في البدايات البسيطة لتطلعاتنا ، كنا نسير، بتبخترٍ وألقٍ، ونحن نحمل الكتب كبيرة الحجم، والتي ساهمت على تكوين وتشكيل وعينا الثقافي. بعد 14 تموز 1958 ، بتنا نتبختر ،أيضاً،ونفخرَ بكتبٍ أخر..حمراء.. حمراء.. وهي التي رَصَّنت وعينا الاجتماعي- الثقافي ، وما زالت رصيدنا وستبقى، مع حساب المتغيرات الكونية الهائلة في نهاية القرن العشرين. أعود للبدايات: لابد من الذهاب، اسبوعياً ، مرة وأكثر، إلى (العشار) والمرور في سوق المغايز وبعده سوق الهنود. ونحن في طريقنا إلى (السينما) نبهنا احد الأصدقاء، ربما (فيصل لعيبي)، إلى محل صغير للخط والإعلان. كنت ألمحه في وسطه، منحنياً على كتاب أو مجلة، وغالباً ما أراه يمسك الفرشاة ويخط على القماش أو الورق. شغلني ذلك النحيف (كقصبة) الخط التي يمسك بها. مرة رأيته يقتني من مكتبة (الجميع) مجلة (الآداب) اللبنانية وبعد أن تصفحها في المكتبة رأيت علامات السرور والبهجة على وجهه. مجلة( الآداب) التي كنت احرص على متابعتها شهرياً.. وجدت في ذات العدد قصيدة منشورة له، وهي التي أبهجته وأسَرته، فلقد كان النشر فيها حلم الكتاب العصي على التحقق لرصانتها وجديتها وكانت توزع في كل البلدان العربية. لم يسمح لي عمري أن أمد يدي نحوه،أو حتى أحدثه..كيف يمكن ليّ ذلك حينها..؟!. بعد السقوط تنادينا لإقامة (مربدنا) في (بصرته). فتبرع بتصميم( اللوكي) الأول له وأرسله من فرنسا هدية منه إلينا ولبصرته.. وكان شعار مربدنا الأول بعد سقوط النظام : ” من أجل ثقافة وطنية عراقية.. متعددة الأطياف والرؤى”. وحضر مع مَنْ حضر من الكرام ،على نفقتهم الخاصة ، وألقى شعراً.. ثم بقيَّ في (بصرته) حوالي الأسبوعين. جلس معنا في مقهانا الرث دون أن يتأفف. رأيت بعض الفنانين التشكيلين من رواد المقهى،مساءً، دون علمه، يسرعون على اقتناص تخطيط (بورتريه) له وهو يجلس معنا بمنتهى الفرح والتواضع والحنان، ، أذكر منهم مَنْ كان يجلس إلى جانبي الفنان (ياسين وامي). تشرفنا بجلسة مسائية ثقافية خصصناها له وقدمه فيها استاذنا( محمود عبد الوهاب). تحدث في تلك الجلسة المسائية عن طرائف عدة وعن كتابته الشعر الشعبي الاخواني وأبجديته العربية الجديدة، ووصفها بـ(المحنة)جراء سوء النوايا التي جوبهت بها. وقال انه:” جاء البصرة ،عام 1947 ، وتعلمت الخط فيها ، وكذلك مررت بأول تجربة حبٍ فيها” ثم ضحك وقال” ربما قصة حبٍ من طرفٍ واحدٍ”. وأضاف:” كتبت أول قصيدة وقصة ومسرحية وارتقيت خشبة المسرح، وسجنت شاباً في بصرة العراق كله”. وتحدث عن أشياء كثيرة، منها انه كتب، في شبابه، رسالة لصديق له في مدينة الخالص والتي ولدَ فيها ، وجاء في رسالته تلك:” أن أول شيء يتعلمه القادم إلى البصرة..الحب والتسامح والفن”. ثم جلسة أخرى في مقر الحزب الشيوعي العراقي ، قدمه فيها (الدكتور عباس الجميلي). كتب عن (الفيصلية) في صحيفة (المدى)الفنان(فيصل لعيبي صاحي) مقالاً بعنوان” في حفريات الصداقة”. فكتبت عنها: “تلك المدينة.. الفيصلية..” في صحيفة (المدى) كذلك ، وأهديت ما كتبته إلى أخي (فيصل). فكتب هو مقالاً في( المدى) أيضاً ، وبعنوان: “الفيصلية.. بين فيصل لعيبي.. وجاسم العايف”. أثنى في كتابته على ما كتبنا.سأبقى افخر ،دائماً وأبداً، بما جاء في كتابته عن ما كتبته وأُورده نصاً، باعتزاز كبير:((… ثم كتب الأخ جاسم العايف عن (الفيصلية).. ففصلَ ببراعةٍ وتمكنٍ.. فأبدعَ وأدهشَ وأجادْ..)).مَنْ كنت ألمحه سابقاً، والتقيته بعد سقوط النظام..وأثنى على ما كتبته لاحقاً:(مـحمـد ســعيـد الصـكـار)..وكـفـى.. أدعو وأقترح إقامة معرض متجول،سنوياً، في كل مدن العراق خاص بـ(الخط العربي- الإسلامي) يحمل اسمه و جائزة عالمية دائمة توزع بالتزامن مع تاريخ رحيله بعيداً عن (عراقه وبصرته وخالصه) ، باسم (الصكـار).. أطرح هذا.. وأخمن بأسف وحزن ومرارة ، بأن : لا ثمة مَنْ سيعبأ أو سينفذ في (عراقه).. الآن..؟!. .