الأرض، أم نزلت من السّماء. كُلّ ما أذكره أنّي كُنت فتيّةً قويّةً يانعةً. وأنّي كنت أحظى بالوفرة من كلّ شيءٍ.. من الماء والهواء والخصب والأمان. تعرفت إلى كائنات كثيرة مثل السّباع والزّواحف والحشرات والطّيور النهاريّة والكواسر الليليّة. كنتُ أرقصُ مع الرّيح وأغتسلُ بالمطر وأسهرُ مع الكواكب والقمر. هكذا مرّت قرونُ الخصب والسكينة والوئام.
ثمّ ماذا؟ ثمّ جاء الإنسانُ، من وراء الأفق، ذات يومٍ يَسعى. جاء يصعدُ الهضاب وينزل الأودية ويتخفّى بين الأحراشِ. جاء هزيلاً خائفًا. يرتعبُ من صوت الرّعد وضوء البرق وأنياب الوحوش ومخالب السّباع. يعيشُ في قطيع ويهجمُ في جماعاتٍ، وينام في كهوف يُغلّقها بالصّخور. ولا يطمئن لمخلوق، أبدًا.
ثمّ ماذا؟ صقلَ الحجارة فصارت سكاكينَ وسهامًا. ثمّ قطّعَ الأشجار وصنع أكواخًا. ثمّ أوقدَ بالحجارة نارًا في الحطب. أحرق الغاباتِ وأطردَ الوحوشَ وأسرَ بعضَها، ليأكلها على مهلٍ. وحوّل مَجاري الأنهارِ واحتكرَ السُّهولَ. ثمّ لمّا شبعَ، ازدادَ جُوعًا، ثمّ ازدادَ خوفًا من الجوعِ.
ثمّ ماذا؟ صار خائفًا من أهله وبنيه ومن نفسه وما فيها. أخذته غريزةُ البقاء الجامحةُ إلى الخوفِ، والخوفُ إلى القتلِ، وأخذهُ القتلُ إلى الإحساس بالنّدمِ والبحث عن التّوبةِ والغفرانِ. كان يقتلُ آباءَه، ليستأثر بمُلكهم، ثمّ يصنعُ لهم نُصُبًا وتماثيلَ ويخرُّ لها ساجدًا باكيًا. وكان يقتلُ أبناءَه خوفًا على جاهه واستئثارًا بمالهِ ونسائهِ. وهكذا تضرّعَ لقتلاه وطلب التوبةَ والغفرانَ، مقدّما النُّذر لضحاياهُ. لكنّه لم يتخلّص من الخوف والقتل في طريقه للفضيلة والسّلام، فلم يستطع رفعَ أحمال نفسهِ وهواجس قلبهِ وحيرة عقلهِ، التي ثقلت عمّن سواهُ.
ثمّ ماذا؟ جاءني بشرٌ منهم يسألونَ. بشرٌ تملؤُهم الحيرةُ والرّجاءُ. يعجبون كيف يموتونُ سِراعًا وكيف نَبقى. كيف يأكُلُهم الدُّودُ ويندثرُ ذكرهُم وتخلُدُ الشمسُ والكواكبُ والأنهارُ والجبالُ والأشجارُ. وهكذا بحثُوا عن سرّ الخلود فينا. بحثوا عن التطهّر من الآثام، والأمن من المخاطر، والطمأنينة من الفقد، والشّبع من الجوع، والسّكينة من الخوف.
جاءني بعضُ أسلافك بأملهم في الخلود، وجعلوهُ في تميمة وعقدوهُ في غصن مِنّي، حتّى أُحقّقه لهم. ثمّ جاءني آخرون بذنوبهم، في طلسمٍ علّقوه بي، حتّى يتخفّفوا منها فيرتاحوا. وجاء آخرون بمخاوفهم، من الغدر والقهر والأحزان في حجاب، وآخرون بأحلامهم في القوة والجاه والسلطان. ثمّ أصبحوا لا يتعاهدون إلاّ أمامي، ولا يُسافرون أو يُحاربون إلا بعد زيارتي، ولا يَستَقسمُون أو يذبحُون إلاّ حِذوي وحِيالِي. كانوا يتّخذون من ورقي وأليافي التّمائم، عوذةً لهم ورقيةً لأبنائهم، من الوباء والمرض، واحتماءً من النّظرة والخطف.
ثمّ ماذا؟ تحملتُ عبر قُرونٍ كلّ شقاءِ الإنسان. كلّ ما فيه من ضُعف وجَبروت وظُلم وعُنفوان. صبرتُ حتّى يجد البشرُ طريقَهُم للخير والرّحمة والفهم. إلى أن جئت أنت صغيري، لتقول إنّي خدعتُ أهلكَ من البشر، بأوهام الصّبر والرّجاء. وبأنّي مكرتُ، حين حملتُ عنهم أحمالَ المخاوفِ والأحلامِ. ما فعلتُ ذلك يا بُنيْ. فأنا لم أُحالفهم في شرّ قطّ. ولم أجبهم إلى باطل أبدًا. كنتُ أكتفي بالصّمت على آثامهم والصّبر على مخاوفهم وأوهامهم. فهل أذنبتُ؟ وهل تظنّني قد سلمت من شرور البشر؟
أبدا لم أسلم. فقد أصبحت مراراتُ الإنسان وهواجسهُ وذنوبهُ تُعشّشُ بين أغصاني وتُسمّم أوراقي، حتّى تعفّنت ثماري، فغادرتني العناكبُ والطيورُ المفزوعةُ من هواجس البشر. وحولتني أحزانُهم المُعلّقةُ إلى مقبرةٍ شاهقةٍ خاويةٍ، لم يبقَ فيها مكانٌ لثمرٍ، ولا موطئٌ لطيرٍ، ولا زهرٌ لفراشٍ ونحلٍ. فهل أذنبت؟ نظر الصبيُّ في قلب الشّجرة الحاني وابتسم لها ابتسامة رضَا. ثمّ مسحَ عن الأغصان حُزنَها، واستنشق عطر الجذع والألياف. فقالت الشجرةُ:
– ها أنا الآنَ، جرداء من الأوهام، عارية من الهواجس خفيفة من هشاشة البشر وأوجاعهم. أنا الآنَ، حقيقتي الأُولى، حقيقتي الباقية، قبل أن يُلبسني الإنسانُ همومه ويُحمّلني أثقاله. الآنَ، تبدأ رحلتي لنفسي ورحلة الإنسان للإنسان. بهذا أكون قد حقّقت لك طلبك وأمنيتك التي هي أمنيتي أيضا، فلا تحزن بعد اليوم يا بُني.
نزل الصبيُّ من الشّجرة العظيمة العالية، مُطمئنًا. انطلق يعدُو خفيفًا في السّهول وبين الأودية، يحملُ أحلامَه في رأسه وأحمَاله على كتفيه ويضرب في سُبل الحياة حُرّا مُريدًا. وأمّا سُكّان القُرى فقد أطالوا التفكيرَ في حالِهم وأحمَالهم. نظرُوا في أنفسهم، فلم يجدُوا إلاّ فيها، شفاءً لشقاءِ أنفسهم. ثمّ مرّت شُهورٌ وفُصولٌ، وظنّ النّاسُ أن أمرهم مع شجرة الأحلام قد انتهى بتساقط أوراقها ونزع تمائم أحلامهم ورغباتهم عن أغصانها. غير أنّ أحد العابرين بها توقّف، ذات يوم، مُندهشًا. أخذ يطوفُ بها ويقتربُ منها. ثمّ انطلق صائحًا بين النّاس قائلاً:
– إنّ الشجرة التي ظننا أنّها ماتت، بتساقط أوراقها وتيبّس أغصانها، بدأت تسترجع نضارتها. فقد استعاد جذعُها لونَه ودبّت اللّيونةُ في أغصانها التي انبثقت منها وريقاتٌ خضراء يانعةٌ، وزارتها الطيّورُ والعناكبُ والفراشاتُ من جديد.
طاف الرّجلُ بين سُكّان القُرى المحيطة ينشرُ الخبر في النّاس المُندهشين الباسمين الذين لن يعلّقوا أحلامهم، إلاّ في رؤوسهم ولن يعقدوا آمالهم إلا في قوّة سواعدهم، مثلما قالوا. وأمّا الصبيُّ، الذي لن يعود إلى القُرى إلاّ بعد سنين مديدة، فكان يصنعُ حلمَه بنُور عقله وقوّة إرادته، ويحتفظ من شجرة الأحلام العالية، بورقةٍ، يلامسها كلّما اشتاق، ويسأل: هل غادرنا حقّا؟ ثمّ يمدُّ بصره إلى ما وراء الأفق البعيد، مُبتسما لأمّه.. ولَهَا.
تونس- 17 جويلية 2021.