في ذكرى وفاته الرابعة ، و رغم قلة سيره و ومضات حواره ، ينطلق في هذا الفضاء الرحب محدثاً أسلوباً فتياً في نقد الواقع ، و رفض المعاني المموجة التي تهيم صاحبها فيتوهم أنه يقول شعراً ، يصف دونما استطراد ، و يقف لقيم الفساد بالمرصاد ، يواسي تارة ، و يثور تارة أخرى ، نراه في بوتقة التشاؤم لا يتمنى السلام ، و نجده في قمم التفاؤل يحلم بجنين كطاقات ورد ، توضع في سلات تين ، يغطيها العسل و الشهد ، ريحها حب و دين ، يرى إبريق الزيت من ماء الحياة الذي يغذي أطفاله فيستكين الجد في عبادته ، ذاك هو أيوب في ملفه الأحمر ، و أمين الطفل اليتيم الذي رضع زهور الياسمين في مخيم جنين ، أو الشاعر الفلسطيني عبد الوهاب زاهدة .
لم ألتق به لو لمرة واحدة ، و لم يجالسني بعض أبنائه الذين هم من صلبه ، و لا تلاميذه الذين تخرجوا من بين أسطره الشعرية ، فحملوا مبادئه الإنسانية ، و سنوا الموازين الشعرية بناء على معتقدات شيخهم ، و لم يكلمني أحدهم من وراء حجاب ليحدثني عن ذوق هذا الشاعر كيف كان ينكب على أوراقه فينتقي ألفاظه ، وكيف كان يمسك سلاحه فيغذيه بمداد ثائر يرسم به موسيقاه الشعرية بصورة نابضة بقضيته العادلة ، و كيف راح يعزفها على جراح الأمل ينشد أناشيد القدس حين تلبس طرحتها ، فيعم السعد و يفرحنا فرحتها ، و الحقيقة أن كثيرنا لا يعلم عنه القليل ، و لكن سأحاول التعبير عن شخصية زاهدة من خلال نفسه الشعري ، و السبل التي شقت له طريقاً في الكتابة بناء على نقد ثقافي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة و دراستها في سياقها الثقافي و السياسي و الاجتماعي و التاريخي ، وذلك للكشف عن هذا القلم الثائر المهمش في مقابل الأقلام الساقطة المهيمنة على كثرتها .
إن من أبرز ما ينتمي إليه شعره هو بعده السياسي ، فالأدب السياسي أدب لا يقيده الزمان ، أو يحدده المكان ، لأنه يتحدث عن معاناة الإنسان و يموت بموت المشكلة كما يراه عبدالله الطنطاوي في تعريفه للأدب السياسي ، فهو إذن لسان حال الإنسانية المسحوقة فوق كل أرض و تحت كل سماء في أنسانية وئدت منذ عشرات السنين ، فإن كان أحمد مطر هو متنبي هذا اللون فزاهدة هو نابغهم الذي يقرأ الوجدان ، و لكنه للأسف الغائب الوحيد و ليس الموت الذي خاطب وداعة تلك الطفلة ، و أسرعهم رحيلاً إلى عالم النسيان ، لأنه لم يعط نصيباً من التبجيل الذي ناله غيره ، و لم يكرم بأحدى جوائز الفنون و الآداب العربية الراقية .
تبرز لدى زاهدة بعض الشخصيات في شعره التي جسدت واقعه المرير ، و هذه الشخصيات تختلف في دورها الاجتماعي و الثقافي و السياسي ، لكنها سرعان ما تجتمع في بوتقة واحدة لتعبر عن قضية واحدة هي ذاك الألم الإنساني المشع بهالات الدماء ، و المفعم بعبير الأحزان ، و منها : ولدتُ على رصيفِ الموتْ / وكانتْ دايَـتي دمعة / على الأشواكِ سرتُ حَبَوتْ / بدربي لم أجدْ شمعة / وأوّلُ ما نطقتُ رَجَوتْ / أسمي في الورى أيوبْ / أنا أيوبْ ، فهو وريث أبيه في الصبر و شريكه في الألم ، تستقبله الدموع ، يمشي في مقدمة حياته ككل الأطفال حبواً ، لكنه يحبو على الشوك ، في طريقه آلاف الأشواك مذ كان رضيعاً لا يجد من يعطيه أدنى حقوقه في الإنسانية المقيتة ، فهو لم يكن حراً في تسميته حتى حمل اسم أبيه ليمضي في زمن التيه .
و أيوب هذا ليس بأحسن حالاً من أمين الذي يروي قصته و كأنه يمليها على صحفي في قنوات السبق ، فيقول : أنَا مِن جِنِين / اسْمِي أمِين / في البَارحَة / عبَرت وحُوشٌ كالِحة / ذاتَ الشّمَال مَعَ اليَمين قتلتْ أبِي في لحْظة / سَحقتْ زُهورَ اليَاسمين ، و تطوف بنا هذه الكلمات لنتحاور معها في محورين رئيسين ، الأول : قتل الأب ، و هو قتل في لحظة عابرة ، و مشهد يتسلسل يومياً ، و السبب تلك الكتل الدموية التي هاجت على والد أمين ، فالقسمة خاسرة ، وحوش لها ميمنة و ميسرة تقاتل رجلاً واحداً هو والد أمين ، إضافة إلى قتله على مرأى و مسمع منه الأمر الذي قد يسبب لأمين العقد النفسية التي يعجز العطار عن إصلاحها ، و هذا الأمر له بعده التاريخي و الاجتماعي لكثير من الأطفال الذين شاهدوا جرائم الحرب تفتك بذويهم ، و الثاني هو سحق زهور الياسمين التي تمثل حمامة السلام البيضاء التي ترفرف في سماء كثيفة الغيوم ، لكن هذه التراجيديا التي رسمها زاهدة لم تكتمل لأن هناك بوادر ولادة طفل مستنسخ عن والد أمين ، فبعد الجزر يأتي المد ، تماماً كما جاء رمضان و الصوم بينهم معسكِر لا يبرح أمعاءهم ، و بابا نويل الذي لم يجد أحداً أو لن يلقى في الناس مسرة حتى يوزع هداياه ، هذه بعض النماذج الإنسانية في شعر زاهدة ، يغلب عليها الحزن و القهر و اليتم في صدى وطن مكبل بالجراح ، فينطلق من قضيته العادلة في فلسطين ببعدها الديني الإسلامي و المسيحي ، لينسج أغاني الجراح لكل مسحوق مخذول في الإنسانية جمعاء .
و يبرز عنصر المكان في شعر عبدالوهاب ليبوح ببعض أسرار التاريخ التي تضرب بجذورها في وطننا العربي ، فالمكان هو ملهم الشعراء لطالما باحوا به صراحة ، و وقفوا و استوقفوا فيه ، و الآن و قد أصبحت تلك الأماكن عنواناً للفداء ، ليقول :
فـي كـفِّـهـا بَـغـدادُ سَـيـفٌ صَـارمٌ *** مُـتحـرّق شـوْقـاً لـسَـاحَـات الـفِـداءِ
يا ابْنَ الفـُراتِ لديْك بابـِلُ وحدَها *** أعـْجُـوبـةُ الـدّنـيـَا و إبـداعُ الـذّكــاءِ
و ينطلق من المكان الذي يحب – و هو وطنه – جامعاً بين الديانات السماوية إلى السماء و هي وطن كل حر يأبى العيش بين الحفر : عِنْدي هُنا الأقـْصَى و باحَاتُ المسَاجد / عندِي الكنائِس إنّ من حَقي أزايِد / فهُنا أقامَ الأنْبيَاء و هنَا تلامسْنا السّماء ، فـنرى شاعرنا قد أعرب عن فخره بنفسه ببعده التاريخي و الديني ، يضفي هالات القداسة على العاصمة المقدسة فهي أقرب مسافة بين الأرض و السماء .
و أخيراً يعلو صوت ( الأنا ) في شعره و قد تعزز بالظهور في نتاج شعر طفح به الكيل ليرفض الكويت رفضه للوطن البديل ، قائلا : حتّى مُقابِلَ بئْر زيْت أنَا لنْ أعُودَ إلى الكويْت / فلدَيَّ قوتٌ و سِلالُ تُوت / و كَرامَة أبداً تَظلُّ و لنْ تَمُوتْ / أنا مِن بلادٍ عطْرُها في كلِّ بيْتْ أنا بلدتِي هِي ( بير زَيت ) ، و نراه متحرراً من سلطة الجد حاملاً لنبوءة الشعراء ، فيقرأ طالع الأيام بشغف ، و يتنبأ بواقع الإنسان و مستقبله ، و ينصح و يحذر ، فهو يواسي الأوطان بأن الجرح في الكف ، فلم يجد الوطن غير عبد الوهاب كي يواسيه و يلهم ذائقته الشعرية ، فيعقد مؤتمراً صحفياً ليعلن عن قدوم السلام الذي يبحث عنه أهله و خاصته فيبشرهم بأنه سيأتي حتماً ، لكنه سيأتي في المنام و إذا رأينا الشمس في غسق الظلام ، ثم يتنبأ بما سيأتي به العام الجديد ، و هي تنبؤات معسولة بالتشاؤم ، لأنه كما الشعوب المقهورة لا تنال إلا المشمش .
هكذا يظهر شاعرنا عبدالوهاب زاهدة فم مكبوت في زمن القهر ، و قلب أشرب الذل على واقع مر ، وعقل احتار به الفكر ، يصف فيوجز ، يقترب من ألفاظ العامة فيعبر عن خواطرهم ، لسان حال المقهورين ، و سفير الحزن إلى جراح الإنسانية ، غاب و لكن قلمه بقي حاضراً لا يرمش أبداً .