عبر المجلدات الاربع لديوان الجواهري الذي يختزل قرنا كاملا من تاريخ العراق الاوهو القرن العشرين وهو كل عمره المديد في نفس الوقت تجدر الاشارة الى ان بين الشعراء الاربعة من مواطني شاعر العرب الاكبر (محمد مهدي الجواهري ) في العراق والذين خصهم الجواهري بقصائده الكاملة لايوجد سوى شاعر عربي واحد الا وهو المرحوم (محمد صالح بحر العلوم)
اما الشعراء الثلاثة الاخرون فاصولهم كوردية وهم كل من الزهاوي و الرصافي و بى كه س اذ ان هناك ستة قصائد مكرسة لشعراء من العراق عاصروا الجواهري اولهم الزهاوي (قصيدة واحدة) ثم الرصافي (ثلاث قصائد) واحدة خلال حياته واثنتان بعد وفاته، ثم محمد صالح بحر العلوم والشاعر الكوردي المعروف (بى كه س) الذي يكتب الشعر باللغة الكوردية (قصيدة واحدة لكل منهما) فكما قلنا فان الشاعرالراحل جميل صدقى الزهاوي (1863-1936)كوردى الاصل من منطقة (زهاو) القريبة من خانقين وقد القى الجواهري هذه القصيدة في رثائه وهو يقف على قبره مع جموع المشيعين وقد نشرتها جريدة البلاد في عددها (798) في 25/2/1936 كما وان الشاعر الراحل معروف عبدالغني الرصافي منحدر من اب كوردي وام من قراغول (1877-1945) وقد خاطبه الجواهري بهذه القصيدة قبل حوالي عشرة اشهر من وفاته ونشرها في جريدته (الراي العام) العدد (1008) بتاريخ 15/5/1944 وقد ارفق الجواهري قصيدته بكلمة قال فيها :
(ان الشاعرالرصافي في عزلة تامة يقضي ايامه المتبقية فهل اقل من ان – نؤنسه – في وحشته هذه بان نذكره فحسب ولكن قبل ان يموت !! وقد اجاب الرصافي على قصيدة الجواهري هذه بقصيدة لا استبعد ان تكون اخر ما نظمه الرصافي حيث قال مخاطبا الجواهري:
(بك لابي اصبح الشعر زاهرا وقد كنت قبل اليوم مثلك شاعرا)
اما (فائق بى كه س) فشاعر كوردي يكتب الشعر باللغة الكوردية توفي عام 1947 وهو من ابناء مدينة السليمانية وهو والد الشاعر الكوردي الكبير (شيركو بى كه س) ويخاطب الجواهري صاحبه الرصافي قائلا:
وانك انقى من نفوس خبيثة تراود بالصمت المريب مناكرا
تعيب على الشعر التحايا رقيقة وتلثم من (بغل هجين) حوافرا
وينهي الجواهري قصيدته هذه ببيتين رائعين لايعدمان ان يصبحا مثلا سائرا في كل عالمنا العربي حيث اعتاد الناس على اهمال امر المبدعين ونسيانهم اواخر سني حياتهم، بل ان الفئات الحاكمة في عالمنا العربي قد اعتادت في كثير من الحالات على الحاق الاذى والاضطهاد بالمفكرين والمبدعين من خلال حياتهم، حتى اذا طواهم الموت ورحلوا عن عالم الاحياء اقاموا لهم او سمحوا باقامة حفلات التكريم والتعظيم حيث قال الجواهري وهو يهدي تحيته الى صاحبه الرصافي :
واني اذ اهدي اليك تحيتي اهز بك الجيل العقوق المعاصرا
اهز بك الجيل الذي لاتهزه نوابغه حتى تزور المقابرا !!
والواقع ان الجواهري كان يحس بعمق هذا الواقع الذي يراه حيث يعيش الكثير من المبدعين واصحاب العقيدة والراي الحر، مطاردين في بلدانهم يتجاهلهم العديد من الناس حتى اذا رحلوا عن دنيانا تواصلت في اثرهم حفلات التكريم والتأبين، وتداعت قصائد الرثاء تتوالى على المنابر الملتهبة.
والى هذا اشار الجواهري الراحل في قصيدته الرائعة (المآسي في حياة الشعراء) اذ يقول :
حباني العراق السمح احسن ما حبا
به شاعرا للحق والعدل داعيا
رجاءكما استمطرت في الصيف مزنة
وعيشا كما أسأرت في الكأس باقيا
وعيشا اذا استعرضته قلت عنده :
(كفى بك داءا ان ترى الموت شافيا)!
وواعدني بعد الممات احتفاءه
يجود فيها المنشدون المراثيا
وحفلا ترى فيه اكفا تعجلت
ظمائي تستسقي علي الغواديا
وفي قصيدة اخرى تناول الجواهري فلسفة الرصافي وعقيدته الحرة وافكاره الجريئة :
قد كنت تؤمن ان عقبى الموت شئ في الضمير !
وحياتك الدنيا لجنتها مثال والسعير
(الله) عندك كان رمز سعادة الجمع الغفير
والكفر ان لا تغضب الاشرار في شجب الشرور
والفسق في شرب الدماء وليس في شرب الخمور !
ويشير الجواهري الى القصيدة التي بعث بها الرصافي اليه جوابا على قصيدته (اجب ايها القلب) فيقول :
(معروف) امس منحتني عطف الكبير على الصغير
واسيت جرحي ان جر حك ناغر جم البثور
(معروف) نم فوق التراب فلست من اهل الحرير
(معروف) نم فوق التراب مضمخا بشذا العطور !
بالمحسنات الصنع لم تطلب بها اجر الشكور
ثم يقارن بين حياته وما يلقاه من عنت واضطهاد ونكران وبين حياة الرصافي الذي عانى الامرين في وطنه :
(معروف) كنت تعب من ضنك وفكر في غدير
انا منهما اسقي واشرب بالصغير وبالكبير!
ما كان اشبهنا وما ادنى مصيرك من مصيري
انا كلانا نازلان من القضاء على حفير
اما القصيدة الثالثة فقد نظمها الجواهري والقاها في حقل اقامه اتحاد الادباء العراقيين لاحياء ذكرى الرصافي في 19/4/1959 وكان مطلعها :
لغز الحياة وحيرة الالباب ان يستحيل الفكر محض تراب
وهو من المطالع الجواهرية القوية في شعره ووسط هذه الحيرة التي يستشعرها الجواهري يتذكر كيف وضع (ابا الطيب المتنبي) موضع النجم الساطع في كبد السماء :
ولد العبقري فالنجم واجم ….
ووضع قبر (ابي العلاء) موضع البرج الذي تتمنى الكواكب ان تنجذب اليه :
(فكل نجم تمنى في قرارته لو انه بشعاع منك قد جذبا)
فيتساءل اذا كان ممكنا ان يتحول العبقري المبدع ليس الى تراب بل الى نجم يرى الناس شعاعه فيعرفونه ، ويتذكرون ابداعه :
ليت السماء الارض ليت مدارها للعبقري به مكان شهاب
يوحي له ويقال : ذاك شعاعه لا محض اخبار ومحض كتاب!
وفي ذلك جزاء لاولئك المبدعين ومنهم الشعراء الذين …
ذابوا ليسقوا الناس من مهجاتهم خير الشراب مشعشع الاكواب
وتحرقت منهم لتعلي شعلة لبلادهم كتل من الاعصاب
وهكذا نجد ان الرصافي قد استاثر باكبر حصة من القصائد التي اثر الجواهري بها معاصريه من الشعراء العراقيين بينما لم يتجاوز نصيب الزهاوي قصيدة واحدة نظمها الجواهري لمناسبة وفاة الشاعر الفيلسوف ونشرها في جريدة البلاد في شباط 1936 ومطلعها :
على رغم انف الموت ذكرك خالد ترن بسمع الدهر منك القصائد
نعيت الى الغر الحسان فاعولت عليك من الشعر الحسان الخرائد
وقد سمى الجواهري صاحبه الشاعر الراحل (ابا الشعر) وكان خلال حياته لصيقا بالزهاوي الذي كان يكبره بما لايقل عن سبعة وثلاثين سنة فالزهاوي من مواليد 1863 ويذكر الجواهري انه قضى سبعة اعوام لايكاد يفترق خلالها عن الزهاوي الذي كان يجلس في المقهى الذي يحمل اسمه وهو في شوق شديد لقدوم الجواهري حتى انه اذا كان يتاخر قليلا كان الزهاوي يمد يده مشيرا الى ساعته ليقول (شوف افندم ! خمس دقائق متأخر)! حيث كان الزهاوي يسمى (الشاعر الفيلسوف) لما كان يتضمنه شعره من اراء فلسفية وما كان يكتب فيه ويناقش من الاراء حول فلسفة الكون والوجود والموت والحياة والى هذا اشار الجواهري اذ يقول :
وفلسفة اطلعت في الشعر نورها هي اليوم ثكلى عن (جميل) تناشد
وكان نقيا فكرة وعقيدة عزيزا عليه ان تسف العقائد !
يؤكد ان الدين حب ورحمة وعدل وان الله لاشك واحد !
وان الذي قد سخر الدين طائعا يتاجر باسم الدين لله جاحد
ويختم الجواهري قصيدته الشيقة في رثاء الزهاوي بهذا المقطع الجميل :
ابا الشعر والفكر المنبه امة عزيز علينا انك اليوم راقد
وان الذي هز القلوب هوامدا وحركها في الترب ثاو فهامد
اضاعوك حيا وابتغوك جنازة وهذا الذي تأباه صيدا اماجد
اخيرا نصل الى القصيدة (اليتيمة) التي خص الجواهري بها الشاعر الكوردي (بى كه س) وقد سماها الدكتور زاهد محمد زهدي في مجلده الرائع بعنوان (الجواهري /صناعة الشعر العربي في القرن العشرين 586 صفحة من القطع الكبير 1999 بيروت) في الصفحة 261 (باليتيمة) لانها القصيدة الوحيدة التي خص بها شاعرنا الراحل شاعرا يكتب الشعر باللغة الكوردية مع علمنا وعلم الجميع مدى ما يكنه الجواهري الراحل للشعب الكوردي من محبة واحترام تتجاوزان اصراره حتى رمقه الاخير على ارتداء الطاقية التي تحمل اسم كوردستان وشعارها الخالد (كوردستان يان نه مان) ومعناه (كوردستان او الفناء)!!
لقد ناغى الجواهري مطامح وامال الشعب الكوردي ويكفي فخرا واعتزازا بالجواهري قصيدته التي نظمها بمناسبة صدور بيان الحادي عشر من اذار باحلال السلام في ربوع كوردستان العراق واقرار بعض الحقوق القومية للشعب الكوردي في العراق، وكانت تلك القصيدة من مطولات قصائد الجواهري ومطلعها :
طيف تحدر من وراء حجاب خضر الترائب مثقل الاهداب
منفجر الينبوع يزخر بالسنا ويرش وجه الفجر بالاطياف
اما قصيدته التي نحن بصددها ونعني بها رثاءه للشاعر الكوردي الراحل (بى كه س) فقد نظمها الجواهري في عام 1961 ومطلعها :
اخي (بى كه س) والمنايا رصد وها نحن عارية تسترد
اخي (بى كه س) يا سراجا خبا ويا كوكبا في دجى يفتقد !!
ويشير الى الاسم الذي اختاره الفقيد لنفسه (بى كه س) والذي يعني باللغة الكوردية (الوحيد) او (بلا احد) فيقول مترجما الاسم الى لفظ (بلا احد) !
(بلا احد) سنة العبقري
يعي الناس اذ لايعيه احد
(بلا احد) غير خضر الجبال ووحي الخيال وصمت الابد !
(بلا احد) يا سنا امة تنادت الى جمع شمل بدد
تصول بسيف كثير الحدود اذا كل حد له جد حد !
ويشير البيتان الاخيران الى امة الكوردالتي مزقتها الاطماع وفرقتها ضمن خمس كيانات اقليمية متباغضة، كما يشير الى الكفاح المستمر لهذه الامة المظلومة من اجل نيل حقوقها وجمع شملها المشتت.
وحسب قول الدكتور زاهد محمد زهدي في كتابه الانف الذكر ص 262…وما اجمل البيت الاخير لهذه القصيدة الرائعة التي لم تتعد بمجموعها الخمسة عشر بيتا، اذ يقول فيه الجواهري مخاطبا (بى كه س) :
(بلا احد) ايها العبقري وانت الجميع وانت الاحد !
واذ نصل الى ختام هذا البحث اجد من المناسب جدا ان اضع هنا ما سطره تابينا للجواهري احد الشخصيات الكوردية المعروفة وهو السيد (دارا عطار) اعترافا بما اسداه الجواهري للشعب الكوردي المكافح !
(رحل عنا الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري الذي نعتبره نحن الكورد بحق شاعرنا العظيم ايضا، حيث دافع – رحمه الله- طوال حياته وببسالة متناهية ودون الاهتمام للومة للائم عن شعبنا الكوردي وحقه المشروع في الحياة الكريمة وغنى لجبال كوردستان الشامخة …
سوف تبقى ذكرى شاعرنا العبقري الشجاع في وجدان الشعب الكوردي الوفي مثلما بقيت الطاقية الكوردية المشهورة المكتوب عليها الشعار الوطني الكوردي (كوردستان او الموت) (Kurdistan yan neman) على راسه الشامخ في كل المناسبات .
جريدة الشرق الاوسط –العدد 6820
27 ربيع الاول/ 1418هـ
31/8/1997 م
—————
×-المصدر ؛-كتاب (الجواهري –صناجة الشعر العربي فى القرن العشرين ) تأليف الدكتور الشاعر زاهد محمد زهدي 590 صفحة من القطع الكبير – دار القلم بيروت /الطبعة الاولى 1999
* رمزي عقراوي شاعر وصحفي من مدينة دهوك