
في زمن تتسارع فيه التحولات، وتتفكك فيه المعاني كما تتآكل الجدران القديمة، يجيء أحمد طايل في روايته “عيد ميلاد ميت” ليمنح اللغة عبءَ السؤال، ويضع القارئ أمام مرايا الذات والقرية والذاكرة. ليست الرواية مجرد حكاية، بل هي طقس تأبيني لِما فُقد، واحتفاء خافت بما تبقّى من أثر.
بين الحياة والموت: عتبة عنوان تهتزّ بالمعنى
“هناك أحياء فوق الأرض أموات، وهناك أموات تحت الأرض أحياء.”
بهذه الجملة الحافلة بالمفارقة، يفتتح طايل روايته، واضعًا قارئه مباشرة أمام قلب الفكرة: الحياة ليست ما يُقاس بالنبض، بل ما يُقاس بالأثر. الموت لا يكون بالمغادرة، بل بالنسيان. ومن هذه النقطة، ينفتح العنوان ذاته – عيد ميلاد ميت – ليصبح بوابة وجودية، سؤالاً عن من يستحق البقاء في الذاكرة، ومن غاب ولم يكن.
القرية: مسرح المأساة والتحوُّل
في روايات كثيرة، تتوارى القرية خلف الشخصيات، لكن هنا، تأخذ مكانها بصفتها كائنًا حيًّا، “يتنفس ويتحوّل، ويئن من عبء الزمن.” هي ليست نوستالجيا ريفية، بل فضاء هشّ تتصارع فيه بقايا القيم مع مدّ الحداثة الوافدة. يظهر طايل وكأنه لا يدين هذا التحوُّل ولا يمجّده، بل يضعه أمامنا على الطاولة: صادقًا، موجعًا، وصامتًا.
شخصيات من لحم الحكاية
رشوان، محروس، عيسوي، خالد البدوي… ليست هذه الأسماء أبطالاً روائيين تقليديين، بل هم كأنهم خرجوا من ذاكرة قروية جمعية. لا بطولة درامية متضخمة، بل هشاشة الإنسان حين يتأمل في صمته. ينسج طايل ملامحهم من الواقع: بسطاء، متناقضون، مشدودون إلى ماضٍ يؤلمهم وحاضر لا يمنحهم يقينًا.
“الإنسان أيّ إنسان يحتاج كثيرًا للسباحة في عالم الماضي، يستنشق عبيره ويتجرّع حلوه ومرّه… لكنه يشعر في النهاية كأنه وُلد من جديد.”
هكذا يتحدث الراوي عن الذاكرة، لا باعتبارها هروبًا، بل ولادة متكررة لهويتنا.
القيم المترنّحة بين الأجيال
في أحد أقوى لحظات الرواية، ينقل الجد كلماته البسيطة إلى الأحفاد:
“سيروا حاملين العطاء، سيروا وأمام أعينكم الله.”
لا تحتاج القيم الكبرى إلى بيان. تكفي جملة صادقة كهذه لتلخّص فلسفة الحياة التي يحملها الجيل القديم – فلسفة تآكلت تحت عجلات السرعة والزيف.
لكن الرواية لا تقف في مقام الرثاء. على العكس، هي أقرب إلى محاولة إنعاش، إذ يهمس السارد:
“اليوم الذي يمر على الإنسان دون أن يضيف له شيئًا، لا يُحتسب.”
وهنا تتكشف دعوة الرواية: أن نعيش بما يستحق التذكّر، لا بما يُحصى في التقويم.
أسلوب السرد: هدوء من يعرف الحزن
يكتب طايل كمن يمشي بين قبور، لا من أجل الرثاء، بل للإنصات. لا يغرق في زخرف اللغة، لكنه يمنح كل كلمة وزنها. الراوي العليم يهمس أكثر مما يصرخ، يتأمل أكثر مما يحكم. تتسلل الكلمات بسلاسة، ويترك الكاتب فراغات ذكية على القارئ أن يملأها بتجربته الخاصة.
في الختام: رواية تقرأك قبل أن تقرأها
عيد ميلاد ميت ليست رواية تُقرأ ثم تُطوى، بل نصّ يلامس ما خفي في داخلنا: الخوف من النسيان، الحنين إلى ما لا يعود، والرهبة من أن نعيش بلا أثر. إنها كتابة عنّا، وإن لم تقل أسماءنا. رواية تنتمي إلى أدب ما بعد الألم، أدب يفتّش عن نُدبة نُشبهها في ملامح الزمن۔