
في الصفحة 134 من النسخة الرقمية من رواية “شيء من بعيد ناداني”، يتحقق العنوان كتتويج لصيرورة الأحداث وسيرورتها المتشابكة بين الشخصيات والوضعيات وظروف الزمان والمكان والنفسيات: شيء من بعيد ناداني.
عنوان يوحي بنَفَس وإيحاء وإلهام. تشويق قدري جعل الحبكة والحكمة وتسلسل السرد الناسج لعناصره، يصل إلى مبتغى القيم التي انتصر لها كاتب الرواية، السيد /أحمد طايل. هذه الرواية التي تحققت فيها الرسالة الحضارية والصورة الجمالية والثقافة الراقية لبلاد مصر. مصر، بما تحمله من إرث ثقافي وحضاري وتراثي وأثري. مصر، ذاكرة الحضارات الإنسانية التي جسدت ماديا وعمليا وعمرانيا هندسة العقل البشري وقدراته الخارقة التي باستطاعتها تحقيق ما نتخيل أنه مستحيل. مصر التي حاولت اختراق العالم الماورائي، فجعلت جسورا مع السماء، ربما يرى بعض الباحثين أنها مرحلة تجسيد لما سيليها من تجريد مع تجربة الأديان السماوية، وبالخصوص مع الثلاث الأخيرة المستمرة منها إلى يومنا هذا. لكنها مصر الأسرار ومصر الإصرار على مفاجأة الأجيال الإنسانية بمكنونها. هي ملهمة الإبداع والمغيرة على الشمس بجمال تصويرها وأهراماتها.
يمكننا مقاربة العمل الروائي المتميز للكاتب/ أحمد طايل من خلال التطرق للأنساق الثقافية المتفاعلة داخله، وكذا من خلال الإشارة لبعض الجوانب الملاحظة التي تنير تفاعلنا مع الرواية كمتن سردي. جوانب تسمو بالعمل إلى مستواه الفني والجمالي، ومستواه الثقافي والحضاري والإنساني كذلك.
أولا: ظاهرة الأنساق الثقافية وتفاعلاتها:
أنساق سردية
هي حقول سوسيو ثقافية وسوسيو نفسية، تؤثث المتن السردي في رواية “شيء من بعيد ناداني”. دائرة الأسرة الانجليزية، والحلم الذي راود الفتاة، وكيف تبلور هاجسا ودافعا وارتيابا إلى الحذر من مساراته. كيف راعى الأبوان فتاتهما، وكيف التقى مع زيارة الحضارة الفرعونية وتبني مشروع الموضة الفرعوني، وانجذاب الذوق العالمي له.
دائرة أسرة الهميلى وتواتر الأحداث المرتبطة بالهجرة من الجماعة وتنامي السر الدافع، والعودة للمنبع الأصل والتصالح مع الذات ومع الحقيقة المنصفة لها، ومع القيم التي آثرت حمايتها تضحية باستقرار هذه الذات.
دائرة العمل في حقل الآثار والحفريات، وتواشج العلاقات وتطورها بين عالم الآثار والعامل الماهر فيها والطالب المتألق في خدمتها، لدرجة أصبح معها حب المجال جمالية دراسة وعمل وأداء.
دائرة الحكي المتفقد للماضي من أجل تهييء ظروف متوازنة في الحاضر، وكيف جاء توقيع بصمة الكاتب في ما يمكننا تسميته: مصطبة الحكي وخزينة السرد المتجددة، أو كما سماها الكاتب في لقاء تلفزي ضمن برنامج ثقافي بالقناة المصرية الأولى: عتبات البيوت. ما يعني ملتقى الذاكرة المجتمعية وبالخصوص في الوسط القروي المصري. وهي مصاطب متنوعة وحاضرة في رواية الكاتب “عيد ميلاد ميت”. وهنا ستكون آخذة لشبه توقيع وإخراج لبصمة الكاتب، شبيهة بتوقيع حضور المخرج العالمي هيتشكوك في أفلامه عبر حضوره العابر في إحدى المشاهد من كل فيلم. لكن توقيع الكاتب/ أحمد طايل يأخذ بعدا جماليا خاصا، حيث تكون المصطبة والعتبة قطب الرحى للجماعة وللشخصيات، تساعد على تنوير مسارات الحكي قبل ولوج عوالم جديدة داخله وداخل البيوت ووراء جدرانها وأبوابها المغلقة، فتكون المصطبة والعتبة، عتبة لفضاء حكي متفتق ومتدفق ومفتاح السرد المتدفق يلهم بسر الحكي والقص ومواضيعه التي تعتبر منجم السرد والبوح.
دائرة الاحتفاليات المجتمعية وخصوصياتها، تعقبها دوائر الاجتراح الواقعي والموضوعي الذي أقلق الكاتب فجعله ينحو نحو رسائل موجهة تنتقد وتتموقف !
هي دوائر اشتغال أعطتنا أنساقا ثقافية تمثل فوق ركح مسرحي هو ميدان الحياة وعيش الإنسان فيها.
ثانيا: الثقافي – الحضاري والتقاطع الثقافي عند المتلقي:
(الرسالة الثقافية والحضاري – الاحتفالية المجتمعية والأسلوب الثقافي المميز – الحضارة كهوية إنسانية مشترك – التقاطع الثقافي عند المتلقي).
١/ الرسالة الحضارية والثقافية في رواية “شيء من بعيد ناداني”:
لم يتناول الكاتب قيمة الحب والتلاقح الثقافي بالطريقة التقليدية أو الواقعية الرتيبة العادية. حاول أن يجعلها منطلقة من بعد تربوي وقيمي وأخلاقي راقٍ. بعد ينتصر لجمالية العيش وصورته الإنسانية الإيجابية، رغم اختلاف البيئات والثقافات واللغات. بعد انتصر للإنسانية في محور تفكير كل ذات وفي انفتاحها على الآخر. هي رسالة تبين أن القيم الراقية للإنسانية تستطيع أن تنقذنا من سلبيات الصراعات والنزاعات التي تنشر الكراهية وتسقط الأفكار الخاطئة والمضللة عن الآخر. وكم يثلج صدورنا تجلي هذه الرسالة فتكون معه الرواية رسالة إنسانية يمكننا ترجمتها بجميع اللغات وأشكال التعبير الفنية والجمالية.
٢/ الاحتفالية المجتمعية والثقافة الأسلوبية أو الأسلوب الثقافي:
لعل قارئ الأعمال السردية والروائية للكاتب( أحمد طايل سيسجل هذه الظاهرة التي تشهد لرسالة السرد بتدوين وتوثيق وتمثيل حياة الإنسان وثقافة عيشه وأسلوبه وسلوكه العام والخاص. عالم السرد الذي أصبح مختبرات اشتغال وأوراش تطبيق لمناهج تحليل ولمقاربات نظرية ونقدية، فكرية وفلسفية، هو هذا الذي تتنفس به نصوص الكاتب/ أحمد طايل.
وبالعودة إلى رواية “شيء من بعيد ناداني” نجد مشاهد تصويرية تحليلية ووصفية يمتزج فيها الزهر بالعبق، والروح بمادة الحياة، تمتزج فيها المشاعر بالطقوس الاحتفالية وأساليب العيش والتعبير والتقاليد والعادات. وليس أكثر قوة من تطابق الوصف مع المشاعر، حيث يتجلى كل ذلك في نفسية الشخصية ووضعياتها السلوكية.
ما نخلص له كذلك، أن المتون الروائية للكاتب/ أحمد طايل يمكنها أن تكون مرجعيات في الدراسات الاجتماعية والنفسية، والأنثروبولوجية وغيرها.
ملاحظة توصلنا إلى استنتاج أن المتلقي لن يكون أمام ومع شخص الكاتب فقط، بل مع الظاهرة الثقافية والاجتماعية وتمظهراتها في حياة الفرد والجماعة.
الأسلوب الثقافي:
هي اللغة ومكنوناتها، في قدرتها على الوصف والتحليل. ولكل بناء لغوي نسق تلتف عناصره البنيوية لتنسج لنا كلاما وتعبيرا وبيانا. مثل التشكيل على لوحات، كل له بصمته وجمالية تعبيره وروعة إنجازه.
سحر بيان لا يمكننا نسبه إلى الشخص فقط، ولا إلى اللغة بمفردها، ولا إلى الثقافة والبيئة المحتضنتان لهما. الانتساب سيكون إلى هذا الكل في تمازج عناصره، وسيجعل الكتابة تحمل توقيع الأسلوب الثقافي المميز للغة العربية، وللمعبِّر بها، كاتب المتون السردية.
٣/ الحضارة كهوية إنسانية مشتركة:
قد يكون هذا العنوان الفرعي كتحصيل حاصل لما سبقه. ونحن نعلم أن التداخل قائم بين الحضارة والثقافة في مختلف التعريفات والتحديدات المفاهيمية التي تناولتهما. لكن الأساس هو تميز الفكرة بين ثريات مشكلة لفضاء رواية “شيء من بعيد ناداني”. أن توقع بالقوة وتنتصر للفكرة، لكي تعيش محققا للرسالة ومبلغا لقيمها ومراميها، تلك لوحات مشكلة للشخصيات في تبنيها للبعد المشترك الإنساني الذي ينمي الذوق ويعلي من الجمالي في الطلب والتمني. بين بلاد مصر وبلاد الإنجلير، تتقاطع ثقافتان وحضارتان، جسدهما التاريخ الموضوعي والثقافي، جسدتهما أسرتان التقتا من أجل تأكيد هذا الإنتماء الهوياتي الأوسع، الذي هو انتماء للإنسانية وقبول بالآخر واعتراف بالمغايرة، وبحث عن توافقات مدمجة.
٤/ التقاطع الثقافي عند المتلقي:
نختم مقاربتنا لرواية “شيء من بعيد ناداني”، نلفت الإنتباه إلى بعد آخر جميل مرتبط بالمتلقي. وكم هو طموح الكاتب المرسل لخطابه في أن يجد متلقيا ملائما ومكملا لرسالته ومشروعه وغاياته. متلق متشوق ومعترف بالأبعاد الجمالية وبراءة الإبداع وإخلاصه للكل البشري.
غالبا ما يكون النص المكتوب موضوع نقد ودراسة، لكننا هنا نتحدث عن المتلقي، عن القارئ، عن تفاعله مع ما قرأ ودرجة تحقق المرجو في القراءة.
ماذا أراد الكاتب؟ درجات شوقه وطموحه؟ انتظاره للإعجاب وللتنويه بمنجزه؟ اقتناع المتلقي برسائله الواضحة منها والمشفرة، أسئلة وأخرى نشاركه فيها في تناول جانب التلقي والمتلقي، بالبحث والدراسة والتحليل الجديد الذي ينبش في ذهنية المتلقي ونفسيته وانتظاراته. شبه استمارة تحقق لنا هذا الفضول، وتروي عطشنا في معرفة ما يريده المتلقي وكيف نجعله يتذوق وينجذب ويتلذذ بما تلقاه. ونقول: إن سمو المتلقي مطلوب لكي يجاري ويواكب سمو رسالة المتن السردي الحاضر هنا في رواية “شيء من بعيد ناداني” للكاتب/ أحمد طايل. سمو مطلوب لكي يجني الفواكه الدانية من داخل حقل لغة أراده أن يكون سردا فتشكل رواية، وأراد أن يكون رجاء فشكله واقعُ تصارع جدليا داخل الواقعي والتخييلي، فأنهى مسار الرحلة لنداء باطني روحي ووجداني، ومسار لقاء بدأ مثاليا وتألق كذلك، لكنه سرعان ما سيعرف السقوط على أرض الواقع، والمقولة مشهورة: الواقع لا يرتفع. فكيف لنيزك كان منتميا لأسرة الفضاء وقد سقط من عليائه، أن يعود لنواميسه العليا، وهي النواميس المثالية هنا التي بنت الحلم وسافرت به مع قيمة الحب والانجذاب!؟
—
كاتب وروائى مغربي