المسافة بين قراءتي ل(حينما يرتقي الضحى نوافذي ) وبين قراءتي المنتجة، هي ذات المسافة بين جذل المطالعة وحبور إنكتابها قراءة
وما أكتبه هنا بمثابة تعليقٍ على سرور راسخ بثته فيّ قصائد الشاعر ناهض الخياط،،فأنا القارىء التي لديّ وجدت في هذه القصائد ، من خلال النسق الوظيفي الذي تبثه القراءة ما يستحق التوقف عندها..ومن جانب ثان أكد النص على الشخص /الشاعر المتفاعل مع السياق الاجتماعي، وأرى ناهضا هنا ..رؤيتين أراه كشاعر وكمثقف ضمن إتصالية : الذات / العالم ..ألمس في الذات
سخونة تجربة ناهض الفردية التي من خلالها تتأطراستراتيجيته الشعرية في تشكيل الفهم ،وعلى مستوى العالم أرى النسق الواقعي
المرصود من قبل سيرورة وعي الذات لذاتيتها….
(*)
بعزيمة فتى …يحتفي الشاعر ناهض الخياط بجماليات اليومي في الوجود وهكذا يكون الأنشغال ممحاة ً لغير ذلك ،فذات الشاعر ذات حاسّة مشروطة بإنصهار مبهج مع موضوع الحس الإحتفائي
. وأراه يقترب من روح والت ويتمان الإحتفائية..
(أيها الصباح
أنا معك
وأول من يفتح نوافذك
لتوقظ الشذى
وتملأ الكؤوس بالحليب /11) الشاعر يستبق مع الصباح ليفتح له النوافذ وبالتالي يعينه في ايقاظ الورود وملء الكؤوس بالعافية
إذا الشاعر يوفر فعلا استباقيا إحتفاءً بيوم جديد..ولايقتصر الأمر على ذلك فهو يحتفي بشعرية الأمكنة أيضا..
(أيها الجنوب الجميل
أنا فيك أبداً..وإن نأيت
فذلك الطائر المبكّر لنخيلك
أو المتجه إليك وحيداً في مسائه…أنا
ولن يمرح الهواء فيك
بدون خطوتي /17)
(*)
..الكتابة تمنح الشاعر ملكية لامثيل لها في قاموس الأقتصاد السياسي،فالأنا الشاعرة تلتقط البهجة و تستعين بها لمعرفة العالم
وتتعرف من خلالها على نفسها..وتضيف بعدا معرفيا حقيقيا لها
وهكذا تنتقل الذات الشاعرة من كينونتها الى صيرورة ٍ تمنح قيمة
لموقع تحرك الذات بين عناصر الطبيعة المتماوجة بتعدديتها
( ما أن تكتب آخر كلمة من قصيدتك
حتى تبرق في سمائها أصابع ومض جميل :
أنت ِ لي/ 64)
والشاعر ناهض الخياط ، يكابر دفاعا عن هذه الملكية
(ياقلمي
لن أدعك طريحا هكذا
كصارية قذفتها العواصف فوق الرمال
الموج يهدر في داخلي
وتصفعني الأمطار والرياح
وبين أصابعي
لمحات بروق تهزني
كمن يصعقني
لأبوح بما أكتم/ 49)..
ومن النغمات لايحتاج الخياط في نهوضه سوى تلك السمفونية الرعوية التي لادخل لها بأندرية جيد …
(متكأ أمين
وظل باردٌ ظليل
تحت سقف من قصب
الرياح تختار فيه ناياتها
والسماء دانيه منه
يدخل ويخرج فيها سرب حمام ..وأنا !
لكنني أستفيق
لنباح كلاب قريب
وراعٍ ينادي شويهاته
فأنهض حتى أرى
كيف تتقافز الألوان مرحة خلفه
وهي تتبعه /46-47)..ان العودة الى هذه المثابة الرعوية لها وظيفة رد الفعل..إنها عودة الى المطهر ،هذا ما يعلنه النص من
خلال ضمير المتكلم
(وأنا
ما أتيت لمنتجعي
إلاّ لأطهر الروح
من رياء شفتي
وغشاوة نظرتي
ويدي من مصافحة الصخام
ولأعطر جسدي
برائحة العشب في ظهيرته ِ)
(*)
يواصل الشاعر كرنفاله المتصاعد :
(أيظل الفضاء
صامتا هكذا !؟
فلا رسالة برقٍ
ولا زاجل ُ
ولأن الهواء صديقي
يحمل عطرها /91)..
ومن سعة الفضاء يكتفي بتلك المشروطة بشعرية فضاء خاص
(غرفتي الصغيرة
منتجعي الآمن الأمين
وبين أبعادها
تكتمل رؤيتي
ففيها تنبسط الأرض
وتنحني السماء
وأنا بينهما
مع الأنهار في مساراتها
والرياح في ملاعبها
ومدارج الطائرات
أجري
وأحلّق
أنّى أشاء
ولي بين أبعادها
سلام روحي
وآفاق عزلتي/ 97- 98)…هنا نكون أمام المجاز في مجاله الحيوي
بكل ملكيته للطاقة المضمرة التعويضية في الذات الشاعرة ..مجاز يقترض طراوته من أمواه يقظة حالمة..تجعل ناهض لايتوقف عن وظيفته الجمالية كشاعر في انتاج شعرية الأسئلة فهو الذي يسأل
(الشمس عن ظلها
والورد عن عطرها/ 104) والوردة تطمئنه على قصيدته والعكس صحيح أيضا ..كما هو الحال في قصيدة (أنت قصيدتك َ/5)
ولايتوقف الشاعر عن سعيه الإحتفائي المعطّر
( طليقة خطوتك الآن
ولاتفصح لك عن مسارها
لأنه الضحى
ولكنك تسبقها بحدسك
الى الزقاق الظليل
حيث يجلس الربيع تحت شناشيلهِ
ويعرض فرشته ُ
من أطباق توت
وأوراق عنب وورود
وهاهي الطيور
تخاطب اسرابها
أن تعالوا هنا
كما تمر البساتين عبره بأنسامها / 22-23)
..ولما يتماهى الشاعر في القطار فهو يتصايح معه …
(القطار الذي يقطع مفازة الليل الآن
يطلق صيحته
ليبدد وحشته
فأطلق معه صيحتي
وهو يمر مدويا ً بين أضلعي /118)
وحينما يرتقي الضحى ،نوافذ ناهض خيّاط القصيدة ،فالشاعر لايستحوذ على ذات الهيبة الذهبية بل يطبّق على نفسه تلك المشاعية ،المسبوقة بمقاسمة الوقت ،فهو يعيد الجزئي (الغيوم )الى كليانية..(الليل) والمشترك بينهما هو الاتصال اللوني / السواد..
فالسواد كلون يحدد مكان الاشياء وتراتبيتها جيولوجيا وهكذا ينسب دكنة الغيوم الى ظلمة الليل..أما النجوم أو القمر فهما من عوامل تخفيف من نسبة جهامة الليل..
:(أيتها الغيوم
لك ِ الليل
فتكللي
بما شئت ِ من سوادهِ
ودعي الشمس لي
فحسبي منها نافذتي
وفضاء غرفتي
أحلّق فيه
بجناحين من ورق أبيض
نحو البعيد /115-116)..نلاحظ الشاعر تتسع سعادته بكفاية العارف بمديات عروجه الشعري..فهو لايستحوذ بل يريد لها
ان تغمر النافذة والابعاد الهندسية لغرفة شاعر عراقي..
لكن رؤية الشاعر لاتماثل رؤية المعمار الافقية…ذلك لأن للشاعر علم الشاعرية لاعلم المعمار الهندسي وسيعتلي الشاعر مركبة الضحى قاصدا البعيد النابض في خلايا رؤاه.. وهكذا نصل الى سيرورة وعي ذات الشاعر المشدود ة الى الإحتفاء بالجميل وتجلياته الكرنفالية..
(*)
من خلال قصائد الشاعر ناهض الخياط تكون قراءتي المنتجة أمام وعي متخيل ينفتح على توله صوفي في تعامله مع الآخر والأشياء..وكيف لايكون الشاعر ناهض بهذا الكفاف المهذب وهو يختزل النأي بشعرية الزمن النفسي :
(أنا هنا
وهو بعيد
وأداعبه
كما الصباح/79)
وبإصغاء له قوة أخيولية ،كما في قصيدة (الكتابة بريش الحمام/70) وكيف لايمتلك الشاعر هذه القوة وهو ينتسب للشجر النحيل (أيتها الذكريات الجميلة
لاتثقلي عليّ بما لاأستحق
فربما تكسرني عواصفك
لأنني شجرة ناحلة /40)
(*)
.. ان هذه الاحتفائية بالكائن وبالوجود في قصائد الشاعر ناهض الخياط ..أراها دعوة عامة مفتوحة يوجهها الشاعر ،إلينا كلنا دون إستثناء مفادها :(الشعر يجب ان يكتبه الجميع) كما أعلنها
الأب الروحي للسوريالية الكونت دوكاس أعني لوتريامون…
صاحب الكتاب الشعري (أناشيد المالدرور)…
*ناهض الخياط /حينما يرتقي الضحى نوافذي/ دار تموز/ دمشق/ 2012
*السمفونية الرعوية ، من مؤلفات آندرية جيد ،القصصية
*المقالة منشورة في جريدة المشرق 19/ 12/ 2013