” دماغي وارث الأجيال،
عابر لجة الكون”. السياب
تمكن الشاعر” بدر شاكر السياب” بما امتلكه من قدرات شعرية غنية أن يعبر عن ذاته القلقة المعذبة وأن يحول بعض تجاربه الحياتية الشخصية والسياسية، المُخفقة، إلى نصوص شعرية متألقة، وأن يضع وطنه العراق ومدينته البصرة، وقريته التي ولد فيها،”جيكور- النائمة في ظلام السنين” وحكاياتها الخرافية وما تنطوي عليه من”ميثولوجيا” محلية وخصوصية جنوبية ، وشخصياتها الفلاحية البسيطة ورعاتها ، ونهرها الصغير (بويب) المجهول لنسبة كبيرة من سكان البصرة بالذات ،ناهيك عن العراقيين، والذي لا يؤشر عليه حتى في الخارطة الجغرافية للعراق، في قلب العالم المعاصر والحداثة الشعرية العراقية- العربية, في صورة أساطير ووقائع ترتبط بالحياة. كما تجاوز،منذ منتصف خمسينات القرن الفائت، ذلك إلى نبض الأحداث التي كان يمور بها العالم كله. وعلى الرغم من تحولات السياب الفكرية-السياسية والصاخبة ، التي جَرَتْ عليه الويلات والمصائب ، القاسية المريرة والعذابات الخاصة، والهجمات من جميع الجهات، إلا أنه ما يزال يثير جدالاً ثقافياً متواصلاً، لا أظنه سينقطع. يظل شعر السياب مفتوحاً على تأويلات عدة، ويبقى الجدل والخلاف في ريادته للشعر الحديث، مسألة من الماضي ولا ضرورة للتطرق إليها لأن مسألة مواصلة التألق بالنسبة للسياب لا جدال فيها، فهو بقي حتى اللحظات الأخيرة من موته الفاجع ، بعد ظهر 24 /12 / 1964 في المستشفى الأميري بالكويت يكتب الشعر الحديث بنوازع وتوجهات متجددة وثيمات عدة، بينما مَنْ قاسمه ، حسب النقاد، ريادة الشعرية العربية الحديثة أخذ شيئاً فشيئاً يتراجع عن أطروحاته وتنظيراته تلك. السياب بقي على رغم محنه الحياتية ، وتحولاته الفكرية وتناقضاته السياسية ، والتي أجهد نفسه، عبر وسائل عدة لأن يجد المبررات الذاتية لها، يعلو شعرياً فوق روحه وحياته الشقيتين وتلك حقيقة ثابتة لا يمكن دحضها أو تجاهلها، لأن الشعر يملك سعاداته وهناءاته الخاصة والخالصة مهما كان مستوى وحجم الأحداث، التي ينطلق منها أو يسعى لأن يصورها. حول شأن- ريادة الحداثة الشعرية- والخلاف حولها وهل كانت الشرارة الأولى للسياب أم لنازك الملائكة؟. نرى إن هذا الموضوع بات من الماضي ولا يقدم أو يؤخر ، ولكننا نلفت النظر إلى ما ورد في كتاب الناقد الراحل عبد الجبار داود البصري “نازك الملائكة..الشعر والنظرية” / وزارة الإعلام/ مديرية الثقافة العامة – بغداد/ سلسلة كتاب الجماهير/ دار الحرية للطباعة/1971. إذ يؤكد البصري فيه : أن (نازك) تراجعت شيئاً فشيئاً في ما كتبته لاحقاً عن كل تلك التنظيرات السابقة ، ويقدم (ترسيمة) تتألف من مجموعة من الرؤى والتنظيرات التي قدمتها نازك الملائكة وأخذت بالتراجع عنها شيئاً فشيئاً حتى تنتهي (الترسمية) بصفر يساوي صفراً ويمكن مراجعة الفصل الأخير من كتاب الناقد البصري ، وبالذات تلك (الترسيمة) التي وضعها في الفصل المعنون/الجـزر/ ص213-239.ونضيف إلى ذلك ما ورد في مقدمة أطروحة الباحث المصري حسن توفيق”بدر شاكر السياب- دراسة فنية وفكرية- إذ يذكر فيها:” شهد عام 1926 ثلاثة من الشعراء في العراق هم: بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، أما نازك الملائكة فقد سبقت زملاءها في العمر- ولدت عام 1923- وان تكن تخلفت عنهم فنياً- فيما بعد- وخير شاهد على هذا ديوانها الرابع(شجرة القمر) وقصيدتها المطولة التي أسمتها (مأساة الحياة وأغنية الإنسان) ففي هذين الأثرين ارتَدّتْ هذه الشاعرة- التي كانت من الرواد- ارتدادة كبيرة واضحة ، الأمر الذي جعل دواوينها السابقة تبدو أكثر تفتحاً ونضجاً من هذين الأثرين كما جعل زملاءها يتجاوزونها ويتخطونها إلى آفاق شعرية جديدة”- ص5- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت- ط1 /أيار- مايو/ 1979. لم ينكر بدر السياب جمالية العمود الشعري العربي ولم يبخس حقه بل كان مضيفاً لنمط جديد وشكل جديد، فيه من قوة العبارة وحسن السبك ما جعله ، يضارع النمط التقليدي الذي هيمن على البناء الفني للقصيدة العربية لأكثر من ألف وستمائة عام. أحب بدر (أربعاً)، أمه وجيكور والمطر والعراق، تلك هي الموجهات التي هيمنت على أغلب توجهاته الشعرية، أحب بدر أمه لفقدها وجيكور بديلها والمطر خصبها و العراق. “جيكور” قرية بدر التي ولد فيها، وعاش في “منزل اقنانها” حيث وصفه في ديوانه الذي يحمل ذات الاسم. بيت” الاقنان” الذي شهد الق الشعر المفتون بالجمال و الطبيعة وبساطة الإنسان الذي نسج جمالاً شعرياً داخل الجمال ذاته و( عراقه) وطنه ، الذي انه بخسه حقه في كل التحولات التي اجتاحته. لقد قرر اتحاد الأدباء والكتاب العرب في جلسة استثنائية عقدت في مدينة(أبو ظبي) عام 2013 اعتبار عام 2014 عاماً للسياب في كل البلدان العربية وذلك تزامناً مع الذكرى الخمسين لرحيله ، وقد دفعنا هذا الأمر إلى هذه المقدمة التي نرى لابد منها ،مع إنها معروفة، هذا القرار. والسؤال هو ما هي استعدادات العراق المعلنة، وطن السياب ومدينته البصرة بالذات، لهذا العام؟. وما هي الخطة الثقافية الفعلية، القابلة للتنفيذ و التي ستعتمدها الجهات الثقافية الرسمية، ممثلة بوزارة الثقافة العراقية أولاً لتحويل هذا الأمر إلى واقع يمكن تلمسه على صعيد الفعل والانجاز والتطبيق العملي لعام السياب؟. بصفتها جهة تملك المال والدعم والقرار الذي سيحول هذا الشأن إلى واقع ملموس؟. هل سيتم الاكتفاء بعقد مهرجان يتيم في مدينة السياب فقط؟. هل سيتم إعادة طبع مؤلفات السياب كاملة؟. وهي متوفرة في الأسواق بشكل لا مثيل له، حلالاً وحراماً؟!. هل سيكتفي اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين بافتتاح موسمه الثقافي بجلسة يتيمة، عن السياب، عقدها في بداية هذا العام؟. هل سيتم تفعيل هذا العام للوصول إلى الشارع العراقي في كل مدن العراق وقصباته لعقد ملتقيات ثقافية- أدبية تتناول أهمية السياب عراقياً وعربياً وعالمياً؟. هل ستعمد الحكومة المحلية في البصرة على تخصيص احد البيوت التراثية البصرية، المهملة، ليكون متحفاً للسياب يضم كل ما له علاقة به/مقتنيات/ مخطوطات/ ما كتب عنه في العراق والعالم العربي والعالم اجمع، عبر الملحقيات الثقافية العراقية وبمعونة منظمة اليونسكو الدولية حول هذا الأمر، وشراء مكتبته من عائلته بثمن له قيمة مادية أولاً ومعنوية ثانياً ، ويشرف على تأهيل المتحف لجنة مؤهلة هندسية وثقافية وفنية بحيث يتحول هذا المكان إلى مرجع لكل مَنْ يسعى لدراسة السياب؟.هل ستعمد دولة(العراق) التي تملك ميزانية خيالية بتخصيص جوائز(عالمية) ثابتة سنوياً تشمل كل الإبداعات الثقافية والأدبية والفنية والفكرية وباسم جائزة (السياب) العراقية والعربية والعالمية ،كجائزة (عويس) مثلاً ، ويتم إعلان شروط المشاركات فيها مسبقاً، عبر لجان وكفآت عراقية معروفة بقدراتها الأدبية والثقافية والفكرية في مختلف المجالات،وما أكثرها، ويتم الانتهاء من تحديد مَنْ سيفوز، عراقياً وعربياً وعالمياً بها، وتغدو سنوية وتوزع في ذكرى وفاته بالذات؟. أم سيمر عام السياب، في العراق، باهتاً وبائساً كما الحياة، حالياً، في وطنه الذي ظل يلوح له من بعيد و يصرخ غريباً وبعيداً ونائياً عنه:
“عراق
عراق
عراق..
ليس سوى العراق.. “!؟.