خسرت البصرة على الدوام تشكيلها وظلّت تقدّمه كأضحية ملوّنة جرى تعليقها على جدران الكاليريهات في المركز الذي احتجز الضوء والصوت على الدوام، وتتابعت، خلال العقود الماضية، هجرات التشكيليين البصريين إلى بغداد العراق أوّلا، ومنها إلى بغدادات العالم ثانياً بذرائع كثيرة أهمها الدراسة في معاهد الفن، والرغبة في إخراج التجربة الفنيّة وإشهارها، والحياة في محيط حيّ يكفل العمل والتنافس والانتشار والاحتكاك بتجارب الآخرين، وكلّ ما يدعم الحاجة الداخلية الطبيعيّة إلى التطور والصعود وإعلاء الذات… وكلّما تضاءلت فرص التشكيلي البصري في الارتقاء بمشروعه داخل مدينته وجد نفسه مضطراً إلى الانتقال به إلى بيئة توفّر له متطلبات رواج منتجه الفنيّ وتبنّيه في سوق مستقرّة تهيّئ أسباب العيش بوساطة الفن…
وبتأثير هذه العوامل التي ترعرعت في واقع لم يسعه الإخلاص لضرورات نهوضه، بحكم خضوعه لإرادة المركز المحارب الذي أهمل كلّ شيء إلاّ أعضاءه القريبة، ظلّ المشهد التشكيليّ في البصرة يترنّح ويفقد ديناميته كلّما سُرِق منه جدار يسند خلائقه الملوّنة التي لا تحيا إلاّ على جدار مضاء بسطوع تستعرض عليه قواها الحيّة، وتواجه جمهورها المحتفي وتبرّر وجودها في حضوره.. وكلّما عزف عن البقاء في البصرة، بفقر ممكنات الفن، تشكيليون بصريون ذوو تجارب غنيّة ، كلّما شحب وجه اللوحة التشكيلية البصرية وغاضت نضارتها.. فأنت، كتشكيليّ، تظلّ على الدوام تغبط نفسك لو كانت تعيش إلى جوارك تجارب حيّة مؤثرة تستطيع أن تجد فيها حاضنة تشكيلية تحيا في فضائها فتحاورها وتتنافس معها بتوثّب دائم خاصّة إذا كانت تنطوي على عناصر القوّة والحياة التي تغذّيك بقلقٍ ضروري ينعش تجربتك ويدفعك إلى تجديد خطابك…
عاش التشكيل البصري إذن في وسطٍ ظلّ مفتوحاً للفقدان أو الإقفار ورضخت تجاربه القويّة لطموحها المشروع إلى الهجرة إلى حيث تستطيع أن تعمل وتعيش وتنتعش وترى الأفق.
كانت رغبتي في الرسم في صباي تدفعني إلى الخارج من أجل أن أعثر على شكل الرسم ولونه خارج دفاتر الرسم المدرسيّة التي لوّثْتُها، فكنتُ لا أجد في البصرة القريبة منّي إلاّ محترفات الخطّاطين التي هي مجرد دكاكين أو ورش تخرج منها،عادةً، هويّات المحال التجاريّة ودوائر الدولة ومؤسساتها الخدمية التي يكتبها الخطاطون (بالبويا) على المعدن أو الخشب أو البلاستك، ونادراً ما كنت أجد، في فوضى تلك المحترفات الصغيرة المزحومة، لوحة مغبرّة لـ (حياة جامدة)، أو لطبيعة حيّة مرسومة باجتهاد ناقل، ومعلّقة بإهمال وقد اعتلّت فيها الألوان، وكان جلّ أولئك الخطّاطين محافظين على قواعد الخطّ وقيمه المعروفة ومن بين هؤلاء تحتفظ ذاكرتي بأسماء الأساتذة مهدي محمد فريد، وسيّد حيدر، ويوسف فنّي، وصلاح، وجواد، والبدوي…
ولد التشكيل البصري وعاش في حرمان دائم من بيت يؤويه، بيت يحمل اسمه الخاصّ ويصلح لإقامته وحده بشروط حياته الخاصّة، ويكون بمقدوره استقبال مريديه والاحتفاء بهم تحت سقفه… فلم تشهد البصرة، إلى يومنا هذا، ولادة قاعة خاصّة أو عامّة هدفها الأول والأخير استقبال تجارب التشكيليين البصريين وحدها وعرضها على الجمهور ، اللّهمّ إلاّ إذا استثنينا كاليري 75 الذي أنشأه الفنان الراحل ناصر الزبيدي على أطلال سينما شطّ العرب الصيفي أواسط سبعينيات قرننا الفائت وأقام فيه بعض التشكيليين معارض شخصيّة، وهو الآن مجرّد رسم على طلل… ولهذا ظلّت أعمال تشكيليي البصرة، طيلة العقود الماضية وحتى يومنا هذا، تتطفّل على أمكنة عامّة لا تتوفر فيها أدنى مستلزمات عرضها.. ومن بينها قاعة التربية –قاعة عتبة بن غزوان حاليا- في قلب البصرة، وهي قاعة عامّة فارهة أنشئت لتستقبل أنشطة وفعاليات وعروضاً فنيّة وثقافية متنوعة، واحتضنت، في الستينيات ومطلع السبعينيات معارض شخصيّة ومشتركة وجماعية لجيل من التشكيليين البصريين بينهم محمد راضي عبد الله، وسلمان البصريّ، وجبار داوود العطية، وفاروق حسن، وموريس حداد، وإبراهيم الكمالي، وعلي طالب، وشاكر حمد، ومحمود حمد، وناصر الزبيدي، ومنقذ الشريدة، وإياد صادق، ومحمد الزبيدي، وفيصل لعيبي، وصلاح جياد، وعبد العال الشذر، وآخرون، ولم يبق من هؤلاء في البصرة اليوم إلاّ واحد أو اثنان…
جدران نوادٍ اجتماعية، ومقارّ أحزاب، ونقابات، ومراكز ثقافية لم تجد غضاضة في حمل أعمال فنانين بصريين فأراحتْها من الصمت وجعلت خطوطها وألوانها تهدر في ضوئها القليل الذي لم يكن بوسعه أن يضيء عالماً صنعه الخيال…
قبل ثلاثين عاماً ونيّف أرغمتُ نفسي، من أجل رسوم صغيرة أخرجها شبابي، على حمل عدد من البارتشنات (ألواح خشب عريضة) في عربة يجرّها حصان، ونصبتها في إحدى قاعات جمعية الاقتصاديين العراقيين بالبصرة، وعلّقت عليها ما يناهز الأربعين رسماً من تلك الرسوم وجئتُ بأصدقائي كلّهم ليروا ما تجرّأت على دعوته بمعرض شخصيّ أوّل!
في الستينيّات، في أحد أزقة شارع الوطن صنع رسام بالغ التأنّق اسمه جبار داود العطية ديكوراً حديثاً لدكان وعلّق على بوابته، بخط حديث، هويته التي تعلن عنه: (ستوديو بيكاسو)، وجلس وراء زجاج أول محترف تشكيلي في البصرة… وأخرج بين جدرانه عالمه الطّلْق، الأثير، عالم الصحراء، وصمّم ديكورات عديدة للمسرح ولغيره، واختال في شارع الوطن بأبهى الثياب، ومات فيه شريداً مهملاً شتّاماً بمعطف شبابه الفاني…
ليس بعيداً عن (ستوديو بيكاسو) مكاناً وزماناً اتخذ رسّام آخر اسمه، كما تزعم ذاكرتي، أدهم إبراهيم، أحد دكاكين الوطن محترفاً، وفيه رأيتُ، يومذاك، لوحة واحدة لطيور أو لدواجن رُسمت بالزيت بأسلوب انطباعي، وبعد زمن كان مصير هذه اللوحة قد ساقها إلى مطعم في شارع الوطن، فانتصبت فوق إحدى طاولاته، ثمّ سقطت في الزمن الذي اقتلع الرسام ومحترفه الصغير من الأيّام والساعات، وأطلقه في طريق بلا نهاية…
في المساحة الضئيلة لمحترف (فينوس) الذي أسّسه التشكيلي عيسى عبد الله في البصرة القديمة مطلع السبعينيات أنجز الرسّام مجموعة تخطيطات لكائن بجسد تُقمَع فيه رغائبه وهي تعجنه عجناً وتكيّف أعضاءه وشكله الخارجي بقواها الدفينة وفي الثمانينيات وفي قاعة نقابة الفنانين بالبصرة عرض عيسى عبد الله كائنه الأليم في معرض شخصي… إذا رغبت اليوم في زيارة الرسام فسوف يحزنك ضياعه بين ورش الحدادين المتكالبين على فينوسه.
هاشم حنون وعبد الملك عاشور رسّامان بصريان أرسى الرسم قاعدة صداقتهما، وأسّسا أكثر من محترف تشكيلي منذ الثمانينيات واستقرا معاً في (كاليري 93 ) الذي أنضج تجربتهما بتناغم أنتج العديد من الأعمال التي وجدت صداها في البصرة وبغداد.. وإذ انتقل هاشم حنون بتجربته نهائيا إلى بغداد، ومن ثمّ إلى عمّان، لبث عبد الملك عاشور في البصرة يذود بالصبر الملوّن بالزيت عن ما تبّقى من كاليري 93 .
قريباً من فندق الديرة الفخم في شارع الوطن صعد التشكيلي كامل حسين، في يومٍ من أيّام تمّوز ثمانيني، إلى شقّة قديمة فصبغ جدرانها وسلّمها الحجري بطلاء شديد اللمعان، وعلّق على شرفتها (مرسم تمّوز)، مرسمه، بعدما أنزل ستارة عريضة من القماش تدلّت من الشرفة بلوحة هائلة رسمها بالزيت للـ (الحسناء والوحش)، وعقب كلّ كأس كان يعبّها في هذا المقصف، أو ذاك من مقاصف شارع الوطن المرحومة، كان كامل حسين يرسم السيّد المسيح بعينيْن غارقتين على جدار أو في قماشة…
وقبل أن يبيع كامل مرسمه ويهجر البصرة ركبنا، هو وأنا، عام 1992في لوري استقرت في حوضه مجموعة كبيرة من أعمالنا، وقطعنا الطريق إلى بغداد بثلاث عشرة ساعة أو أكثر، في أشد شهور صيفنا ضراوة، آب، وعرضنا تلكم الأعمال، أعماله بالزيت في قاعة الرواق، وأعمالي المحروقة في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث، وعدنا بمجرد كلمات في قصاصات ورق جرائد قليلة…
بعد 2003 خرج تشكيليو البصرة، أسوةً بغيرهم، من قيامتهم القديمة إلى قيامتهم الجديدة بحريّة من نار ودخان وموت في معرض جماعي كبير بين لونين، لون الدكتاتوريّة التي هَجَوْها، ولون الحريّة التي باركوها بأثقالها…
وبتأثير هذه العوامل التي ترعرعت في واقع لم يسعه الإخلاص لضرورات نهوضه، بحكم خضوعه لإرادة المركز المحارب الذي أهمل كلّ شيء إلاّ أعضاءه القريبة، ظلّ المشهد التشكيليّ في البصرة يترنّح ويفقد ديناميته كلّما سُرِق منه جدار يسند خلائقه الملوّنة التي لا تحيا إلاّ على جدار مضاء بسطوع تستعرض عليه قواها الحيّة، وتواجه جمهورها المحتفي وتبرّر وجودها في حضوره.. وكلّما عزف عن البقاء في البصرة، بفقر ممكنات الفن، تشكيليون بصريون ذوو تجارب غنيّة ، كلّما شحب وجه اللوحة التشكيلية البصرية وغاضت نضارتها.. فأنت، كتشكيليّ، تظلّ على الدوام تغبط نفسك لو كانت تعيش إلى جوارك تجارب حيّة مؤثرة تستطيع أن تجد فيها حاضنة تشكيلية تحيا في فضائها فتحاورها وتتنافس معها بتوثّب دائم خاصّة إذا كانت تنطوي على عناصر القوّة والحياة التي تغذّيك بقلقٍ ضروري ينعش تجربتك ويدفعك إلى تجديد خطابك…
عاش التشكيل البصري إذن في وسطٍ ظلّ مفتوحاً للفقدان أو الإقفار ورضخت تجاربه القويّة لطموحها المشروع إلى الهجرة إلى حيث تستطيع أن تعمل وتعيش وتنتعش وترى الأفق.
كانت رغبتي في الرسم في صباي تدفعني إلى الخارج من أجل أن أعثر على شكل الرسم ولونه خارج دفاتر الرسم المدرسيّة التي لوّثْتُها، فكنتُ لا أجد في البصرة القريبة منّي إلاّ محترفات الخطّاطين التي هي مجرد دكاكين أو ورش تخرج منها،عادةً، هويّات المحال التجاريّة ودوائر الدولة ومؤسساتها الخدمية التي يكتبها الخطاطون (بالبويا) على المعدن أو الخشب أو البلاستك، ونادراً ما كنت أجد، في فوضى تلك المحترفات الصغيرة المزحومة، لوحة مغبرّة لـ (حياة جامدة)، أو لطبيعة حيّة مرسومة باجتهاد ناقل، ومعلّقة بإهمال وقد اعتلّت فيها الألوان، وكان جلّ أولئك الخطّاطين محافظين على قواعد الخطّ وقيمه المعروفة ومن بين هؤلاء تحتفظ ذاكرتي بأسماء الأساتذة مهدي محمد فريد، وسيّد حيدر، ويوسف فنّي، وصلاح، وجواد، والبدوي…
ولد التشكيل البصري وعاش في حرمان دائم من بيت يؤويه، بيت يحمل اسمه الخاصّ ويصلح لإقامته وحده بشروط حياته الخاصّة، ويكون بمقدوره استقبال مريديه والاحتفاء بهم تحت سقفه… فلم تشهد البصرة، إلى يومنا هذا، ولادة قاعة خاصّة أو عامّة هدفها الأول والأخير استقبال تجارب التشكيليين البصريين وحدها وعرضها على الجمهور ، اللّهمّ إلاّ إذا استثنينا كاليري 75 الذي أنشأه الفنان الراحل ناصر الزبيدي على أطلال سينما شطّ العرب الصيفي أواسط سبعينيات قرننا الفائت وأقام فيه بعض التشكيليين معارض شخصيّة، وهو الآن مجرّد رسم على طلل… ولهذا ظلّت أعمال تشكيليي البصرة، طيلة العقود الماضية وحتى يومنا هذا، تتطفّل على أمكنة عامّة لا تتوفر فيها أدنى مستلزمات عرضها.. ومن بينها قاعة التربية –قاعة عتبة بن غزوان حاليا- في قلب البصرة، وهي قاعة عامّة فارهة أنشئت لتستقبل أنشطة وفعاليات وعروضاً فنيّة وثقافية متنوعة، واحتضنت، في الستينيات ومطلع السبعينيات معارض شخصيّة ومشتركة وجماعية لجيل من التشكيليين البصريين بينهم محمد راضي عبد الله، وسلمان البصريّ، وجبار داوود العطية، وفاروق حسن، وموريس حداد، وإبراهيم الكمالي، وعلي طالب، وشاكر حمد، ومحمود حمد، وناصر الزبيدي، ومنقذ الشريدة، وإياد صادق، ومحمد الزبيدي، وفيصل لعيبي، وصلاح جياد، وعبد العال الشذر، وآخرون، ولم يبق من هؤلاء في البصرة اليوم إلاّ واحد أو اثنان…
جدران نوادٍ اجتماعية، ومقارّ أحزاب، ونقابات، ومراكز ثقافية لم تجد غضاضة في حمل أعمال فنانين بصريين فأراحتْها من الصمت وجعلت خطوطها وألوانها تهدر في ضوئها القليل الذي لم يكن بوسعه أن يضيء عالماً صنعه الخيال…
قبل ثلاثين عاماً ونيّف أرغمتُ نفسي، من أجل رسوم صغيرة أخرجها شبابي، على حمل عدد من البارتشنات (ألواح خشب عريضة) في عربة يجرّها حصان، ونصبتها في إحدى قاعات جمعية الاقتصاديين العراقيين بالبصرة، وعلّقت عليها ما يناهز الأربعين رسماً من تلك الرسوم وجئتُ بأصدقائي كلّهم ليروا ما تجرّأت على دعوته بمعرض شخصيّ أوّل!
في الستينيّات، في أحد أزقة شارع الوطن صنع رسام بالغ التأنّق اسمه جبار داود العطية ديكوراً حديثاً لدكان وعلّق على بوابته، بخط حديث، هويته التي تعلن عنه: (ستوديو بيكاسو)، وجلس وراء زجاج أول محترف تشكيلي في البصرة… وأخرج بين جدرانه عالمه الطّلْق، الأثير، عالم الصحراء، وصمّم ديكورات عديدة للمسرح ولغيره، واختال في شارع الوطن بأبهى الثياب، ومات فيه شريداً مهملاً شتّاماً بمعطف شبابه الفاني…
ليس بعيداً عن (ستوديو بيكاسو) مكاناً وزماناً اتخذ رسّام آخر اسمه، كما تزعم ذاكرتي، أدهم إبراهيم، أحد دكاكين الوطن محترفاً، وفيه رأيتُ، يومذاك، لوحة واحدة لطيور أو لدواجن رُسمت بالزيت بأسلوب انطباعي، وبعد زمن كان مصير هذه اللوحة قد ساقها إلى مطعم في شارع الوطن، فانتصبت فوق إحدى طاولاته، ثمّ سقطت في الزمن الذي اقتلع الرسام ومحترفه الصغير من الأيّام والساعات، وأطلقه في طريق بلا نهاية…
في المساحة الضئيلة لمحترف (فينوس) الذي أسّسه التشكيلي عيسى عبد الله في البصرة القديمة مطلع السبعينيات أنجز الرسّام مجموعة تخطيطات لكائن بجسد تُقمَع فيه رغائبه وهي تعجنه عجناً وتكيّف أعضاءه وشكله الخارجي بقواها الدفينة وفي الثمانينيات وفي قاعة نقابة الفنانين بالبصرة عرض عيسى عبد الله كائنه الأليم في معرض شخصي… إذا رغبت اليوم في زيارة الرسام فسوف يحزنك ضياعه بين ورش الحدادين المتكالبين على فينوسه.
هاشم حنون وعبد الملك عاشور رسّامان بصريان أرسى الرسم قاعدة صداقتهما، وأسّسا أكثر من محترف تشكيلي منذ الثمانينيات واستقرا معاً في (كاليري 93 ) الذي أنضج تجربتهما بتناغم أنتج العديد من الأعمال التي وجدت صداها في البصرة وبغداد.. وإذ انتقل هاشم حنون بتجربته نهائيا إلى بغداد، ومن ثمّ إلى عمّان، لبث عبد الملك عاشور في البصرة يذود بالصبر الملوّن بالزيت عن ما تبّقى من كاليري 93 .
قريباً من فندق الديرة الفخم في شارع الوطن صعد التشكيلي كامل حسين، في يومٍ من أيّام تمّوز ثمانيني، إلى شقّة قديمة فصبغ جدرانها وسلّمها الحجري بطلاء شديد اللمعان، وعلّق على شرفتها (مرسم تمّوز)، مرسمه، بعدما أنزل ستارة عريضة من القماش تدلّت من الشرفة بلوحة هائلة رسمها بالزيت للـ (الحسناء والوحش)، وعقب كلّ كأس كان يعبّها في هذا المقصف، أو ذاك من مقاصف شارع الوطن المرحومة، كان كامل حسين يرسم السيّد المسيح بعينيْن غارقتين على جدار أو في قماشة…
وقبل أن يبيع كامل مرسمه ويهجر البصرة ركبنا، هو وأنا، عام 1992في لوري استقرت في حوضه مجموعة كبيرة من أعمالنا، وقطعنا الطريق إلى بغداد بثلاث عشرة ساعة أو أكثر، في أشد شهور صيفنا ضراوة، آب، وعرضنا تلكم الأعمال، أعماله بالزيت في قاعة الرواق، وأعمالي المحروقة في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث، وعدنا بمجرد كلمات في قصاصات ورق جرائد قليلة…
بعد 2003 خرج تشكيليو البصرة، أسوةً بغيرهم، من قيامتهم القديمة إلى قيامتهم الجديدة بحريّة من نار ودخان وموت في معرض جماعي كبير بين لونين، لون الدكتاتوريّة التي هَجَوْها، ولون الحريّة التي باركوها بأثقالها…