وهاتان كفّاي أبسطهما عَتَبةً ثانيةً لسُلَّمِ نزولك وسأجعلُ من رُكْبَتيَّ عتبةً ثالثة .
أُنظري , الحقولُ تزيَّنتْ احتفاءاً بمقدمكِ , وسأسمّيكِ من الآن باسم التي أحبَّتني وأحبَبْتُها ثم استجابتْ بلا وداعٍ لنداء الأبد وباتت تتنفَّسُ في جسد قصائدي ,
سأسمّيكِ باسم الصروح المفقودة : الأملِ , الحرية , الإخلاص وأقول : الرياحُ مَهما تبلَّدتْ ستجدُ ذاتَ يومٍ غيوماً فتهرعُ لحملِها مبتهجةً ,
والنجومُ مَهما ابتعدتْ عن ناظرينا نحن البَشَرَ ستظلُّ على مرأىً من الآلهةِ وعلى مرأىً منكِ ,
والزهور مَهما عبثَتْ بألوانها أصابعُ الخريف فعطرُها باقٍ في جدائل النساء
والعصافيرُ … ؟
لا أتذكَّر أني رأيتُ جُثةَ عصفورٍ في طريقي حتى أنني لا أُصدِّق أنها تموتُ ! أظنُّ أنها تقطعُ عمرَها اللحظويَّ زقزقاتٍ حتى تستهلكَ جسدَها أيْ تتبخَّر , تتحوَّل الى أصواتٍ تملأ فضاء الدنيا وفضاءَ روحي ,
والينابيعُ مَهما طمَرَها ترابُ العواصف فسرعانَ ما يطلُّ من بين شقوق التراب برعمٌ أخضرُ ساخراً فنعرفُ أنهُ ما زال في الأعماق مرجانٌ ولئالئ وأصداف وأسماك
وهناك الى الشمال حيث المدينة , المدينة ,
كم مرةٍ دخلتُها صارخاً في شوارعها الليلية : مَن انا ؟ ما انا ؟ فلا تنحني أسفاً وتعاطفاً إلاّ الجدران !
أقول : هناك كنتُ في أشدِّ ساعات توقي الى الوحدة المطلقة أجلس على أريكتي وكما الآن , أنظر من خلال النافذة أرى حدود الدنيا بعين القلب ولكن هل استطعتُ التعبير عنها يوماً ؟
مَهما يكنْ فقد كنتُ أقول متمتماً مع نفسي :
الأرصفةُ مَهما امتصَّتْ من نفاياتٍ وعويلِ شاحناتٍ ففي المساء ستزيح عنها هذا الغضبَ العاجز أغنيةٌ خافتةٌ يدندنُ بها عابرُ سبيلٍ مخمورُ القلب .
ومرةً أخرى على الطرف الشمالي , ألا ترين معي تلك الغابة ؟ كنتُ كذلك أرقبها وفي آخر مرَّةٍ ومن خَلَل الظلام رأيتُ على أحد أطرافها ضوءاً بحجم دُبّوسٍ , إنه منقارٌ أحمر لبلبلٍ من بلابل الدانوب , كان يتحرَّكُ قلِقاً , أكان يكافح للإستيقاظ من حلمٍ مزعجٍ ؟ وكنتُ أقول : حتى ذلك البلبلُ ستنحني ورقةٌ فتربِّتُ على كتفهِ , واستبشرتُ قائلاً عمّا قليل ستطلع أنوارُ الفجر فيُداهمُها بالرفيف .
لا تسأليني أيتها الربَّة كيف عرفتَ هذا … إنني أعرف هذه الغابة بكلِّ تفاصيلها فعلى لحن أوراقها وهي تتمايل نغَّمتُ قصائدي وكان من أنساغها حبري وجنب كلِّ جذعٍ من جذوعها غرستُ زجاجة نبيذٍ حتى أنها كانتْ تورقُ أحياناً قبل الأغصان !
وذلك البحرُ على الشمال أيضاً ,
ألا ترينَ أنه يتحيَّنُ فرصةَ اقتراب الأشرعة , الأشرعةِ البعيدةِ حدَّ الدُّوار ؟ أقول مَهما طالَ أمدُ ابتعادها ورُسوِّها عند السواحل ستناديه في الختام , وكلُّ شراعٍ لسانٌ مائيٌّ بليغ فالبحر لا يفهم إلاّ لغة الرحيل الزرقاء ,
وتلك الجبال السوداءُ الخُضرةِ والمتمايلةُ السفوح حتى لتوشك أنْ تطير , رأيتُ ذات ظهيرةٍ نجمةً تتقافزُ على قممها وعلى كلِّ قمةٍ تنبشُ حفرةً وتغرسُ فيها شيئاً ما لا أدريه , لعلَّهُ دمعة او وعدٌ وكانت تحيط بها خيامٌ تخفق كالغيوم الصغيرة .
أقولُ أيتها الربَّة : كلُّ هذا وجدَ لهُ حَلاًّ إلاَّ دمي الدائر كقلادة براكين وانا ما كنتُ لأقول هذا إلاّ لأنك تقفين الى جواري وتصغين اليَّ وإلاّ فجرحي أعمقُ من كونٍ مقلوب .
فقالتْ الربَّة :
إبقَ في محيط عذابك فالخروج منه فخٌّ ! قد تتبرَّمُ من سعادة الناس وعبثيتها وهو كذلك فما جدوى واحةٍ في صحراء غير آهلة إلاّ بالموت وصفير الريح ؟
ولكنَّ أفكارك عناوين يقظتك , والفكرةُ , أيةُ فكرةٍ إذا بقيتْ حبيسةً في داخلك فلن تجد مَن يمَيِّزكَ عن السجّان !
أعرفُ أنَّ في داخلك الكثيرَ من الأفكار التي تمور وتنتظر في الطابور .
إصنعْ من بعضها شراراً .
انا لا أريد لك الشفاءَ العاجل وإنما الحرف القاتل , الحرفَ الذي تقول بهِ بأنك وضعتَ الجبّارَ المناسب في القُمْقم المناسب !
المَرسى النهائي
*-*-*-*-*-*-*-*
في الغالب لم أكسبْ من علاقاتي مع الناس إلاّ الإحباط !
لذا فخوفي على بقايا صحَّتي منعني منذ زمانٍ من خوض تجارب كبيرة مع الناس فَهُم إذا جُرِحوا ينسون جراحهم بسرعة أمَّا انا فحتى إذا حاولتُ نسيان جرحي فهو لا ينساني !
أهي علاقة اهتيامية بيني وبين الجراح ؟
ومع هذا امتلأتْ لديَّ رويداً رويداً صُرَّةٌ من الجراح في الفترة الأخيرة .
رستْ بي مراكبي الصهباء في مستشفى .
اليوم عندي موعدٌ مع الطبيب وأعرف أنَّ علاجي الحقيقي عندك أيتها الربّةُ ولكني رغم ذلك سأحاذر أنْ أدخل عليه بمزاجٍ منحرفٍ ,
مزاجٍ منحرفٍ كإخدودٍ …
ها هي الشمس تعلو , هذا الجِرْم العجيب , هذا الجبل البركانيُّ الطائر .
نعم , أيتها الربَّةُ !
إنَّ النار ذُروةُ ما تصل اليه الأشياء والموجودات.
هذا هو المَرسى النهائي والأخير للإنسان ولكلِّ شيء إذنْ
ذاك هو الإنسان , إبليس يومَ كان طفلاً !
أيتها الربة , لقد أُغلقتِ الأبوابُ أمامَنا وما أُعطينا من أجل المعرفة سوى مفاتيحَ صَدِئة ؟
ولا أدري أخوفاً علينا ؟ أسخريةً منّا ؟
هذه المفاتيح الصدِئة ربما عندي دواؤها , لديَّ المَبارِدُ , إنها أسناني , إنها نواجذي !
طلبَ مني الطبيبُ أنْ أفتحَ فمي ففعلتُ بعدَ تردُّدٍ ,
سألَ : ما هذا الذي في فمكَ ؟
أجبتُ : سرُّ الكون .
فقال : على رسلكَ أيها الشاب المسكين , كلُّ مَن جيءَ به الى هنا , جيءَ به لِعِلَّةٍ وقد مَررتُ على مرضاي فوجدتُ عِللاً عديدة وكان في مُقدِّمتها الهلوسة , غير أنَّ هلوستك هذه قد تكون جديدة عليَّ ,
قلتُ : ليست في الأمر هلوسة , منذ زمنٍ وأنا أفتِّشُ عن إكسيرٍ .
سأل : هل درستَ الطب ؟
قالتْ الربَّة : قُلْ نعم .
فقلتُ .
كان جالساً يتحرَّك على كُرسِّيهِ جيئةً وذهاباً وكأنهُ يتحدَّث من داخل زورقٍ وأنا أقف على الضفة أمامهُ وفجأةً توقف وراح يسير في الغرفة ببطيءٍ رائحاً غادياً ,
قال وهو يبتسم : في العام الماضي كنتُ في بعثة طبية الى أمريكا اللاتينية …
ثم استدرك : ولكن هذه الحكاية سأحكيها لك حين تتحسَّن صحتك .
وأضاف : إنَّ ما تحتاجُهُ الآن هو الدواء .
وبعد قليلٍ زَرَقَني إبرةً في الساعد فعضضتُ على نواجذي بقوةٍ وألمٍ ,
وماذا ؟
لقد رأيتُ عوالمَ لا تُوصَف , لا تُوصَف .
لو ناولتِني دفتري :
ولكنَّ الربَّةَ حين أشرتُ الى القصيدة التي عنيتُ قرأَتْها هي قائلةً حتى يتعافى صوتك :
هذا الذي كان وكان أيُّها الطبيبْ
أمّا لماذا جئتُ ها هنا فانني أجيبْ :
سُرتُ على الدرب دروبا
وحين ظَلَّ يمضي بي
أدركتُ أنَّ اللّعْنَ طُوبى
وعالمَ التشَرُّدِ النقيِّ كالإيمانْ
وفَجأةً وجدْتُني أوزِّعُ الأكوانَ بالدِّلاءْ
لكنني حين التَفَتُّ للوراءْ
إذا بقامتي قد أصبحتْ كرُوحِهم مُحدودِبهْ
وكلِّ ما حولي مُعارٌ للصدى والدخانْ
وكانت السماءْ
سُجّادةً مُثَقَّبهْ
خطوطُها تَضُجُّ بالوقاحهْ
مثلي أنا الآنَ أجيءُ ناشداً منكمُ لا استشارةً
وإنما استراحهْ
تُغْني ولا تُغني !