توفيق الشيخ حسين:
مات وهو في الثامنة والثلاثين ” غريبا ً ” عن قريته جيكور .. بين ميلاده عام 1926 ووفاته على سرير أبيض في أحدى مستشفيات الكويت عام 1964 ظلت حياته مزيجا ً من الألم , مات السياب وترك ثراء ً كبيرا ً من الشعر الخصيب الذي جعله في مصاف الشعراء العظام بسبب تنوع إنتاجه الشعري وغزارته وشموله الكثير من القضايا الإنسانية ..
عن دار تموز في دمشق صدر للشاعر والأديب محمد صالح عبدالرضا كتاب ” بدر شاكر السياب .. مقدمات وصفحات نادرة “.. يضم الكتاب أربعة محاور
( مقدمات انطباعية .. السياب وقضايا الشعر .. السياب والكتابة القصصية .. قصائد لم يحوها ديوان ) ..
وقد كتب مقدمة الكتاب الشاعر والمحقق شاكر العاشور:
” لا أحسبُنا نـُضيف جديدا ً عندما نكتب مقالا ً تحليليا ً نقديا ً عن بدر شاكر السياب , سواء ً كان ذلك التحليل على نول القدماء من عُلمائنا أو على طريقة المحدثين المشرّبة بالمنهاج الغربي وفلسفته , من هنا انطلقت رؤى السياب النقدية التي أسقطها على شعراء عصره ومثقفيه أو على كتاباته غير الشعرية في ضمن ما وثـقه ُ لنا محمد صالح عبدالرضا في هذا الجهد الكبير الذي ينضاف إلى جهوده السابقة في توثيق تراث السياب , فان ّ له قيمة تاريخية كبيرة تضئ لنا جوانب من تجربة شاعر كبير تحرك في دواخلها المتشعبة ليصنع من إرهاصاتها مجده الباذخ , إذ شكلت مرتكزات لبناء شامخ ” ..
يبدأ الشاعر والأديب محمد صالح عبدالرضا كتابه ” بمقدمات ” وينطلق من ارتباط الشاعر بدر شاكر السياب بمجتمعه جوهريا ً وهو يستقي شواهده ولا ينفعل به قدر محاولته سبر أغوار حياته .وحين يلتحم الشاعر والعصر إنما يستوعب بصدق مواقف الإنسان المعاصر الحياتية تلقائيا ً.. وان للسياب في ذلك رأيا ً مؤداه أن :
” الشاعر إذا كان صادقا ً في التعبير عن الحياة في كل نواحيها , فلا بد أن يعبر عن آلامه وأحاسيسه الخاصة التي هي في أعمق أغوارها أحاسيس الأكثرية من أفراد المجتمع ” ..
وفي مواجهة ثورة التجديد الشعري في القصيدة الحديثة التي شغلت حيزا ً كبيرا ًمن اهتمامات النقاد وقف السياب مؤكدا ً التجربة المتميزة وجدة الرؤيا في الوعي الشعري الجديد وضرورة تخطي المفهوم التقليدي للشعر وأتضح ذلك من اعتقاده بان الثورة الحية على القافية تتماشى مع الثورة على نظام البيت , حيث يطمح الشاعر الحديث إلى أن يجعل قصيدته وحدة متماسكة الأجزاء , ودعوته إلى شعر مجدد يواكب العصر, والى عدم التراجع خشية من النقاد أو التهيب من التجديد . ونظرته إلى الشعر الحر كبناء فني ّ جديد واتجاه واقعي ّّّ جديد يرفض الميوعة الرومانتيكية وأدب الأبراج العاجية وجمود الكلاسيكية .وتعليله ميلاد حركة الشعر الحر واشتدادها بأن من أسبابها استفحال خطر الشعر المنبري ..
يعد استخدام الرمز والأسطورة من أدوات التعبير الشعري البارز في تجربة الشعر المعاصر, تدليلا ّعلى قوة التأثير الشعري واستكشاف العلاقات الحية بين الموضوع والتعامل الرمزي والارتباط بحاضر التجربة وينبوعها التعبيري الذي يتصل بسياقها الخاص المناسب للأسطورة أو الرمز الحي ومغزاه الفكري الذي تجسمه الرموز المرتبطة بالأسطورة وعناصرها وشخوصها . ويعتقد السياب بضرورة :
” أن نستعمل الرموز والأساطير التي تربطنا بها رابطة المحيط والتاريخ أو الدين دون الرموز والأساطير التي لا تربطنا بها إحدى هذه الوشائج ” .. وأنه أستخدم الرموز البابلية لإحساس بما فيها من غنى ً ومدلول ولقربها منا لأنها نشأت في بلادنا , و يقول :
” لعلـي أول شاعر عربي بدأ باستعمال الأساطير ليتخذ منها رموزا ً , كان الدافع السياسي أول ما دفعني لذلك ” ..
تعتبر الرموز الأسطورية أكثر استحبابا ً للشعراء .. وكما تقول الشاعرة والناقدة سلمى الخضراء الجيوسي :
” وكان إدخال الأسطورة الرمزية بنجاح إلى الشعر انجازا ً حداثيا ً مهما ً يدين إلى السياب بوجوده الأساس ” ..
ومن يتحرى أبعاد تجربة السياب الشعرية يدرك أن صورة الوطن تلج في ضميره بانفعال يلتهب , وبتحسس صادق يعبر عن التحامه المصيري بالأرض والإنسان لتحقيق ذاته , حتى في حالات التوتر التي تبعث في شعره رؤيا جديدة لا تزوّق ألفاظا ً ولا ترصف معاني منفعلة , بل تُترجم حرارة الانتماء إلى ترابه المقدس .. وهكذا تستطيع كلمات بدر أن تدخل إلى القلب بنفاذ عميق بما تبتدعه من صور وأحاسيس تنمو جذورها الباهرة وتتبلور تعابيرها بنسيج متفرد يتحرك فيه الحس ّ عبر الرؤى والمشاعر التي تحمل عنصر الصدق وهي تتعامل مع اللغة بغليان شعوري وراء استعاراتها ورموزها وحرارتها الوجدانية لتشرق الكلمات إشراقا ً خلابا ً في تشكيلها الجمالي وتعبيرها الإنساني عبر القدرة الشعرية الفائقة ذات النكهة المميزة والمعبرة عما يتفجر في قرارة النفس , حيث الإحساس الإنساني الذي تثيره قصائده وحب الوطن الذي يتحرك فيها تلقائيا ً وعفويا ً ويمتزج بقيمه الروحّية والفنية ليفيض بالحنين والعواطف المتأججة والشعور بالحرمان أحيانا ً ,فتكون الصورة ذات إثارة وجدانية خاصة تشف عن الإحساس القوي ّ بالغربة والحنين الأبدي إلى الوطن وشمسه الجميلة ..
الشمس ُ أجمل ُ في بلادي من سواها , والظلام ْ
حتى الظلام ُ هناك أجمل ُ , فهو يحتضن ُ العراق ْ
واحسرتاه ُ متى أنام ْ
فا ُحسُّ أن ّ على الوسادة ْ
من ليلك ِ الصيفي ّ طلا ً فيه عطرُك َ يا عراق ْ
لقد شكل الوطن في قصيدة السياب حالة تأملية في حقائق النفس الفياضة بالمأساة , والتي تتنامى من شفتي جرح يتعمق حسيا ً وينصهر مع النفس عبر شفافية الكلمات التي تختلج بها , حتى يصير الوطن رمزا ً للحياة كصمتها المطلق , والحنين إليه حلما ً تأخذ امتداداته العميقة في حالات من الشذرات الملحـّة أو الهام الطبيعة أو الشوق إلى الوطن ..
أين العراق ُ ؟ وأين شمس ضفاه تحملها سفينة ؟
في ماء دجلة أو بويب ؟ وأين أصداء الغناء ؟
صفقت كأجنحة الحمام على السنابل والنخيل
فالوطن في قصائد السياب كان تعبيرا ً عن اللقاء الحميم بين الذات والأرض , ويرتفع إلى مستوى التجربة الخلاقة استجابة لوحدة شعورية تؤكد كرامة الإنسان الذي يكبر ويعاني فتنطلق منه الصيحات عبر الأحداث والتجارب والمواقف الحاسمة ..
السياب يهدف من وراء طرحه للنموذج البشري في القصيدة إلى التوصل إلى أغراض تتعدى مساحة حركاته وانفعالاته فهو يتدخل في حركة نماذجه العديدة التي احتوتها قصائد ” المومس العمياء ” و ” الأسلحة والأطفال ” و “حفار القبور ” و ” عرس في القرية ” و ” هرم المغني ” و ” المخبر ” وقد لاحظ عبد الجبار البصري أن السمة الأساسية في قصائد السياب الطوال ظاهرة الازدواج في الشخوص والعاطفة والمبني والموضوع الفني وازدواجية الشخوص تعني لديه أن كل شخصية في القصائد السيابية تمثل فرديتها وتمثل نوعها .
يتحول الشاعر والأديب محمد صالح عبدا لرضا إلى المحور الثاني ” الشاعر وقضايا الشعر ” ويؤكد بان السياب ذو قدرة إبداعية بارعة , وانه أدلى في أكثر من مناسبة بانطباعات حول الشعر, والمعاصر منه بخاصة الذي أسهم في خلق منحاه الشعري الحديث في الوطن العربي مع زملائه الشعراء الرواد , من خلال قصائد جديدة بلغتها وأسلوبها وفي مناخ شعري جديد ..
كانت للسياب كتابات نثرية , منها القصة , ومقالات حول المسرح والفن التشكيلي والدراسة الأدبية في مجال نقد القصص وتجارب الشعراء , وقد كتب السياب مقالة عن مجموعة القاص مهدي عيسى الصقر ” مجرمون طيبون ” في جريدة الشعب ” العدد الأسبوعي ” الصادر في 29 حزيران 1957 .. وكذلك مقالة تحت عنوان ” الرصافي الشاعر الذي لم يلفق الأحلام ” في جريدة ” الثبات ” البغدادية ” في الذكرى السابعة لرحيل الرصافي في 17 آذار 1952 والتي كان يرأس تحريرها الشاعر الكبير محمد مهدي ألجواهري , وفي عام 1958 وعلى صفحات ملحق من ملاحق جريدة الجمهورية كتب السياب مقالة بعنوان ” جواد سليم الذي يخبرنا الأشياء ” ..
المحور الثالث من الكتاب ” الكتابة القصصية ” , حيث نشر السياب ست قصص في محاولات كتبها بين عامي 1941- 1958 وهي :
1- فاجعة في الصحراء .. جريدة الاتحاد 29 أيلول 1941 .
2- أربع بنات مدرسة .. جريدة الشعب 26 آب 1955 .
3- كاسي حلاق القرية .. جريدة الشعب 18 كانون الثاني 1956 .
4- شجاعة في يوم قائض .. جريدة الشعب 1 شباط 1958 .
5- خالقو يذهب إلى المدرسة .. جريدة الشعب 15 آذار 1958 . 6- عبد الماء في شط العرب .. جريدة الشعب 12 تموز 1958 .
المحور الرابع ” قصائد لم يحوها ديوان ” ويتناول الشاعر والأديب محمد صالح عبدالرضا ست قصائد لم يحوها ديوان من دواوين السياب ..
قصيدة ” نبوءة حزينة ” حيث حصل عليها في عام 1978 من نجل الشاعر السيد غيلان بدر شاكر السياب والذي وجدها في دفتر قديم يعود لوالده حينما كان تلميذا ً في دار المعلمين العالية وتقترب من روح قصائده في مجموعته الشعرية ” أزهار ذابلة ” ..
يستطيع قارئ هذه القصيدة ومثيلاتها من قصائد السياب الأولى ذات المنحى الرومانسي أن يلاحظ الميزات التالية :
1- البحث النفسي عن امرأة في إطار الحب الضائع :
حطمتها قبضة سكرى .. ومرّت مقلتان
بالشظايا .. وتوارى عاشقان
2- الانفعال الوجداني إزاء الخيبة الروحية التي يعانيها :
أنا لا أهواك لا أمضي سأمضي في ذهول
3- مسحة الحرمان الكئيبة وأجواء الحزن والألم :
والشحوب الراعب المكسوف يلقيه الهلال
في رقاد الليلة العشرين .. حزنا ً لا ضياء
4- الحلم الرومانسي الذي يستغرقه وجدانيا ً:
وتصافحنا .. وظلان .. وظلان ونور
ويد في غرفة زرقاء والنجم الصغير
أوقد الشباك .. فامتدت يد من كل باب
5- اللجوء إلى الطبيعة وصورها كنوع من العزاء :
الظلال المقمرات الشحب
والسكون الخائف المضطرب
” نبوءة حزينة ” قصيدة تعبق بالبساطة التي طبعت شعر السياب , إن هذه القصيدة إذا ما روعي زمن كتابتها فإنها كانت في سياق حركة التجديد الشعري المعاصر ضمن مسار التفرد في الصوت الشعري الخاص رغم وقوعها تحت مؤثرات شعرية خارجية , ولشاعرها خصوصياته التعبيرية الجديدة التي تأكدت في تاريخه الأدبي وعبر تطوره الفني وحضوره الإبداعي ..
قصيدة ” عودة من الموت ” فهي تنتمي إلى روح قصائده من ديوانه ” شناشيل ابنة الجلبي ” عام 1964 , وقد أشار أكثر من باحث في شعر السياب إلى أن هذه المرحلة يكتسب فيها الموت في شعره طابعا ً ذاتيا ً لا يلغي اهتمامه بالواقع الموضوعي الذي يخص الوطن , انها مرحلة الاستسلام للموت وفقدان الأمل بالشفاء , حيث تشكل الذكرى ملاذه من سقام المرض الذي كان يقاسيه وتنهض أمامه صورة ” وفيقة ” حبيبته الراحلة التي يحلم بلقائها بعد الموت ..
وطرقت باب الموت ثم وقفة انتظر الجواب
لا شئ غير صدى يعود إلي ّ في الصمت العميق
أنا والدجنـّة والطريق
خفق الغبار عليه من همس الصدى …
ما انفك باب في الظلام , ولا تأوه
عنده الا التراب
حلم رمته الذكريات كجدول عكس النهار
لا باب يفتح والنوافذ مظلمات كاللحود
ياليت أنـّك يا وفيقة .. آه ياشلال دود
جرف القرون , طوى شراعا ً من شواطئ صور طار
ياليت أنـّك يا وفيقة تفتحين لي الحدود
ما بين عالمنا وعالمك المقنع بالغبار
” أغنية إنسان متحضر ” هي القصيدة الثالثة وكانت ضمن دفتر يعود للسياب وبرفقتها قصائد له منشورة في مجموعته ” شناشيل ابنة الجلبي ” وقام الشاعر والأديب محمد صالح عبدالرضا بنشرها ضمن كتاب ” 27 قصيدة للسياب بخط يده ” الذي صدر عن المركز الثقافي لجامعة البصرة عام 1991 ..
إن القيمة الفنية لقصائد السياب غير المنشورة إذا ما انحسرت الآن أو لم تنحسر فهي ذات قيمة توثيقية لأنها تشكل جزءا ً من تجربة شاعر أثـرفي الحياة الثقافية العربية المعاصرة .. في هذه القصيدة يستخدم السياب قصة ” يأجوج ومأجوج ” التي يعرفها كل من قرأ القرآن ” سورة الكهف الآيات 94-97 ” , لا شك أن هذا الاستخدام يكشف عن معاناة العذاب الإنساني المتكرر لإنسان فاقد الأمل , مشدود إلى الموت , خسر القدرة على مواجهته للحياة وكأنه يخدع نفسه بالحياة في شعور يختلط به الخوف من المجهول ودورة الألم الممض , إضافة إلى ذلك تحمل القصيدة رؤيا كونية لشاعر التحم بالهموم الإنسانية الكبرى , وغنى أغنيته الأخيرة وسكت ..
مشدودة عيناه
مشدودة رجلاه والأ ُذن الى النور
لا شمس أو نجمة
أو قمر تكشفه الغيمة
معبودنا .. نور من الكهرباء
تهدي قرابين الدنانير
إليه في أصباحنا والمساء
يفصل يأجوج ومأجوج , إذا جاعا , عن الناس
لكن إنسانا ً وقد ثار وفي أعماقه الدامية
ما يجعل الإنسان إنسانا
ألقي من السور ذراعيه , وفي دوامة الهاوية
ومات جوعانا
إن للسياب في أذهاننا نسقا ً شعريا ًذا قسمات محددة ونسيج خاص , والحاسة الانطباعية إزاء شعره تنقلنا الى سيرته الذاتية ودلالاتها وتجلياتها , حيث تقدم في تكوينه الإبداعي تفسيرا ً لتصور الحياة , خاصا ً وفرديا ً عبر واقع جسدي نفسي بما يعطي لشخصيته عمقا ً سيكولوجيا ً وبخاصة في عملية تفاوضه مع البقاء من خلال لغته الدالة المحملة بالحزن ..
في قصيدة ” بلا عنوان ” يشغل موضوع ” الوجع والعودة ” محورا لها , وهو موضوع شعري استغرق العديد من قصائده واستوفى جوانب مختلفة منها , وكانت عصارة روحه كامنة فيها بمرارتها وقتامها , ويغلب الظن انه كتبها على سرير مرضه في رحلة احتضاره حيث كان الألم وهو السارد عند شاعر شاحب اللون ناحل الجسم , ضعيف العظم , عاجزا ً عن المسير كأنه بقية إنسان ..
انها قصيدة تستبطن إشكالية الأمل والخيبة والضوء والظلمة ..
القيت على حجر السلم
جسمي المكدود
ومددت يدي الى الباب الموصود
وعيوني مغمضة تعلم
يمناي .. فأرجعها قلقي
هل أطرق ؟ همس مذعور
هل أرجع ؟ يأس موتور
مصباح يعوزه النور
أأبوح .. وأصرخ بالباب
والسلم .. والنور الخابي
حطـّمت ُ جدار الأحقاب
في قصيدة ” قميص الردى ” استخدم السياب أسطورة يونانية قديمة تشير الى أن ” دنانيره ” زوج هرقل أرادت أن تؤجج نار الحب في قلبه , حين سرت إشاعة تفيد انه سيتزوج ” بأبولي “ويتركها , لذا قدّمت له قميصا ً كان قد أعطاه لها القنطور ” اينوس ” قبل موته وكان هذا القميص ملطخا ً بدمه الذي سرى فيه سم الأفعى ولم تكن دنانيره تعلم أن هذا القميص سيؤدي الى هلاك زوجها هرقل , لأن ” اينوس ” أوهمها بأنه يؤدي لتحرك دفين الحب ولم يفصح عن نية انتقامه من هرقل ..
يا طيـّب السم ّ في قلبي , وأعراقي ..
ولحمي
يا جحيما ً .. دار رأسي منك ,
يا رمضاء جسمي ,
يا هجيرا ً في دمي , يا موت ,
يمشي في عروقي ,
الأفاعي كلها التمـّت لقمعي ,
والشباب ,
من دمي , أي احتراق من دجى ّ في كل ناب
يا قميص النار , يا ثوب الحريق ْ
يا عدوا ً كالصديق ,
يا قميص السماء
لم تجد ْ يوما ً علينا بالمطر
والمساء
لم يُفتح بابه نور القمر
” غدا ً يحضنك الفجر ” القصيدة السادسة التي لم يحوها ديوان ..
قصيدة رومانسية شارك السياب في نظمها مع الشاعر صالح فاضل المحامي مهداة الى صديقهما الشاعر محمد علي اسماعيل في الفترة التي كان السياب خلالها دون العشرين , أي في العمر الذي تتفتح فيه القلوب للحب , هائما ً بقصائد شاعره الأثير آنذاك علي محمود طه المهندس وهائما ً برؤى ” الشاطئ والفجر والأطياف والمنى والأنغام ” التي تستهويه وهو يعزف الحانه الأولى على قيثارة الشعر ,وتلاحظ في القصيدة مؤثرات الموشحات الأندلسية في التركيب والمعنى ..
أيها الروح الذي يشدو الدنى
ويغني فوق محراب الخلود
سلسل الأنغام في دنيا المنى
وابعث النشوة في قلب الخلود
أيها الروح الذي يشكو الضنى
ويواري الحلم في ليل السقام
هاجك الحب وأضواك العنا
أم طواك اليأس في دنيا الغرام ؟
استفق واسبح بآفاق الأزل
باسطا ً أجنحة الحب الطهور
وانهل الفرحة في كأس الأمل
هكذا استطاع الشاعر بدر شاكر السياب بما امتلكه من قدرات شعرية أن يعبر عن ذاته القلقة المعذبة وان يضع وطنه ” العراق ” ومدينته “البصرة ” وقريته التي ولد فيها ” جيكور ” ونهرها الصغير ” بويب ” في قلب العالم المعاصر والحداثة الشعرية العراقية – العربية ..
في نهار شتائي حزين في 24 كانون الأول سنة 1964 خرج أربعة من الرجال يشيعون بدر شاكر السياب إلى مقره الأخير في مقبرة الحسن البصري في الزبير وكان خامسهم المطر الذي وهبه السياب أجمل قصائده , لقد كانت نهاية السياب قصيدة لم يكتبها بدر بل كتبها المطر على تراب العراق الخصب ..