ربما كان الأدباء الألمان الجدد( بعد حرب هتلر) قد عرفوا بحركة الشعر الحر في العراق حين حضرالسياب – بروحه أو جسده – مع النظارة الذين شاهدوا عام 1947بعد يوم واحد من وفاة بورشرت ، العرض الأول لمسرحيته ( بيتنا خارج الباب).
وأرجح جدا إنهما ( السياب و بورشرت) إلتقيا في صالة كافتيريا قريبة من مسرح فاغنر وسط البلدة في هامبورغ ، أو جلسا معا على أحدى أرائك مقهى الكاظمي أول شارع المتنبي المتفرع من شارع الرشيد أو جادة خليل باشا ، ومن هناك ، من بغداد أومن هامبورغ، تدفقت الجدة والتجديد في الأدب العربي والألماني بعد حرب أوربا الثانية.
بيتنا خارج الباب كعنوان إشاراتي، يعني مع الوصف الجميل والمباشر للمأساة ، الدعوة الى التحرر من كل القيود والقوالب الشكلية التي كانت تحد من حرية المبدع وانطلاق المخيلة الى آفاق الابداع ، الأبداع الحقيقي الذي يغير من رهافة الروح ويجعلها شفافة أكثر ونقية أكثر ويجذبها الى سماء الحب والسلام ، ومع إن بورشرت لم يعش طويلا وتوفي بعمر 26 عاما لكنه أحدث مع زملائه في جماعة 47 (هاينرش بل وغونتر غراس وغيرهم) نقلة تغييرية كبرى في الادب الالماني خلصته من لغة الرطانة ومدائح الحرب والسلطة والأيغال في الشكل الى الوضوح والعمق والبساطة الموحية والغنية بالسيمياء والأشارات ، تماما كما أحدث السياب وأصحابه في حركة الشعر الحر عراقيا وعربيا وأمتد التأثير والتأثر الى مساحات الابداع كله، وليس غريبا أن يعاني كلا الرجلين من المرض سنوات وأن يعيشا عمرا قصيرا ويموتا غريبين.
في العراق كنا افضل حالا بمسافات من المانيا المقسمة والمهدمة ، ومع هذا أمكن للسياب أن يُنزلَ الشعر العربي من عليائه وحزونته وقوافيه المثقلات الى الشارع العريض وعلى الأرصفة المتربة فتغنى به الجميع من الكسبة الى النخبة ومن تلاميذ المدارس الاولية الى الجامعات. وشاءت له الاقدار ان يرحل بعد أن رأى ديار فلسطين والفلسطينين كلهم خارج بيوتهم وأبوابهم وخارج بلادهم ، وقبل أن يرى بيوتنا العراقية وهي تخرج من أبوابها مرات ومرات..
وبعد كل مرة ، كل حرب أو غارة لرجال الأمن كانوا يجدون بيوتهم خارج أبوابها، وفي كل مرة كان الابداع العراقي يقف متفرجا حسب ، وعاجزا عن إنجاب سياب جديد أو بورشرت معتل الصحة ليغير رطانتنا الهتلرية والعابنا البهلوانية في اللغة وزخارفنا المتاهاتية في الشكل والتجريب .
وهكذ أقصي الادب العراقي عن الشارع ونأى الناس عن القراءة وتجنبوا الأدباء وما يكتبون!
وهذا ما كانت ثقافة السلطة تريده تحديدا ، وخططت وعملت بضراوة على تحققه.
صارت الثقافة تعني تزويق الجلاد وتلميعه بالأصباغ كما تفعل الجامعة العربية اليوم باختيارها للمنامة عاصمة للثقافة العربية!
وبات مثقفو السلطة هم من يمنح الشرعية لهذا المبدع أو لذاك المنجز وفقا لدرجة مهادنته أو سكوته أو تساكته تماما مثل قيام ( الاتحاد الدولي للأدباء العرب) على ما فيه من كاريكتيرية وتبعية للدكتاتورية العربية بتجميد عضوية الأدباء العراقيين ، لأنهم غدوا أحرارا!
خوف السلطة ذاك وتخوف الثقافة الدكتاتورية الآن ، هل إنتبهنا له؟
وهل نحن جادون في توليد أو خلق سياب أو بورشرت جديد لأيقاد الروح في إبداعاتنا التي تموت أو تحتضر؟
لم لانعود الى ذواتنا الحضارية والى قارئنا العراقي أولا والعربي؟
والى متى نرى بيوتنا خارج أبوابها ولا نتغير؟
أما آن لرطانتنا أن تترجل من عليائها ونمرغها تحت أقدام القارىء العراقي الذي كان محقا حين إحتقرها وقاطعها؟
نحن في المشهد الأدبي والفني والأبداعي عموما بحاجة الى مجدد ، بورشرت جديد ، ليعيد الوضوح والبساطة الموحية والعمق الفني لما نكتب، وما زلنا في العراق الجديد بانتظار جماعة أو حركة ادبية تفعل التغيير وتعمقه كما فعل أعضاء جماعة (47) في المانيا بعد الهتلرية.
والأهم نحن بانتظار جماعة كجماعة ( السياب ونازك والبريكان و..) التي زرقت روحا جديدة في عروق الادب العربي وأحيته ، وهكذا فعلت أغلب الحركات الادبية والفنية بعد كل حرب أو دمار .
نستحضر جماعة (تل كل) الفرنسية أيضا وننتظر تظاهرات للطلبة تطالب باسقاط رطانة الابداع العراقي المعاصر والتخلص منها كما خرجت تظاهرات الطلبة الفرنسيين وهي ترفع شعارها باسقاط البنيوية!
بل ان رولان بارت سيد البنيوية نفسه تظاهر معهم وقدم لنا ما بعد البنيوية وتشارك وتلامذته في كتابة( اس/ زت ) وغيرها.
ترى لماذا لايتظاهر الشعب خاصة الشباب والطلبة للمطالبة بالثقافة ؟
لماذا لايتظاهرون مطالبين بأسقاط الرطانة؟
كل ما ذكرت من اعلام اوربيين محترم وكبير عند أدبائنا ومبدعينا!
لم لا لانقلدهم ونستنسخ سلوكياتهم في عملية الأبداع والتغيير كما نحن نستنسخ نصوصهم ونلوك عباراتهم ونتمطق بأسمائهم ومؤلفاتهم؟
لماذا لانتغير؟!
الا نخشى من جيل جديد سيكنسنا وقد بدأت مواليده فعلا من أرض العراق الجديد.
علينا بتعبير (شريعتي) أن نبحر بقواربنا من جزيرة الفكر والأدباء النائية المقفرة الى شاطيء الناس العامر بالحياة، بل علينا أن نمد الجسور ذوات الطوابق لذاك الشاطيء القصي عنا ، بل أن نردم البحر والهوة بيننا ونعود الى أهلنا ليقرأونا..
أول نيسان عام 1999 كنت أمر بظرف بالغ القسوة فكتبت لصديق قاص
( في 21 اذار نورز بيتنا وفي 23 منه اصبح خارج الباب)
كنت أشير الى بورشرت طبعا وأدعو صديقي القاص ضمنا الى ضرورة أن نتغير ونغير كتاباتنا ، وكانت أبيات محمود درويش تتراءى أمامي:
قصائدنا بلا طعم بلا لون بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح من بيت الى بيت
وإذ لم يفهم البسطا معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن للصمت.
بانتظار…كم!