* بين (تفاصيل) مجموعتك الأولى في منتصف السبعينات وبين المجموعة الأخيرة (أربعون قصيدة عن الحرف) في الربع الأخير من عام 2009 ركام من الأعوام والأحداث خربت البلاد والعباد خاصة في المرحلة السابقة هل نستطيع القول أن أديب كمال الدين نأى بنفسه وشعره عن الخوض في تعقيدات تلك المراحل الصعبة ولجأ الى مبدأ التقية للخلاص من جحيم المؤسسة بشقيها الأيدلوجي والديني ام ان هنالك رأي آخر لك..؟
– بل العكس هو الصحيح. كانت قصائدي مرآة لواقع دموي ومأساوي عنوانه العنف وتفاصيله الخوف وجذوره الدم. لكنني عبّرتُ عن هذا المسرح اليومي لبلاد أصابها جنون الحرب وكارثة الحصار وعنف الأنونية وغباء الديكتاتورية عبر منظومتي الشعرية الخاصة: منظومة الحرف. كان الحرف يفصح ويشير والنقطة تقول بالشيء أو تقول بالشيء وتفصيله. نعم واستخدمت هذا القاموس الحروفي أو الحرفنقطوي- إنْ شئتَ تسميته- ضمن مستويات أعتقد أنّ الحرف يمتلكها وهي المستوى الروحي والترميزي والتراثي والقناعي والتشكيلي والدلالي والطلسمي والإيقاعي والأسطوري والخارقي والسحري والطفولي.
لقد تكلّم الحرف في تفصيل ما حدث لي ولبغداد وللعراق. وتكلّمت النقطةُ من خلالي فأنا النقطة باعتبارها مركز العالم حسب الفكر الصوفي، وأنا الحرف حامل السرّ الإلهي دون شك. وما بين الاثنين كانت هناك رحلة شعرية طويلة ومختلفة ومتنوعة في الإفصاح عن كم من العذاب الهائل الذي عاناه العراق وأهله من الحروب والحصار والاستبداد والطغيان وتكميم الأفواه والاستخاف العجيب بمصيره كبلد وبأهله كشعب، فصار لزاماً أن أفصح وأشير، أن أنطق وأبوح بما لا ينبغي أن يُباح به سيما وأنا نفسي مادة هذه المعاناة والمركز الذي ناء بها، أنا المُعذّب المسحوق المُبتلى بكلّ قسوة الديكتاتورية والحروب والحصار والطغيان وتكميم الأفواه.
ولكي يكون جوابي أكثر وضوحاً سأقدم بعضاً من الأمثلة الشعرية من مجاميعي الشعرية العديدة. لقد بدأتُ تجربة كتابة القصيدة الحروفية مع مطلع الثمانيات بقصيدة (طلسم) ثم قصيدة (كهيعص). واذ استفادت الأولى من المستوى الرمزي-السحري للحرف، فإنّ الثانية استفادت من المستوى التراثي للحرف ثم كتبتُ قصيدة (جيم) لتستفيد من المستوى الرمزي للحرف، وتدخل بقوة على مأساة الحرب: الحرب العراقية- الإيرانية التي أهلكت الزرع والضرع والعباد والبلاد، فبطلة القصيدة هي (الجثة) ولم يكن حرف الجيم الا ترميزاً لها. وقد صدرت القصيدة ضمن مجموعة (جيم). أما في مجموعة (أخبار المعنى) فقد زاوجتُ ما بين الحرف والمعنى، وجعلتُ للمعنى- كي أتعرّف عليه وعلى الحرف أيضاً- ألفه وداله وكافه وصاده وسينه، مثلما جعلتُ للمعنى بيته وموته وقبوره ووصوله وأخباره وشمسه وزمنه وعريه وماضيه وإيقاعه وارتباكه ومأساته في آخر المطاف. ففي أول قصيدة للمجموعة وعنوانها (موت المعنى) كتبتُ لأصف واقع الحال المزري:
(أختارُ لموتي أسئلةً من طين، ومرايا تفضحُ أجساداً من قطن، ومعارك لم تحدثْ. وأناورُ في تدبيجِ مقالاتٍ تتسترُ في اخفاء هزائم كلماتي كي أخرج محتفلاً والناس سكارى يرتجفونْ.
أختار لموتي عنواناً ورسائل خالية إلا من خيبةِ أطفالي، ودراهم كاذبة، سيقاناً تلهبُ أغنيتي الدرداء. وأختارُ لموتي معنى، وأضمّخه بالطيبِ وأنشره في السرّ على أكتافي. وأهاتفُ أنكيدو القابع في أعماقي: إنّ امرأة الغابةِ توقظُ فينا تفّاحَ الصبواتِ وتقتل طلعَ الربّ حذارِ. أشاورُ كلكامش ليلاً لنؤسس مكتبةً لحروفِ الحقِ، الحبِّ، وحاءِ الشعراء المنسيين. وأختارُ لموتي مأساة وأؤسس سيناً أخرى لا تدخل في كلماتِ اليأسِ، السورِ، السجنِ، سلامِ الرعبِ، سقوطِ الأسنان. وأختارُ لموتي ريحاً وعواصف من قلقٍ وأحاكمه وسط شواطئ لا يتعرّى فيها غربانُ الكلماتِ المنخورة، ألقي القبض عليه وأدفنه في الأرض وأختار لموتي موتاً أبهى، أكثر طولاً وشباباً. أختارلموتي راقصةً وأكون الطبّال فهزّي هزّي. أتعبنا أنّ الزمنَ الموحشَ باعَ الريشَ هنا في حاناتِ المنسيين، فهزّي، الناقدُ مشغولٌ بدراهمه والشاعرُ صارَ مصففَ حرفٍ في مطبعةِ السخفِ الكبرى).
وبصدور مجموعتي (النقطة) أكون قد دخلتُ إلى النقطة محاولاً كشف سرّها الروحي العتيد. فكانت هناك 30 “محاولة” شعرية فيها اختصت ست منها بالنقطة عبر أناتها ودمها وسؤالها ودخولها وفرحها وحقيقتها. وفي كل ذلك كانت حالة المأساة بارزة فلا تخفيها الإ مرموزية الحرف-نقطة وقابليتها العميقة في البوح والإعلان بطريقتها الخاصة جداً. وكانت قصيدة (محاولة في أنا النقطة) تشير بوضوح الى ما حدث وما سيحدث:
أنا النقطة
أنا بريقُ سيفِ الأصلع البطين
أنا خرافةُ الثوراتِ وثورات الخرافة
أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى
أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض
أنا بقية مَن لا بقية له
أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم
أنا ألف جريح
ونون فتحتْ لبّها لمن هبّ ودبّ.
*
أنا النقطة
فيّ احتوى العالمُ الأكبر
والألمُ الأفدح
فيّ اختفتْ ابتسامةُ الطفل وحفيفُ الشجرة
فيّ اختفتْ موجةُ البحر وندى الربيع
فيّ تجمهر الماضي
وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرةٍ حاشدة.
*
أنا النقطة
عرفتُ الحقيقةَ وعجنتها بيدي
قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة
وقبل أن يصل إلى القمر
وقبل أن يبتكر المقابر الجماعية.
بل إنني عرفتُ الحقيقةَ عارية
عري هابيل وقابيل
فأعطيتها ملابسي المثقوبة
ورعبي الذي اتسع فشمل آسيا الطغاة
وأفريقيا المجاعة
وأمريكا الأعاجيب(.
وفي قصيدة: (محاولة في الرثاء) في مجموعة: (النقطة) كتبتُ مشيراً الى الخراب العظيم حيث يُقاد، وسط الحرب الوحشية، كلُّ شيء الى ساحة الموت:
(في الصيحةِ الأربعين
قلتُ:
أيها الحلم
يا مَن يظهر ورقُ اللعبِ صورته
يميناً ويساراً
يسارا ًويميناً
كم افتقدنا عطفك
كم افتقدنا ركوبكَ الخيل والمساءات
سائلا ًعنا نحن الحروف التي بلا نقاط
والنقاط التي بلا مستقبل
والمستقبل الذي بلا معنى
والمعنى الذي بلا مغزى
والمغزى الذي يقودنا بوحشيةٍ إلى ساحةِ الموت.)
وفي قصيدة (محاولة في النافذة) كتبتُ في المجموعة ذاتها لأعلن: إن الموت وزجاجه قد تناثر في الشارع وكنتُ مَن أزاله بلسانه الجريح:
) ولذا سأنادي: أبي
يا سيف صحراء الحرمان،
أبي
أيها الشفوق كهلالِ العيد،
أبي
يا ثمرة الغيب ونتاج العظمة،
أبي يا أبي
أغثني أغثني
فالرماحُ تكاثرت
والنافذة
ضاقت بما ترى
فخفتُ أن تتسع
أو تجنّ.
*
أبي
ضاقت النافذة
بنفسها وتحطّمتْ
ونزلَ زجاجُ الموتِ إلى الشارع،
فأزلته بلساني الجريح
يا أبي(.
وفي مجموعة (حاء) حاورتُ الحاء: حاء الحبّ والحرية والحرب، وهي حاء الحلم الجبار الذي يكاد أن يختصر الشعر ومعناه وغموضه وارتباكه وحيرته:
(هل ينبغي كتابة القصيدة
من الأمام إلى الخلف
أم من الخلف إلى الأمام؟
من اليمين إلى اليسار
أم من اليسار إلى اليمين؟
أم من اليسار إلى اليسار؟
من الثلج إلى النار
أم من النار إلى الماء؟
من الماء إلى الأُم
أم من الأُم إلى الأرض؟
من نيويورك إلى بغداد
أم من بغداد إلى الجحيم؟
من الخرافة إلى النقطة
أم من النقطة إلى الجنون؟)
إنها المأساة، إذن، بأعمق صورها. في قصيدة (سرقة) المنشورة في مجموعة (حاء) كذلك كتبت:
(هكذا كُتِبَ عليّ
أن أرى رأسي يُحْمَلُ فوق الرماح
مثل رأس الحسين
وأن أرى جسدي يتقرّح ويموت
مثل جسد أيوب
وأن أحمل على ظهري
صخرة بروميثوس
لأبادل جنون الوطن بجنون المجهول
ورماد الفرات برماد الأنهار الكسيحة
وبهجة دجلة ببهجة الغيمة
ذات الملابس الداخلية المتهرّئة).
أما في مجموعة (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) فيمكنك أن تقرأ قصائد: (مطر أحمر.. مطر أسود) و(مسلسل) مثلاً لتتعرف على تفصيل العذاب الأسطوري. وفي مجموعة (شجرة الحروف) كانت بغداد تتألم بل تتمزق وتتشظى حين تكالب عليها الجميع:
(تعبتْ بغداد من ثيابِ الدم
تعبتْ وبكتْ
وحين طلبتْ جرعةَ ماء
أعطوها قنبلةً للموتِ وسيفاً للذبح
وحين طلبتْ رغيفَ خبز
أعطوها رمحاً من نار
وحين طلبتْ شمساً
صادوا شمسَ الله
حتّى لا تحضر يوماً ما
لشوارع بغداد).
أظن أنّ هذه الأمثلة تقدم بوضوح حقيقة أنني كنت وسط المصهر الجنوني الذي اسمه العراق أتنفس ألمه وأتماهى معه. بالجملة كان شعري الإنساني النزعة والصوفي المحتوى خارج الخطاب الشعري والإعلامي، فلم أكتب الشعر الايديولوجي في السبعينات ولا الشعر الحربي في الثمانينيات ولا الشعر التمجيدي في التسعينيات. كان شعري- ولم يزل- يبحث في المسكوت عنه، ليعبّر، بالرمز الحروفي عن التراجيديا التي سيطرت على الحياة العراقية وبسبب ذلك كنتُ من المهمَشين. والأمثلة كثيرة على ما أقول، ففي نهاية التسعينيات حين خصص النظام الديكتاتوري “رواتب” للشعراء والكتاب استثنى أسماء محدودة للغاية كان اسمي احدها. وكنت أطبع مجاميعي على نفقتي الخاصة، ويعلم الله سبحانه وتعالى أنني طبعت (نون) و(النقطة) بهذه الطريقة وقت الحصار وأنا أكاد لا أجد ما آكله أنا وأطفالي. ثم خذ مسألة الدعوات، لقد وجهت إليّ العديد من الدعوات للمشاركة في المهرجانات الشعرية والثقافية أبان الثمانينات والتسعينات من قبل اتحادات الأدباء في تونس، والأردن، واليمن وقد تم رفضها جميعاً من قبل وزارة الاعلام أو اتحاد الأدباء وحجتهم في ذلك معروفة أنني إن سافرت فلن أرجع إلى العراق!
وفي المربد، وهذا مثال آخر للتهميش، شارك أحد شعراء جيلي السبعيني عام 1974 أما أنا فلم أدعُ إليه إلا عام 1994 أي بعد عشرين عاماً بالتمام والكمال. وحتى بعد أن شاركت فيه، كانت الدعوة توجه إليّ لأقرأ فقط، في أماكن وأوقات لا يحضرها من الجمهور إلاّ النزر اليسير! وحين قرأت قصيدة (موت المعنى) التي ذكرتها في مطلع حديثي هذا، في منتصف التسعينيات، في احدى قراءات مهرجان المربد التي تمت في مدينة النجف فقد احتج رئيس اتحاد الأدباء حينذاك عليها بشدّة وبعدها توقفت عن المشاركة!
ونقدياً كانت قصائدي بعيدة عن التناول. فإنْ حصل كان نشر المقالة النقدية أمرا صعباً بالنسبة للناقد. فلقد كان الجهد النقدي مكرساً للكتابة عن الأسماء المتنفذة والمرضي عنها!
* برأيك هل يتداخل الشعر مع تفاصيل الحياة ويأكل من جرفها ويصبح كائناً يومياً من ضمن معطياتها لعل له يجد منفذا يعبر من خلاله الى شاطئ التغيير والتحول في مثاباتها ام انه كما يشير أودنيس في كتابه (سياسة الشعر) هدف سامٍ ولا يمكن له ان يصبح سلمةً للوصول الى اي هدف آخر؟
– يبزغ الشعر وينمو ويترعرع تحت مسمّيات كثيرة وأهداف كثيرة وعنوانات أكثر، وأولئك الذين حاولوا أن يقيّدوه أو يسجنوه أو يختصروه تحت أي مسمّى محدد أو هدف محدد أو عنوان محدد لم يفلحوا ولن. والسبب بسيط وعميق في الوقت ذاته: الشعريسطع ويتألق ضمن التنوّع لا ضمن التقييد والتحديد شرط أن يلتزم بقوّة بشروط الفن الجمالية. هذا هو الشرط الوحيد وليس هناك من شرط غيره على الإطلاق.
يمكن، إذن، أن يكون الشعر يومياً جداً، بل له أن يدخل ما شاء في تفاصيل اليوم ذاته من زمان ومكان وحلم وحب ورغبة وعمل وملل وضجر وتأمل وترقب وخوف ورعب وجوع وعطش وجنس وشوق وحرمان ورحيل وقتل واحتجاج وفقر وتظاهر وحرب ورحيل وغرق وضياع ونفي وموت.. إلخ.. محاولاً أن يتنافذ مع تفاصيل اليوم المتنوعة ناطقاً أو دالاً أو منبهاً أو محذّراً أو مشيراً أو ساخراً أو قانصاً للحظة ما أو للقْطة ما أو لصورة ما أو للحظة ما. لكن ذلك الشعر اليومي يجب- بكل معنى الوجوب- أن يكون مكتوباً بفنية عالية ومهارة ظاهرة. ويمكن له، كذلك، أن يكون عاجياً ونخبوباً شرط أن يقنعنا بعاجيته ونخبويته ضمن الشروط الفنية لكتابة شعر حقيقي، عميق، متماسك وقابل على مواجهة التحديات وأولها الزمن. فالزمن عامل جبار يسحق كلّ شعر غير أصيل – بل كلّ فن غير أصيل- سواءً أكان الشعر نخبوياً عاجياً أو يومياً شوارعياً!
إذن المشكلة الإساس للشعر هي أن يقاوم الزمن فلا يندثر أو ينهار حين تمرّ عليه السنين. ولا يتم له ذلك إنْ تخلّف جمالياً وكُتِبَ بأساليب أصبحت في خبر كان وأخواتها فيملّه القرّاء وينبذوه وراء ظهورهم أو كُتِبَ بتغميض مقصود- وليس بغموضٍ خلاّق- ليتحوّل إلى طلاسم لا تحترم النبضة الإنسانية بل، ربما، تستهين بها أو كُتب دون تجربة روحية عميقة لدى الشاعر وشوق أصيل الى ملامسة أسرار الحياة الكبرى.
هكذا فإنّ الشعر، بشكل لا يقبل الأخذ والرد، يحتاج إلى إيمان حقيقي وعميق وراسخ به وبدوره الإنساني الكبير. وهو بهذه الشاكلة يكون، دون أدنى شك، رديفاً للشعراء المبدعين مهما كانت عناوين قصائدهم واتجاهات موضوعاتهم يومية أو غير يومية ما دامت هذه القصائد ذات مستوى فني عميق. هؤلاء يستطيعون أن يجددوا ويبدعوا ويتألقوا بنار الشعر ويتماهوا مع مباهجه الكبرى: وهي مباهج فنية وروحية وحياتية خالصة. لكن الشعر كان ولم يزل- وخاصة شعرنا العربي- طريقاً للتكسّب وأداةً لمآرب دنيوية تافهة لدى العديد من الشعراء الذي اتخذوا الشعر وسيلةً للكدية أو وسيلةً لتمجيد الأفكار اللانسانية أو الضيقة الأفق. وبالطبع فقد أورث هؤلاء الشعرَ العربي تلالاً من القصائد الفاسدة والنفايات الشعرية!* يقول نيتشه: (كل شعرٍ ذو منشأ ديني) الى أي مدى تتحقق هذه الأيقونة النيتشوية في تجليات أديب كمال الدين وهل لصوفية الحرف والنقطة التي همتَ بها حدَ العشق والوله على امتداد ثلاثين سنة نقطة تلاقٍ مع هذا الطرح أم أنّ عشقك وتجلياتك هي روح هائم في بحر الجمال الفطري ولا شأن لها بهذا النسيج الفلسفي..؟
– ما قاله نيتشه قد يصحّ لتوضيح منشأ الشعر من الناحية التاريخية. أما أنا فقد اتخذت الشعر أسطورة شخصية حروفية أفسّر بها حاء الحياة والحب والحرب والبحر. لقد اتاح الشعر أن أسجل نبضات قلبي كإنسان مشغول بالجمال الروحي والجسدي والطبيعي والسماوي وأنا أنتقل بين البلدان والزمان والبحار. إنه بوصلة بحرية ورملية وصخرية وتكنولوجية. إنه الموسيقى الأسمى والأعظم والأجمل تلك التي تهتز لها الروح طرباً أو رعباً ويرقص لها الجسد لذةً أو فرحاً أو موتاً. أما الحرف والنقطة فقد كانا ظلّي وبقايا ظلّي. بهما أكشف عن صرخة الروح وهي تتهاوى أسفل سافلين أو تحلّق عالياً كغيمة في السماء وعن صرخة الجسد وهو ينهار كسدٍ من طين أو ينتشي كطفلٍ يلبس ملابس العيد في صباح العيد!
* في سورة الشعراء من القرآن الكريم تقدمت ادانة الشعراء وطردهم من فراديس الاسلام ووقوعهم في المحظور وتأخرَ استثناء الذين آمنوا منهم وكذلك فعلها افلاطون في جمهوريته العتيدة ولم يتقبل طائفة الشعراء فيها كطبقة من طبقات مجتمعه المثالي.. هل ترى في الشعراء خصيصة الرفض القائم ابداً لأجل الرفض فقط لأي نظام حياتي قائم..؟ ام انهم فعلا يشكلون المحرك المعارض لأي نظرية طويلة الأمد قابلة للتقادم والتآكل..؟
– لقد قدمت الرسالة الإسلامية طروحات خطيرة في وقتها زعزعت المتعارف والمتفق عليه على كافة الأصعدة. فلقد دعا النبي محمد (ص) الناس الى عبادة إله واحد أحد لم يلد ولم يولد ولا يُدرك بأين ولا بحيث، إله امتلك من الصفات والأسماء أعظمها وأكثرها قوة ومنعة فهو الخالق العزيز الجبار المتكبر الحيّ الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو الملك القدّوس السلام المهيمن الرحمن الرحيم الرزاق العظيم، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو الذي أحاط علمه بكلّ شيء حتى لا تخفى عليه خافية، وهو المطلع على الأسرار وماتخفي الصدور، وهو المطلع على الغيب بل أن الغيب كله ملك يمينه والسموات والأرض. إله إذا أراد شيئاً قال له كنْ فيكون: (إنّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون). إله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّه من لغوب.
هذه الدعوة لعبادة الله الواحد الأحد كان صدمة كبرى لقوم عبدوا العديد من الأصنام وكانت هي آلهتهم التي توارثوها عن الآباء والاجداد. وكانوا يصنعونها من الصخر أو الخشب أو التمر وقد يحملوها معهم في أسفارهم أو قد يأكلونها إن جاعوا! أصنام وضعتها قريش في الكعبة لتنال بسببها المال من الحجيج والتجارة والرفعة بين قبائل العرب.
على صعيد المجتمع دعا الإسلام الى المساواة بين الناس. فالناس سواسية كأسنان المشط كما يقول النبي (ص). وهكذا ساوى الإسلام بين العبد (ابن سمّية): عمّار بن ياسر وسيد أشراف مكة أبي سفيان. بل إن الإسلام أعطى عمار ابن ياسر منزلة أكبر فهو من السابقين الى الإسلام، المقرّبين الى الله ورسوله والموعودين بجنة الخلد. كما أعطى الإسلام للمرأة حقوقها وهي المؤودة التي كانت تُدفن في التراب حين تُولد، وأعطى للطفل حقوقه بل أعطى للحيوان حقوقه!
لقد دعا الإسلام الى السلام والمحبة واحترام الضعفاء ودفع الزكاة الى الفقراء مثلما أوصى بالجار وبالوالدين إحساناً ودعى الى احترام العهود والمواثيق ونهى عن الغدر والسلب والسرقة وقتل النفس البريئة والكذب والرياء والنفاق والزنا والربا وشهادة الزور والعدوان على الآخر بأيّ شكل كان.
مثل هذه الطروحات الدينية والروحية والأخلاقية والإجتماعية الجديدة والعميقة الأثر زعزعت النخبة المتنفذة في مكة من أشرافها وأغنيائها وتجارها فشنوا حرباً شعواء على النبي (ص) ورهطه خوفاً على تجارتهم وأموالهم ومكانتهم بكل الوسائل الممكنة بل إنهم لم يتركوا وسيلة أو طريقة لسحق الدين الجديد لم يفعلوها. لقد حاولوا مراراً قتل النبي (ص) وتسفيهه وقتل أصحابه وتعذيبهم وشن الحرب عليه والتشنيع عليه والإساءة اليه بكلّ وسيلة. وقد ساهم بعض الشعراء في هذه الحرب غير المقدسة حين أغدقَ عليهم أغنياءُ مكة المال الوفير فانبروا ليسفّهوا محمداً وربّه ودينه. لقد كان للشعراء وقتئذ أهمية خطيرة في التأثير على المجتمع وقيمه وكانوا بمثابة وزراء إعلام. فهم الوحيدون الناطقون إذ لم تكن هناك، كما هو معروف، صحافة مكتوبة ولا مرئية ولا مذياع ولا تلفاز إلخ. والشعراء فعلوا ذلك حبّاً بالمال الذي أغُدق عليهم لا حبّاً بأغنياء مكة وتجارها. ولو أن النبي (ص) أغدق عليهم المال كما فعل أغنياء مكة وتجارها لما توانوا، ربما، عن نصرته. لكن النبي (ص) لم يكن ليستعين بمشركٍ أبداً، ولم يكن ثرياً ليغدق عليهم المال، ولم يكن أتباعه من الأثرياء بل كانت غالبيتهم العظمى من الفقراء والمسحوقين والمستضعفين، ولم تكن وسيلته الشعر ولا الشعراء في نشر دعوته. ولا تنسَ أنه نفسه كان متهماً بالشعر (أمْ يقولون شاعرٌ نتربّصُ بهِ ريبَ المنون). كان يعرف أن النصرالإلهي حليفه أولاً وأخيراً ولذا واجه الطبقة المكية المتجبّرة بإيمانه العظيم وبشجاعته المتناهية وبصبره العجيب وبزهده الذي لا يُوصف. لقد كان هؤلاء الشعراء لا يؤمنون الا بالطعام والشراب والجنس والدهر الذي سيهلكهم (وما يُهلكنا إلا الدهر). لم تكن تعنيهم أسئلة الحياة والموت كثيراً. وماعدا استثناءات محدودة من الشعراء الذين حاولوا أن يستوعبوا ما جاء به الدين الجديد من طروحات خطيرة حقاً بسبب أن الأسئلة الروحية كانت ضمن اهتماماتهم وقاموسهم الشعري، فإنّ الغالبية منهم وقتئذ كانت بلا أسئلة كبرى على صعيد الفكر وبلا مبادئ سامية على صعيد السلوك اليومي. هم ينتصرون، فقط، لمن يدفع المال ليس الإ! ومن أسهل الطرق حينذاك نيل عطايا الطبقة المكية الغنية المتنفذة عن طريق السخرية من هذا النبي الذي آمن به الفقراء والمحرومون والعبيد والذي يدعو الى إله واحد يقول بالبعث وبالجنة والنار ويقول بإحياء العظام وهي رميم ويدعو الى الصوم والصلاة ويحرم الخمرة والزنا والميسر! وبخاصة في وقت بدء الدعوة الى الإسلام!
وإذن ليس غريباً أن يهجو القرآن الكريم هذا الرهط من الشعراء الذي لم يستطع فهم فحوى الرسالة المحمدية التي جاءت رحمة للناس ولتغيير مجتمعهم الذي يسوده الظلم والعنف والفوضى. لكنه لم يهجُ كلّ الشعراء حيث استثنى من عرف الحقّ ورسول الحق وقيم الحق. إذن فقد هجا القرآن الكريم المرتزقة من الشعراء الذين لا يدينون الإ بدين الدينار ولا يعترفون بغيره رباً وإلهاً!
نعم ليس غريبا أن يهجو القرآن الكريم هذا الرهط الذي لم يستوعب ما جاء به النبي (ص) من دعوة لتغييرعظيم في الحياة وتفاصيلها. فالقرآن معجزة النبي الكبرى، القرآن الذي لم يكتفِ بتحدي المشركين بلغته وبلاغته وفصاحته وحكمته وقصصه ونقله لتفاصيل ما كان وسيكون بل كشف للمشركين ومَن سار في فلكهم من الشعراء عن فقرهم الروحي، وأفصح، دون لبس، عن ارتباكهم الفكري، ووصفهم بما يستحقون من الصفات.
* بوصفك من المثابات المهمة في الشعرية العراقية والعربية ما الذي تراة يلوح في الأفق ما بعد النص المفتوح وهل هنالك زلزال آخر سيضرب سواحل الشعرية بعد تسونامي الثمانيين؟
– على الدوام نرى النص الشعري المتميز نادراً في كل زمان. والغلبة على الدوام للنصوص الرديئة للأسف. الآن نحن في زمن الصحافة الانترنيتية التي أزالت الحواجز العربية والعالمية أمام كل شيء وجعلت العالم كله يتصل بسهولة بالغة. وعلى صعيد الشعر صرتُ أرى عشرات النصوص الشعرية تُنشر بسهولة بعيداً عن تسلّط مسؤولي الصفحات الثقافية ورؤساء التحرير ومزاجيتهم وأنانيتهم في عشرات المواقع الشهيرة وغير الشهيرة إضافة الى مواقع الشعراء والشاعرات. لكن الصورة ليست وردية حقاً. فإذ زالت صعوبة النشر وصار بإمكان النصوص الشعرية أن تتلاقى وتتلاقح وتتعرف وتعرّف بنفسها وبكتّابها من دون صعوبات النشر السابقة التي قيّدت الإبداع بألف قيد وقيد، أقول إذ حدث هذا الأمر السعيد فإنّ كتاب وكاتبات الخواطر ذات العواطف المائعة تمكنوا من تسيّد موقف النشر الانترنيتي ونشر تجاربهم الهشة الساذجة تحت تسمية قصيدة النثر، هذه التجارب التي تحتاج الى وقت طويل لتنضج على نار التجربة الكتابية والحياتية إنْ قُدّر لها أن تنضج أصلاً .
لكن المسألة ليست انترنيتية خالصة إذ يجب أن نعترف بأن هناك أزمة في الحصول على الشعر المتفوق المبدع ليست جديدة البتة، لأنّ الكثير من الشعراء والشاعرات في أقطارنا العربية يفتقدون إلى الفهم الدقيق لمسألة بنية القصيدة، ولمسألة النمو العضوي في القصيدة، ومسألة الاقتصاد في اللغة، ومسألة القاموس الشخصي للشاعر، كما يعانون من الخواء الروحي والإنساني أحياناً. الكثير منهم لا يملكون تجارب روحية أو إنسانية ذات شأن أو عمق. وتجد جملهم الشعرية وصورهم الفنية مليئة بالتغميض والترهل والتقعير والهذيان اللامجدي حتى تحوّلتْ قصائدهم إلى مايشبه ركاب عربة القطار الذين لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يجمعهم أي جامع سوى العربة. مثل هؤلاء الشعراء يهرفون بما لا يعرفون!
* الاغتراب والغربة يأكلان من جرف الشاعر ويحولانه الى ندّاب ان صح تعبيري يغرف من يومياته ويسوّد الأوراق، كيف استطعت عبور هذا الأرخبيل الفخم والتخلص من دوار (الهومسك) والذي سقط ويسقط ضحيةً له مئاتُ الشعراء المغتربين، بحيث أنتجتَ أكثر من منجز وأنتَ في منفاك في أقصى جنوب الأرض؟
– لأسباب عديدة، الأول: إنني قد اعتدت على النفي منذ زمن مبكر من حياتي بدرجة أو بأخرى. وكانت أشكال النفي التي أعرفها عديدة وغريبة ومتناقضة وليس النفي الجغرافي بأكثرها سوءاً!
والثاني: إنني رجل متصوّف. وقد أعانني التصوّف الذي أسمّيه باختصار: حبّ الله على تحمل ليل الغربة الطويل، المظلم، الموحش. نعم، فلولاه ما كنت الذي كنته أو أكونه. لقد منَّ عليَّ بسهول المحبة حين جُبهتُ بجبال الكراهية، ومنَّ عليَّ بقدر من الهدوء حين مزّقني الدهر، وأعطاني شيئاً من الحكمة حين سَدَر أصدقائي في الغيّ، وعلّمني الحرف بل جعله مفتاحي الشعري – السحري حين ضيّع الآخرون مفاتيحهم وصناديقهم. وهو، قبل ذلك وبعده، قد خفف عليَّ من غلواء المنفى، بل قل المنافي “السعيدة”: المنفى العراقي والأردني والأسترالي.
هذا الحب الوحيد والجميل كلّمته في إحدى قصائدي وعنوانها: (أنين حرفي وتوسّل نقطتي) التي إحتوتها مجموعتي الشعرية الجديدة: (أربعون قصيدة عن الحرف) لأقول:
( إلهي
أحببتكَ أكثر مما أحبّكَ الأنبياءُ والأولياء.
فهم أحبّوك
لأنّكَ أرسلتهم بمعجزاتِ النارِ والنور.
أما أنا فأحببتك
لأنّكَ أوّلي وآخري
وظاهري وباطني،
لأنّكَ سقفي الوحيد الذي يقيني
من المطرِ والجوعِ والصواعق،
من الوحشةِ وانزلاقِ الأرضِ والذاكرة.
ولأنّكَ الوحيد الذي يستمع
إلى دموعي كلّ ليلة
دون أن يتعب
من أنين حرفي
وتوسّلِ نقطتي!).
السبب الثالث: إنّ الشعر بالنسبة لي كان ولم يزل العنوان الوحيد الذي أستلم وأسلّم من خلاله نبضات قلبي وألوان ذاكرتي وصَبَوات روحي وأسئلة عمري ودمعة طفولتي. ولذا فقد كان متداخلاً معي بقوة، متداخلاً معي ككيان إنساني قبل أن يتداخل معي كشاعر. وعلى هذا أقول دون مبالغة أنْ لا حياة لي من دون الشعر على الإطلاق. هكذا فالشعر يكتبني وأكتبه، أكتبه ويكتبني! إنه ذاكرتي الفنية ومذكّرتي اليومية لكنه مدَوّن بطريقة فنية شخصية وحروفية شعرية خالصة. وهو على هذا فما أكتبه من شعر واضح جداً أحياناً وشديد الإلتباس أحياناً أخرى. وكان الله في عون المتلقّين والنقّاد!
*********************************
علي الاسكندري – شاعر وناقد عراقي