نظم اتحاد الادباء في البصرة جلسة نقدية لمنابة صدور المجموعة الشعرية للشاعر ثامر سعيد (ارض الله الغليظة)، شارك فيها عدد من الادباء بملاحظات حول المجموعة كان ابرزها ورقة الناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي، الذي استهلها بالتوكيد على ان رؤية ظلال احكام معيارية في ملاحظاته امر لا مفر من وقوع درجة منه وتمنى غفران ذلك؛ لان المعيارية كامنة منذ اول خطوات النقد التوصيفي متمثلة في اختيار التجربة واختيار النماذج موضع الدرس واصفا ادعاء (جون كوين) بان الاجيال قد اختارت له نماذجه من خلال راي تلك الاجيال ليست الا حيلة لا تنطلي بسهولة.
ثم ابتدا بتناول عتبات نص ثامر سعيد، مؤكدا انه ينظر الى الكتاب (اي كتاب) باعتباره وجودا ماديا كان (جان جينيه) يسميه (مناصا)، اي وجودا ماديا من الغلاف الى الغلاف، ونعني بالمناص كل الوجود المادي (نصا وعتباتٍ)، واول عتبات النص صورة الغلاف والتي وان لم يرسمها الشاعر فانه قد اختارها او وافق عليها، ونحن نعتبرها بوابة ترتقي الى اهمية العنوان، كما نعتقد ان لوحة غلاف مجموعة (ارض الله الغليظة) لم تسهم في اغناء دلالة العنوان والتعبير عنه، فكانت ليست اكثر من اشكال غامضة وبتقنية بسيطة لم تكن باستطاعتها التعبير عن المجموعة الشعرية.. وان عنوان المجموعة هو عنوان احد نصوصها (ص62)، وهي من تعريفات اسم البصرة..
وكان نص المقدمة “الجحيم بلا قصائد”، يدعونا ان نتساءل ما علاقة الجحيم بالبصرة الا اذا انطوى النص على مسكوت عنه كفراغ ضدي، نفترضه فراغا نصيا محذوفا هو “لكن البصرة جسد مليء بالشِّعر”، ويشير الاهداء الى ان النص متجه بكليته نحو البصرة ومنها، فبعد اسم (الارض الغليظة) يختار لها اسم (بسيراه)، ويقترح مخططا للنص بانه ليس الا نصوصا تتعلق بعناوين او (اسماء المدينة) التي يسكنها الشاعر وهي البصرة، وان هذا الكتاب وان اتصف بإجناسيته الشعرية كما هو مثبت عليه فانه يترسم خطى كتابين اخرين هما: (بصرياثا) لمحمد خضير و(قبل خراب البصرة؟؟) لطالب عبد العزيز، حيث يترسم خطاهما في الكتابة عن ريف ابي الخصيب باعتباره البصرة..
العتبات و(الروح المحلية):
اكد الناقد الصالحي ان العتبات النصية التي تشكل مناص هذه المجموعة الشعرية ادت الى ان تهيمن (الروح المحلية) على هذه المجموعة الشعرية، وتحت تأثير الروح المحلية انشطر النص اسلوبيا الى لغتين متمايزتين: لغة حديثة، ولغة (اركادية) رعوية.. حيث يبني ثامر سعيد مجموعته الشعرية (ارض الله الغليظة) من لغتين تسيران جنب بعضهما (بينهما برزخ لا يبغيان) الاولى: هي لغة ذات نسق حديث في الكتابة وتعتمد الانزياحات بالمعنى وباللغة والصورة الشعرية ونأخذ نموذجا لها نص (مضيق الشيطان) واكد انه سيكتب عن هذا النمط من اللغة في مقال قادم..
(نموذج اللغة الحديثة)
مضيق الشيطان
ارى موجةً
تكادُ ان تُقبّل العشبَ
زفيرُها جهنمُ
وأسمعُ من ثقبِ قوقعةٍ
صريخَ اقمارٍ تُذبحُ
النهرُ العاشقُ المعشوقُ
يتمتمُ بأسماءِ الشياطين
بين اعشابِ قاعِهِ
وضفتيهِ
وهو يضيقُ
ممتلئا بحكمةَ النخلِ
وطيشِ العاصفةِ
الا يبوحُ بأيامهِ..
وفي هذه اللغة الشعرية تجري الانزياحات بالطريقة المعروفة للانزياح الشعري..
بينما كان النمط الاخر (اللغة الاركادية – الرعوية) هي نمط من اللغة التي تتناص بوضوح مع اللغة الصوفية (ابن عربي، التوحيدي) مع شيء من اللغة (اليومية) للجاحظ، ولغة العهد القديم، والنصوص الرافدينية بنسق لغوي قديم، وكانت الياتها اللغوية قائمة على التقديم والتأخير لذلك هي لغة عربية عصية على الترجمة فلا يمكن نقل روح النص بالترجمة بسبب ان الانزياح فيها يجري بوسائل لغوية عربية خالصة، فالتقديم والتأخير هنا يفارق ذلك الذي كان يجري في الشعر العمودي الذي كان يحدث بهدف استقامة الوزن، وان هذا النمط من اللغة الشعرية هي براينا امتداد لبعض كتابات السياب عن ريف (ابي الخصيب)، وكتابات سعدي يوسف في مجاميعه الشعرية الاولى (بعيدا عن السماء الاولى) وغيرها، ولكن هذا النمط من الكتابة ينجز الان بالنثر، وبدأ يلقى قبولا من شعراء قصيدة النثر في البصرة فقد كتب بها طالب عبد العزيز وعبد الرزاق صالح واحيانا كريم جخيور والان ظهرت نماذج وان كانت قليلة عند ثامر سعيد، وهي حركة مشابهة للرومانسية التي حدثت في اوربا كرد فعل على جفاف الحياة بالدعوة الى العودة الى حياة رعوية بدائية؛ فقد تكون الظروف المريرة التي يمر بها العراقيون قد شكلت سببا لهذه العودة الى هذا النمط من الرومانسية، وقد تكون امتدادا للدعوات التي نشأت كجزء من خطاب عصر النهضة العربية في العودة الى الروح المحلية .
(اللغة الاركادية – الرعوية)
( نموذج1)
رؤيا (ص12)
سماؤها جرادٌ، واجاجٌ ماؤها
(بدل: سماؤها جاردٌ، وماؤها اجاجٌ)
برقٌ على رؤوسهم وضبابٌ
(بدل: برقٌ وضبابٌ على رؤوسهِم)
الى برٍّ لا تفضي قناطرُها
(وهو تركيب لغوي غريب جاء بدلا من : لا تفضي قناطرُها الى برٍّ)
غزيرة في عينيه الكلماتُ
(بدل: الكلماتُ غزيرةٌ في عينيه)
للجياعِ دموعُها
(دموعُها للجياع)
(نموذج2)
(ساعة سورين) (ص17)
العابرون الى الداكير، حدثوني عنها
والعتالون في سوق الهنود
(بدل: حدثني العابرون الى الداكير، والعتالون في سوق الهنود، عنها)
الشعر ظاهرة اسلوبية و اتخاذ (اللغة الاركادية) اسلوبا جمعيا:
لقد حاول ثامر سعيد، وبعض الشعراء الاخرون، اتخاذ ما كان اسلوبا لشاعر (اللغة الاركادية)، اتخذوها اسلوبا لهم احيانا، فخرجت بذلك عما هو مخطط لها وصارت نسقا عاما بمعنى انها لم تعد قادرة على ان تميز شاعرا عن اخر، نحن نفهم الشعر باعتباره ظاهرة اسلوبية بالمعنى العام، ولكننا لا نعتقد ان التقديم والتأخير بكلمات الجملة (الاخبارية) كافٍ وحده على تحويل تلك الجمل الى نسق شعري، فاللغة الاركادية تضحى في احيان كثيرا بالشعرية لصالح الاسلوبية (المجاوزة الاسلوبية) التي رفعت من صفتها الفردية الى صفة جمعية، كما ان تطعيم الجملة النثرية بتوشية من الصور غير قادر على تحويل (البيانات) النثرية الى شعر؛ فلغة الشعر تفارق لغة النثر في المستويين: الصوتي والمعنوي (البلاغي)، حيث يؤكد (جون كوين) بأن اللغة لديها سبيلان للإداء الشعري: صوتي ومعنوي (بلاغي) ، احدهما او كليهما، وان التقديم والتأخير قد يمنح النص انزياحا صوتيا تماثل فعل السجع ولكنها لا تمنحه صفة (الشعرية poetics) التي كما قال المحاضر انها: معنوية او بلاغية، وان شعر طالب عبد العزيز الذي كتب بهذه الطريقة يتخذ صفة الشعر ليس بفعل التقديم والتأخير بل بفعل الاشتغالات الانزياحية، وان الشعر يخسر الكثير اذا ما تم الاتكاء على التقديم والتاخير كمرتكز انزياحي، وهو ما يفعله بعض الشعراء الذين يحاولون الكتابة بهذا النسق اللغوي. وانتهى الناقد خالد خضير الصالحي الى خلاصة تتلخص في ان الرائد الاول للنص الاركادي بالنثر (طالب عبد العزيز) يعتمد على التقديم والتأخير بهدف اجراء الانزياح الشعري، فقد كان يشتغل، تحت غطائها، على النسقين التقليديين: الانزياح اللغوي والصوتي، والانزياح عبر فراغات النص (وهو ما اسماه د. سلمان كاصد: السواد والبياض في كتابه (قصيدة النثر) دار فضاءات، 2011)؛ لذلك خلص الصالحي الى نتيجة ان التقديم والتأخير الذي يتخذه بعض الشعراء كأداة للانزياح هو غير كاف ولا يقدم لمنجزهم اضافة مهمة..