إيصال المعلومة إلى المتلقي نحى منحى الترغيب والترهيب عبر التاريخ، ولذا تنوعت أساليبه وطرائق تقديمه، فولدت الحكاية والقصة والقصيدة والمقال والخبر المذاع وغيرها، لكن زاحم جهاد تجاوز كل التقليد المعروف، وكل ما ركن على الرفوف، وحتى المقلي والمسكوف، ليرينا الحتوف، ويدخلنا معه دنيا الغرابة والخوف، في عالم المقامة، ويأخذنا بالأحلام لا بالحقيقة إلى أرض نجد وتهامة، وقد اختار زاحم جهاد المقامة لتكون وسيلته في بث الاستقامة عند الخاصة والعامة.
والمقامة فن ولد في زمن البطر العربي، زمن الكرش المحشى والرأس المنتشي، ليؤشر مواطن المتعة والخطر بين الفقر والبطر، ثم مات من كثرة الأزمات، أو ذهب في سبات، إلى أن جاء زاحم جهاد، فحمل سيف الجهاد بتحد وعناد؛ ليعيده إلى الحياة أو ينقذه من بين الصحوة والممات، ليلبسه ثوبا جديدا ويصبح في بنائه وحيدا فريدا، لا يدانيه فارس، ولا يوقفه حابس، محكما مقولبا كما هي المحابس، وصار في دنياه سيد الفوارس يحلق كالنوارس
المقامة لغة: المجلس، وهي فن من فنون الأدب العربي السردي المسجوع المطعم أحياناً بالشعر، تدخل المقامة ضمن فن الفكاهة الهادفة الساخرة، أو ما يعرف بالكوميديا السوداء، وهدفها الأساس: إما تعليم الفتية أصول اللغة، وتدريبهم على القدرة على النظم وفن القول، أو للاعتراض على المسكوت عنه، الذي يوجع النفس، ويتم الحديث عنه بالهمس. تبنى المقامة عادة من خلال التفنن في الإنشاء، والاهتمام باللفظ والأناقة اللغوية وجمال الأسلوب والمحسنات اللفظية والبديعية.
وللمقامة ثلاثة أركان بنائية لا تكتمل المقامة إلا بوجودها، هي:
الراوي: الذي يتكرر اسمه عادة، وهو عند الهمداني عيسى بن هشام وعند الحريري الحارث بن همام، وعند زاحم جهاد عبد الله بن بهلول.
البطل: وهو مثل الراوي يتكرر دوره في المقامات، وعلى لسانه يدور محور المقامة، وهو عند الهمداني أبو الفتح الأسكندري، وعند الحريري أبو زيد السروجي.
النكتة: ولكل مقامة نكتة توصل من خلالها وعن طريق البطل الفكرة المطلوب إيصالها.
يعتمد بناء المقامة وأسلوبها على السجع عادة، مع توظيف مكثف للمحسنات البديعية كالطباق والجناس، فضلا عن التهويل في استخدام الكنايات والاستعارات والتزويق، فضلا عن توظيف غريب اللغة ونادر الاشتقاقات، بما يدعو إلى الإغراق في الصنعة إلى درجة التكلف الشديد، ولكنها بالرغم من ذلك تبدو كحجر المغناطيس تجتذب إليها كل الأصناف من حديد أو نحاس أو خشب صفصاف، ولاسيما من اكتملت به الأوصاف وأصبح من سكان عالمها الضعاف.
وأن تجد المقامة في عالمنا المزدحم المملوء بالضجيج مكانا لها، ثم تجد من يتابعها، ويهتم لشأنها، ويشتاق إلى متابعتها، فتلك ليست مؤثرات الموروث القديم من زمن السلاطين والحريم؛ بقدر كونها تلبية لاحتياجات نفوسنا التي نشعر أنها محاصرة من كل الجهات في عالم من المتاهات.
وفي عالم مثل هذا الذي نعيش مأساته لا شيء أكثر إمتاعا من أن يتسكع المرء في عوالم مسكونة بالدهشة، ومملوءة بالحكمة والوحشة، وغاصة بالسخرية والفطرية والسذاجة والتورية واللجاجة والأحجية، وكل ما عثر عليه الأولون من طباق وجناس وانطلاق واحتباس، ليكتشف بعد فوات الوفيات أنه يمخر عباب نهر هائج مائج، متلاطم الأمواج، منتفخ الأوداج، يُجذف عكس التيار في زورق من نار، لا يجد منه فرار، مخروم الجوانب منتوف الحواجب، تنفذ إليه السهام من كل صوب، وتأتيه الرياح من كل حدب، وتقوده الأيام في أصعب درب، وهو منهك القوى، خائر العزيمة، ضعيف الشكيمة، ولكنه مملوء بالإصرار والتحدي إلى درجة الانصهار، ليتحول إلى كائن تجتمع فيه كل نقائض وتناقضات الدنيا ، في عالمه المسكون بالآهة والوحشة والوحدة والوجع، وقليل من بقايا فرح قديم، عديم الملامح، غائر القسمات، فاقد البسمات، يعاني الشتات.
إن التسكع في عوالم زاحم جهاد يصيب الإنسان بالخور والإعياء، فيتحول إلى كائن من طين وماء، يبدو من شدة دهشته وكأنه يبحث من بين كل الأشياء عن إبرة في كومة قش في ليل مظلم لا يهش به ولا ينش، وذلك لأن زاحم جهاد وظف كل تجربته الحسية وخبرته الحياتية وقواه العقلية في عمل من صنف الأعمال الفنطازية، أطلق عليه اسم (مقامات معاصرة) ودفعنا عنوة لخوض غمراته والتدافع في لجج حيثياته بحثا عن أنفسنا، وعن أصدقاء تربطنا بهم متعة الفكر المضنية، وعيش اللحظات المنسية، والذكريات المطوية، حيث وجدتني في الصفحة الثامنة والتسعين أنا والثريد، دون أن أبحث عن مزيد، أو أعرف ما أريد، ووجدت فيما وجدت الصديق الدكتور بهجت عباس هو والشكوى، والأخت والزميلة الدكتورة هناء القاضي هي وعسل المظ، والأخوين العزيزين يحيى السماوي وسلام كاظم فرج هما والنسج والحلج، والأخ الأديب عبد الستار نور علي هو ومأساة الكرد الفيلية، والصديق الطيب عبد الفتاح المطلبي هو والمطلبية، والزميلة ياسمينة حسيبي هي والآبدة، وشاعر البجع سامي العامري هو وأطواق البركة، والزميلة سلوى فرح هي وعيد الميلاد، والأخ موسى فرج هو وحطاط المسموط، والصديق عمار المطلبي هو والكرسي، والصديق جواد كاظم غلوم هو وسلام الرحمانية، والزميلة ميادة أبو شنب هي والشقشقة، ووجدت آخرين لم يسعفني الحظ بالتعرف عليهم من قبل، ولم يكونوا معنا في جلسة المسموطة أو الثريد، ولكني شعرت بهم وكأني أعرفهم منذ زمن طويل.
كانت بداية اطلاعي على مقامات زاحم جهاد بعد المقامة التي كتبها يصف بها ومن خلالها جلسة المسموطة التي جمعتنا في بيت الأخ والصديق العزيز الأستاذ موسى فرج في السماوة العزيزة، وقد دهشت من قدرته على التلاعب بالكلمات والجمل، ودهشت من حجم خزينه اللغوي؛ الذي أمده بكلمات وجدتها غريبة عن العربية، ولكن بعد البحث عنها في قواميس اللغة؛ بدت عربية خالصة، ثم تكررت كتابة المقامات إلى أن جمعتنا سفرة المثرودة في بيتي المتواضع، لتولد من خلالها مقامة (مثرود الطائي) التي تأخرت ولادتها حينا من الدهر، ثم لما تذكرها جاءت رائعة موشاة، وفي خاتمتها اعتذار جميل عن التأخير، قال فيه: “لذلك فإن القلب في هم وكنود، والعقل في شرود أو ركود، لم أتبلدح ولكني نسيت عهودي، وتأخرت عن انجاز وعودي بالكتابة عن المثرود، جعل الله رزقك بالممدود، وأبعدك عن ثمود”[ص100] بعد ذلك رجوته أكثر من مرة أن يبادر إلى جمع المقامات في كتاب، لكي تأخذ مكانها بين النتاج الأدبي المعاصر، لأفاجأ اليوم بالأخ صالح مطروح رئيس اتحاد الأدباء السابق في واسط؛ وهو يحمل لي نسخة من كتاب أخبرني بأنه هدية من زاحم جهاد، وحينما فتحت الظرف وجدت (مقامات معاصرة) بحلة قشيبة، ففرحت بها أشد الفرح:
لأن المقامات تحولت إلى مطبوع جميل جدا سيأخذ مكانه في المكتبة العربية.
ولأن مقامة المثرودة التي تخصني وهي من بطولتي؛ كانت من ضمن الكتاب.
ولأن زاحم جهاد تذكرني وأرسل لي إحدى النسخ هدية ولا أغلى.
ولأن مشاغل زاحم الكثيرة وكثرة أسفاره بين البصرة وبغداد؛ لم تأخذه من عالم الأدب ودنيا المقامات.
وقد دفعني الفرح الغامر لأجلس، وأقرأ كل المقامات دفعة واحدة، وأكتب عنها هذا الموضوع بدون مقدمات في جلسة واحدة، حوت المتعة والفائدة، لممت من خلالها بالشاردة والواردة، ولم تبد معاندة، فأرسلته إلى النشر والتوثيق دون تجميل أو تزويق وأنا أبلع الريق خوف مقامات الصديق.
صالح الطائي
بغداد المنصورة أبدا
6/6/2014