
ولدت الدراما بين جدران المعابد المصرية القديمة وأروقة معابد أثينا الإغريقية وهي وليدة ثقافة المجتمعات وانعكاسًا مؤثرًا للقيم والمبادئ المراد ابرازها أو دحضها وانتقادها.
فكما مثلت الدراما المصرية القديمة الصراع االأبدي بين الخير والشر في دراما دينية شعبية تزكي قيم إنتصار قيم الخير والنماء على قيم الشر والحقد والفناء.. بانتصار إيزيس وابنها (حورس) على الآلة (ست) الذي قتل أخيه (أزوريس) وقطع جثته أربعين قطعة وترك إيزيس تبحث عنه وتحاول إعادته للحياة مرة أخرى مثلت أيضًا الدراما الإغريقية القديمة قيم صراع الآلهة فكان المسرح دائمًا مرتبط بالمعبد… وخاصة معابد عبادة الآلة (ديونيسيوس) وتدعيم قيم الحرية والخلاص خاصة في ظل شمول النظام الفردي الاستبدادي في تلك الأزمان السحيقة.
وظلت الدراما مرآة لثقافة الشعوب وعاداتها وتقاليدها وعقائدها وقناعتها سواء بشكلها المسرحي البدائي أو شكلها الشعبي في السير والملاحم المتوارثة عبر الأجيال ومرورًا بتطورها عبر العصور حتى وصلت لشكلها المعاصر مسرحيًا وسينمائيًا ثم أخيرًا تلفزيونيًا… وهذا القالب أو الشكل الأخير هو الأكثر بروزًا ووضوحًا نظرًا لاقتحامه البيوت والعقول منذ أوائل الستينات وحتى التسعينات حيث بلغ ذروة نجاحه وتأثيره الكبير وحتى اجتياح عواصف الربيع العربي وما تبع ذلك من هبوط المستوى العام تأثرًا بالجو السياسي والاقتصادي.
ومما لا شك فيه أن الدراما كان لها تأثيرًا كبيرًا على الثقافة العربية والعكس صحيح فعبرت الدراما في مسرح نجيب الريحاني وما قدمه من كوميديا سوداء ومسرح (سيد درويش) وما قدمه من أوبريتات عن الطبقة الكادحة المكافحة التي كانت تقاوم الفقر وسوء الأحوال الاقتصادية وأيضًا التحديات السياسية في ظل هيمنة الاحتلال الأجنبي والرغبة في إثبات الذات ورفض القهر السياسي والاجتماعي وإذكاء روح التحرر الوطني والمطالبة بالاستقلال وهذا ما كانت تضج به أروقة الثقافة ومقالات وأشعار الأدباء والصحفيون الكبار مثل (العقاد وطه حسين وقاسم أمين ومحمد حسين هيكل والمازني) وما طالبت به ثورة 1919 وأصرت عليه رغم نفي زعيمها خارج البلاد…
ثم مسرح (توفيق الحكيم) وما حملته الدراما فيه من أفكار تنويرية حديثة هدفت إلى ترسيخ قيم نهضوية هامة من خلال مسرحيات (أهل الكهف) و(سليمان الحكيم) و (السلطان الحائر) و (شهرزاد) مرورًا بمسرح اللامعقول حيث كانت الدراما والمسرح يوالدان من جديد على يد هذا الأديب الفذ الذي حمل من باريس أفكاره الحديثة التنويرية ونقل الدراما والمسرح نقله نوعية فكرية جديدة كان المجتمع في أشد الحاجة إليها وأصبحت الدراما من أهم أدوات الوعي الثقافي والتأثير المجتمعي وظهر ذلك جليًا في بداية الخمسينات وقيام ثورات التحرر من الاستعمار الأجنبي وحركات التحرر الوطني والثورة على فساد الطبقة الحاكمة والطبقة الاقطاعية حيث كان معظم فئات الشعب ترزح تحت الجهل والقهر خاصة طبقة الفلاحين والعمال والتي كانت تمثل تقريبًا غالبية الشعب… وظهرت أهمية الثقافة وتأثيرها الكبير على القطاع المتعلم من الشباب حيث صرح قائد الثورة المصرية البكباشي جمال عبد الناصر عن أن قراءته لرواية (عودة الروح) لتوفيق الحكيم هي من ألهمته فكرة الثورة وتأسيس تيار الضباط الأحرار داخل الجيش المصري حتى قامت الثورة بمبادئها وأفكارها الإصلاحية آنذاك… ثم فترة الستينات والتي حملت في طياتها اكبر نهضة ثقافية درامية شهدتها البلاد شملت حركة الدوائر الثقافية والصحف والمجلات التي كان لها أبلغ الأثر في بلورة أهداف الثورة وإصلاحاتها الوثابة والترويج لأفكارها الاشتراكية… وشملت أيضًا بالطبع حركة الدراما في السينما الواقعية ممثلة في سينما صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وكمال الشيخ وبركات والذين تهلوا من أفضل ما أنتج الأدب العربي وصنعوا منه دراما متميزة داعمة لأفكار الثورة ومعبرة عنها وعن معظم قطاعات الشعب التي فرحت بالثورة وأيدتها أملاً في الحصول على حقها في الحياة والتعليم والترقي في طبقات المجتمع وبالتالي حياة أفضل.
وانعكس ذلك بالطبع على المسرح فظهر مسرح نعمان عاشور ويوسف إدريس والأخير له إسهاماته المعروفة أيضًا في عالم الأدب والسينما حيث أعطى جل اهتمامه لفن كتابة القصة القصيرة وأبدع في ذلك أيما ابداع وتكالبت السينما على انتاجه أيضًا من الرواية والقصة فتحول معظم إنتاجه إلى أفلام سينمائية ومسرحيات ناجحة جدًا ومؤثرة… حيث عبرت معظم أعماله عن الحراك الاجتماعي بعد الثورة والصراع الطبقي وأحلام المهمشين والأفكار الداعمة لقيم العدالة والمساواة في المجتمع الجديد.
مثل أفلام ( النداهة ) ( قاع المدينة ) ( الحرام ) ومسرحيات ( الفرافير ، والبهلوان )
وتطورت الدراما ولحقت بالثقافة وتواكبت معها ومع طموح وتطور المجتمعات العربية والمصرية خاصة واقتحمت الدراما التلفزيونية في أوائل الستينات العقول والبيوت وجذبت كل طبقات المجتمع للجلوس أمام الشاشة الصغيرة الساحرة بتأثيرها الطاغي… فظهرت المسلسلات والسهرات الدرامية وما تحمله من أفكار طموحة تناسب تلك المرحلة من دعم لأفكار التحرر الوطني والقومية العربية وسياسة المقاومة والإصلاح وظهرت أجيال جديدة مع الجهاز الجديد كان لها أبلغ الأثر والتأثير على المستوى الثقافي والمستوى الدرامي المسرحي والإذاعي والتلفزيون فمع ظهور جيل من المثقفين الجدد مثل يوسف إدريس ومحمد جبريل وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله وعبد الرحمن الأبنودي وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي وصنع الله إبراهيم وحيد حامد ظهر أيضًا جيل جديد من كتاب الدراما ومخرجيها مثل محمد الصاوي ولينين الرملي ومحفوظ عبد الرحمن وفتحيه العسال وكرم النجار ويسري الجندي وأسامة أنور عكاشة ومحسن زايد ومن المخرجين نور الدمرداش ويحيى العلمي وأحمد طنطاوي وأحمد توفيق وإنعام محمد علي وإسماعيل عبد الحافظ ومحمد فاضل.
وبدأت الدراما التلفزيونية تتبلور ملامحها ابتداءًا من (هارب من الأيام) حتى (ليالي الحلمية) و (ذات) ومحمد رسول الله والزيني بركات.
فأعمال الستينات التي كرست لقيم العمل والكفاح والأخذ بالعلم والحراك الطبقي والقومية العربية مثل (هارب من الأيام) (الساقية) و (القاهرة والناس) (العنكبوت)……
ثم وقعت النكسة العسكرية والسياسية وكانت صدمة كبيرة عانى منها المثقفين لدرجة التقوقع والانعزال فعبرت الدراما عن أهمية رفض الهزيمة والصمود وعدم الاستسلام وتوجيه قطاعات الشعب للاصطفاف الوطني والتماسك الداخلي وواكب ذلك صدور روايات (ميرامار) لنجيب محفوظ وإنتاج أفلام هامة مثل (شيء من الخوف) لثروت أباظة… ولكن القت الهزيمة رغم ذلك بظلالها الثقيل على الوسط الثقافي رغم حيوية انتاج المسرحيات والأفلام والمسلسلات وخاصة بعد وفاة عبد الناصر.
ثم جاءت الانفراجة مع (نصر أكتوبر) واسترداد الكرامة واستعادة الأرض المحتلة واستعادة الثقة في الجيش والقيادة ومؤسسات البلاد وسرعان ما انقسم الوسط الثقافي مع سياسة الانفتاح الاقتصادي والتفكك الذى أصاب المجتمع بظهور طبقات منتفعة من هذه السياسات والتي حققت ثراءًا فاحشًا مفاجئًا يحمل علامات استفهام كبيرة وصراعات ثقافية واقتصادية واجتماعية صارخة.
فظهرت الدراما التي تحث على إيقاظ الضمير الجمعي ودعم التمسك بالقيم والمبادئ القويمة وإعادة صحوة النزعة الوطنية وصراع تيار الأصالة ضد تيار الزيف والانتهازية والانحطاط مثل (رحلة السيد أبو العلا البشري) و (رأفت الهجان) (ليلة القبض على فاطمة) (الراية البيضا) (في حاجة غلط) (وقال البحر) (الزيني بركات) وكل تلك الدراما كانت من إنتاج الدولة وقطاع الإنتاج ثم التسعينات وظهور الأصولية الدينية المتطرفة والأفكار الإرهابية المكفرة للمجتمع ومن ثم ظهور دراما تعالج تلك الأفكار الخطيرة الهدامة وظهور الحركات الثقافية المعادية لتلك الأفكار خاصة بعد اغتيال الكاتب (فرج فودة) المناهض للفكر المتطرف الأصولي ثم محاولة اغتيال الكاتب الكبير (نجيب محفوظ) وكانت هذه التيارات الأصولية تستخدم مفاهيم مغلوطة عن الدين الإسلامي من أجل تحقيق مكاسب سياسية لبعض الفئات والجماعات بهدف الوصول إلى الحكم السياسي وتحقيق حلم الخلافة القديم… مما دعا الدراما إلى إعادة تصدير القيم الوطنية والمبادئ الدينية الوسطية وقيم التسامح الديني بين كل فئات المجتمع فشاهدنا دراما واعية تعكس التمسك بتوحيد النسيج الوطني أمام هذا الطوفان من التعصب الديني والسياسي فأنتجت الدراما مسلسل (العائلة) (ليالي الحلمية بأجزائها) (المال والبنون بأجزائها) ( يوميات ونيس بأجزائها ) وتصاعدت الأحداث السياسية حتى لفحت المنطقة عواصف الربيع العربي وما تبع ذلك من اضطرابات وثورات وفوضى عارمة وأحداث دامية في بداية الألفية عبرت عنها الدراما بأعمال متميزة حققت نجاحًا جماهيريًا مؤثرًا مثل مسلسل (ذات) و (بدون ذكر أسماء) (الجماعة) (موجة حارة) (القاهرة – كابول) ثم بعدها بفترة أجزاء مسلسل (الاختيار)
ومسلسل (الحشاشين)
ومما لا شك فيه أن حيوية الدراما وقدرتها على معالجة كل قضايا المجتمعات تولد من حيوية الحركة الثقافية وحرية التعبير ووجود الديمقراطية السياسية الحقيقية.
ومنذ أن تراجع دور الدولة في إنتاج المسلسلات والأفلام التلفزيونية وعدم احتواء المناخ الثقافي والتضييق عليه وبدأت اتجاهات الخصخصة تسيطرعلى الإنتاج الدرامي في صور شركات إنتاج محتكرة وبدأنا نرى تراجع للاقتصاد وزيادة التضخم وغلاء الأسعار وتدهور قيمة العملة المحلية مقابل العملة الأجنبية وتقليص سياسة دعم المواطنين وما زامن ذلك من ظهور دراما العشوائيات الفقيرة المزدحمة وما تحمله من سلوكيات وقيم دخيلة على المجتمع وإبراز مشاكل مثل إدمان المخدرات والبطالة وقضايا الفساد والرشوة وتآكل الطبقة المتوسطة وتدهور أحوالها ثم سيطرة تكنولوجيا التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا وما تبع ذلك من مشاكل التفكك الأسري والرغبة في الشهرة وتحقيق مكاسب مالية من أي محتوى يعرض على الشاشات المحمولة في اليد . غير أن تآكل الطبقة المتوسطة أيضًا ساعد في ظهور طبقتين فقط فى الدراما طبقة كادحة فقيرة تعيش في عشوائيات وأحياء فقيرة مزدحمة تنضح بالمعاناة والحرمان والرغبة الصارخة في الثراء
وطبقة أخرى راقية انفصلت فعليا ومعنويا وراء أسوار الكمبوندات والأحياء المرفهة والقصور والبيوت الفارهة.
واختفت تمامًا الدراما التي تعالج صراح الطبقة المتوسطة التي أصبحت تعاني من أجل البقاء.
ولكن الدراما أقتصر دورها على تقديم ما آل إليه المجتمع مع المبالغة في إظهار دراما العشوائيات وسلوكياتها الشاذة دون تقديم معالجة حقيقة لتلك المشاكل ونادي المثقفون أن دور الدراما لابد أن يكون موجهًا وليس كاشفًا فقط وأن رسالة الدراما لابد ان تكون كاملة تقدم التوعية والموعظة بطريقة ذكية غير مباشرة خاصة لقطاع الشباب ومعالجة قضايا الإدمان وتأثيره المدمر على الشباب وعلى الأسرة وقضايا هجرة الشباب والبطالة وقضايا مسكوت عنها مثل قضايا المرأة وقضايا الطفل والتحرش والتفكك الأسري.
ورغم ان المعوقات الاقتصادية تحيط بالمجتمعات إلا أن من الملاحظ رغم ذلك انتشار أندية القراءة والصالونات الثقافية والفنية وزيادة الإنتاج الأدبي الروائي خاصة والتاريخي ورغم انتشار الورش الخاصة بالكتابة الدرامية، إلا أن الدراما خاصة تمر بفترة عصيبة مع توحش السياسة الإعلانية واشتراطها بعض الشلل الفنية دون غيرها وتحكمها في الإنتاج واحتكار بعض الفنانين من ممثلين ومخرجين وكتاب وظهور التطبيقات الخاصة المدفوعة الأجر لمشاهدة الأعمال الدرامية دون إعلانات فأصبحت الدراما تهدف فى المقام الأول إلى الربح وتحولت العملية التثقيفية الدرامية إلى عملية
( بيزنس ) وليس رسالة وتربية وتوجيه لقطاعات الشعوب المختلفة بما في ذلك من الضغط على ميزانية الأسرة وإستنـزاف مواردها في ظل جو اقتصادي خانق لجميع فئات المجتمع وخاصة الطبقة المتوسطة…
وماتبع ذلك من نقص حاد فى البرامج الثقافية الموجهة للطفل والدراما التى تستهدف قطاع الأطفال واليافعين مما كان له أكبر الأثر على ترك الأطفال فريسة للسوشيال ميديا وتعرضهم لمحتويات لاتناسب أعمارهم وإستيعابهم مما يشكل خطراً كبيراً على سلوكياتهم وأخلاقهم وتوجهاتهم فالأجيال الجديدة تعانى خللاً واضحاً فى مفاهيم وقيم هامة مثل قيم الهوية والتسامح الدينى والتمسك باللغة العربية والقيم الدينية والأخلاقية والوطنية والأنتماء والوعى .
وهى كلها قيم المجتمع فى أشد الحاجة إليها خلال المرحلة الراهنة ولايمكن أن تقدم إلا من خلال تعليم جيد وثقافة واعية ودراما هادفة ومؤثرة .