الحكمة هي أحد وجوه التسمية الصوفية و قد أخذت من لفظة ” صوفيا ” اليونانية ، و لعل هذه التسمية هي من يفضلها مريدو الصوفية و ليس تمتعهم بلباس الصوف كما أشيع ، و هي طريق الوصول إلى الله وفق المبادئ الثلاث : الإسلام ، و الإيمان ، و الإحسان ، فعنيت الصوفية بتهذيب النفس و تطهير الجَنان مما قد يخالطه من الدنيا و براثنها ، و كان من الطبيعي أن ينمو هذا الاتجاه في العالم العربي تحديداً لما تقتضيه الجوانب الروحانية وفق نظرتها إلى الحياة و الدين و الوجود ، إلا أنه تشعب في طرق متنوعة حسب قواعد الشيخ – صاحب الطريقة – الذي كان عالماً بالمصادر الدينية و اللغوية و العلمية و الفلسفية ، و لقد أضفت مكانة الشيخ عليه من هالات القداسة ما جعلته يختص ليس بطرق الوصول في العبادات فحسب بل إلى المفردات و التراكيب المتعبدة بتلاوتها لدى أصحاب هذه الطرق ، فكل شيخ يقوم بتصميم ورد خاص من الألفاظ الموحية في العبادة يلتزم بها السائرون على طريقته ، و يقوم ورده على جمع الألفاظ الأصيلة من القرآن الكريم و الحديث النبوي و دمجها مع مصطلحات فلسفية و تعريفات كلامية ، و لا ينسى الشيخ عامل الموازنة في اللفظة كي يتسنى حفظها ، كمصطلح التجريد و تعريفه ( أن يتجرد بظاهره عن الأعراض و بباطنه عن الأعواض ) .
بدأت الطرق الصوفية تدق أبواب الناس عامتهم و خاصتهم إلى أن انتقل إلى الأدب محدثاً تغييراَ جوهرياَ في بنية الشعرالعربي ، و بظهور مصطلحات يعجز الدارسون عن فهمها ، فانقسم الشعر الصوفي باعتبار الوجهة التي يذهب إليها إلى قسمين : الأول عام يستخدم للتعريف بالمنهج ، و التوضيح لمسالكه ، و بيان نظرته ، و تأكيد رؤيته بما يشمل ذلك الكثير من المعاني و الأهداف و المقاصد ، و الثاني خاص يستخدم لتوجيه رواد المذهب بطريقة خفية بما يحتويه من ألفاظ و مصطلحات زاخرة في معاجم التصوف و بمجهود كثيف من الشيخ مولد الألفاظ و معجم الأوراد ، و من أهم الأسباب التي دعت الكثير من الباحثين لمحاولة دراسة شعر التصوف انتهاجه نسقاً ثقافياً بارزاً للتعبير عن أفكارهم ، و لا نقول إن موضوعاتهم من الزهد و ما شابهه من الحكم و النظرة إلى الوجود و الحياة كانت من بناة افكارهم بقدر ما كانوا من المهتمين بهذه المواضيع حتى عرفوا بها ، لذلك وصف الشعر الصوفي بأنه ” جديد قديم ” ، فشعر التدين وجد قبل معرفة الصوفية كاتجاه و نما مع تطور الحياة الروحية في المجتمع الإسلامي و تحديداً في العصر الأموي ، و لا يقف شعر التصوف عند المتصوفة المتدينين بدين الإسلام وحدهم بل تعداه إلى بعض الرهبان و الأدباء الأوروبيين كالروسي بوشكين ، بالإضافة إلى أن هذا الشعر ظهر عند أعلام الشعر الحديث كالبياتي و أدونيس .
لا تحظى الظواهر الأدبية بالإقبال الكثيف على دراستها إلا إذا كانت ظاهرة غزيرة ذات موضوعات شعرية متنوعة ، و هذا ما حققته الصوفية من خلال مواضيعها التي توزعت بين الحب للذات الإلهية ، و وسائل الاتصال بين الحق و الخلق ، بالإضافة إلى منظومة متكاملة من الأخلاق الواجب توفرها في المريد حتى يكون مقبولاً لدى شيخه و في مقدمتها الزهد ، فالزهد مثلا لم يكن وليد طرق الصوفية لكنهم أكثروا منه ، و يعتبر الزهد قاعدة الأخلاق عند الصوفي ، فقد كان في الشعر الإسلامي يعتمد التعبير المباشر عن العواطف الدينية و المشاعر العينية بأسلوب واضح في حين اعتمد الشعر الصوفي على الرمز مع التعمق في المصطلحات و فلسفتها حتى غدت خاصة بهم ، و تقسم الدراسات النقدية لهذه الظاهرة إلى عدة أقسام أذكر منها إبراز تجليات المفاهيم و المصطلحات و الإشارات الصوفية في العبارات الشعرية التابعة لهم ، و من الجدير بالذكر أن مثل هذه الانواع من الدراسات قادت أصحابها إلى التيه في أي لحظة من لحظات الدراسة حتى أن بعضهم ترك البحث قبل الوصول إلى نتاجات بحثه بقليل ، فلم يقطف ثمار جهده .
إن المصطلح الصوفي يحمل طابعاً ذوقياً لديهم و متعارف عليه بينهم ، و تزخر به معاجمهم التي ألفت قديماً و حديثاً ، فمنها : التعرف على مذهب أهل التصوف لأبي بكر الكلاباذي ، و اصطلاحات الصوفية لعبد الرزاق القاشاني ، و معجم ابن عربي ، و حديثاً معجم ألفاظ الصوفية لحسن الشرقاوي ، و لاشك أننا نستطيع الحكم على صوفية شاعر من خلال استخدامه للمصطلح الصوفي ، فالمصطلح الصوفي كلمات عربية يكتنفها الرمز و الكناية ، فقد خاطب الشعراء بعض أسماء الفتيات كما خاطبهن العذريون ، و لكن الفرق عند المتصوفين جاء لمخاطبة الذات الإلهية : مَنَعَتْهَا الصِّفاتُ وَالأَسْمَــاءُ // أَنْ تُرَى دُونَ بُـــرْقُعٍ أَسْمَــاءُ ، فالظاهر أن الشاعر متغزل بحبيبته أسماء و الباطن خلاف ذلك ، حيث إن هذا غزل في حسن مظاهر الوجود ، و لفظة الخمر التي تتمثل بالسكر و الرجس تأخذ طابعاً إيجابياً عندهم لتدل على الصفاء و الانتشاء الرباني للوصول إلى الاتحاد بين نفس عاشقة و أحدية معشوقة في كنائية عالية ، و لعل هذه الرموز و الكنايات جعلت أشعارهم تأتي على هيئة أبيات قصار تلمح عن ذوق لطيف مفرد كما في ديوان الحلاج ، و قد أدى ذلك إلى استعمال البحور الشعرية المشهورة المتداولة كالطويل و الوافر ، و مع تطور الصوفية تعددت طرق النظم عند شعرائها فابن عربي كان مولعاً بجمود اللفظ و المترادفات ، و ابن الفارض عني بالتصغير و الجناس و الطباق ، و لا يمكن القول أن هذه السمات المميزة لكل شاعر قد أبعدته عن التصوف بل أضيفت هذه الخصائص إلى معاجم الشعر الصوفي فأكسبته تعدداً و كثافة .
فالمصطلح الصوفي هو الألفاظ التي جرت على لسان الصوفي سواء أكان شيخاً أم مريداً و أصبح لها علامات سيميولوجية وإشارات رمزية لتعكس مفهوم التجربة الذوقية الوجدانية التي عاشها ، وعليه فهذه الألفاظ الصوفية لا يمكن إدراكها عن طريق العقل أو الاستدلال أو البرهان أو عن طريق التجريد التأملي ، وإنما هي مصطلحات لا يمكن استيعابها أو التحقق منها إلا بتجربة سلوكية عملية مستمرة ، و للمصطلح الصوفي ثلاثة أبعاد أوردها القاشاني في كتابه ، و هي : الجانب العملي وهو الطريق ، وثانيها الجانب النفسي أو الشعوري أو الوجداني أو العاطفي وهو التجربة ، وثالثها الجانب النظري أو الفكري أو التعبيري وهو المذهب .
اعتمد الصوفيون في مصطلحاتهم على الذوق و القلب فنرى تفسيرهم مبنياً على الحدس و الكشف العرفاني ، لذلك تعدد المصطلح إلى الوجهين آنفا الذكر ، و قد ينوع الصوفي في إشاراته شعراً و نثراً بين التعبير والتصريح والكشف و هذا يقودنا إلى نتيجتين حتميتين تتمثلان في غزارة معاجمهم بالألفاظ و استخداماتها ، و تسيب الألفاط العارمة نظراً لاتساع مرونتها و عدم ثبات استخدامها على نحو واضح الأمر الذي يؤدي إلى اندثار هذه المصطلحات مع مرور الزمن ، و مما يهدده بشكل واضح تعدد المعنى واستعمال اللفظ المشترك واختلاف التجارب الصوفية مما يوسع الفجوة بين الدوال و مدلولاتها ، لكنه عند الصوفية عين الموضوعية الروحانية ، ليكتسب صوفي من آخر مصطلحاته لتنمي قدرته الإيحائية في طبيعة مجازية تحكمية لأن لغتهم إشارات قلبية تعتمد على القلب ، و من أهم ما نرمي إليه أن الألفاظ التي لا تمارس كحد العادة بين الناس و مع تفشي التخاطب بين الناس باللهجات العامية على وجه الخصوص ستصبح يوماً ما مندثرة مقبورة ، تماماً كالأوزان الصرفية القديمة و اللغات المهجورة ، و بالتالي فإن اللغة الصوفية ينطبق عليها وصف ( اللغات سائرة نحو الزوال ) .
جعل الصوفيون القلب دليلاً لاكتشاف الحقيقة فانبثقت عنه مصطلاحاتهم كما فعل الفلاسفة في تغليب دور العقل لفهم الحقائق الإنسانية ، و حذا بهم نحو اختلاف المعاني وكثرة اللفظ المشترك وتعدد الألفاظ المترادفة ، و بالتالي غيبوا دور اللغة في تحقيق أداة التواصل فشرحوا الألفاظ و نسقوها كلمات سرية تعرف بينهم بل تعرف بين أفراد الطريقة الواحدة ، و هذا يعني أن المصطلح الصوفي مصطلح زئبقي تتغير دلالته حسب التجربة العرفانية ، فكانوا كدويلات حبيسة داخل دولة لغتنا العربية .