مازلنا نحن العراقيين نؤمن بشكل كامل بنظرية المؤامرة .. وان حياتنا عبارة عن مجموعة مؤامرات موجهة ضدنا من هذه الفئة او تلك ، ومن هذه الجهة او هذه الدولة المجاورة وتلك البعيدة ، ربما هذا ما املاه علينا واقعنا وبيئتنا ، وحالة عدم الاستقرار التي نعيشها منذ نصف قرن ، وربما منذ ان نشأت الدولة العراقية ، وليس غريبا ان نذهب الى ابعد من ذلك عندما نقول انها الحالة القلقة التي رافقت هذا البلد منذ فجر التاريخ..
لقد حبانا الله من الخيرات ما لم يهبه لاي بلد اخر في العالم ، حتى سمي العراق بوادي الرافدين ، وبلاد الرافدين ، وهما الرافدان العظيمان دجلة والفرات ، ولا بلد اخر في هذا العالم سوى العراق يُعرف بهذا الاسم .
المؤامرة رافقتنا منذ نعومة اظفارنا فالإمبريالية تتآمر علينا ، والشيوعية تتآمر علينا ، والمتطرفون المسيحيون والمسلمون يتآمرون علينا ، وقطر والكويت والسعودية وتركيا وسورية وليبيا جميعهم يتآمرون علينا ، أمريكا تتآمر علينا ، وايران تفعل ذلك ، الشيعة يتآمرون علينا لتفريس العراق ، والسنة يتآمرون علينا لتقسيم العراق ، والكرد يتآمرون علينا لانتزاع اجزاء من العراق لانشاء دولتهم المزعومة على حساب تمزيق العراق .
لم يبق احد في هذا العالم لم يتآمر علينا ، انهم يسرقون ثرواتنا ، ويسرقون ارواحنا ، ويسرقون راحتنا واستقرارنا ، يخربون اقتصادنا وامننا وتراثنا وتأريخنا ، ونحن الواقعون تحت تأثير تلك النظرية المقيتة التي ارتبط كل شيء بها ، بما في ذلك ان ننعم بكهرباء مستقرة مثل عباد الله في ارجاء المعمورة ، المنظمات الدولية تتآمر علينا وتصدر البيانات والاحصائيات التي تشير الى تراجعنا ، واضطرابنا وخيبتنا ، والقتلى والجرحى بين صفوفنا ، وعدد الانتهاكات التي ترتكب ضدنا ، حتى اضحت هذه النظرية جزءا من شرابنا وطعامنا .
فهي لا تفارقنا ابدا سواء اشتدت الازمات او خفت اوارها ، وهذا لم يأت اعتباطا فهناك مئات الأسئلة بل الاف وربما ملايين منها بقيت حائرة دون جواب ، فما الذي يمنع التقاء العراقيين على حدود دنيا ، ومعايير ثابتة يتوحدون على أساسها ولايفترقون ، وما الذي يجعلنا نختلف الى حد القطيعة ، هل من مصلحتنا ان نبقى موحدين مثل كل بلاد العالم ، ام ان نصبح شتاتا نتوزع على أقاليم ، سرعان ما تتفكك الى إقاليم أخرى وربما مدن واقضية ونواح ، حتى نعود كما كنا في فجر التاريخ ونعيد مجد دويلات المدن ، ثم نبدأ نتصارع بيننا في اطار نفس النظرية التي فرقتنا ووزعتنا شعوبا وقبائل .
أهي عفوية ؟ .. ام قدر نمشي اليه باقدامنا نسلم الراية فيه جيلا بعد جيل ، فلا نحافظ على دولة واحدة قوية ، وشعب منسجم متماسك مع بعضه .. بل ماذا نفسر عزوف رئاسة الجمهورية الكردية في جيليها عن توقيع ومصادقة قرارات اعدام المجرمين العراقيين والعرب والأجانب الذين تسببوا في ضياع العراق وتمزيقه .
كان السيد جلال طالباني يتحجج بانه ينتمي الى منظمة تدعو الى تحريم عقوبات الإعدام حتى جعل قلوب الثكالى واليتامى في حزن دائم ، وقلوب المجرمين والارهابيين في فرح دائم ، فما هي الا سويعات ويهربون من سجونهم بخطط محكمة موضوعة من مجرمين سبق ان كانوا في السجون وهربوا منها ، حتى انتهت ولايته ليتسلم الدكتور فؤاد معصوم قيادة البلاد وحماية الدستور ليسير هو الاخر بالاتجاه نفسه ، ويؤجل المصادقة على قرارات الإعدام الصادرة بحق اعتى المجرمين .
وهكذا تذهب جهود القضاء العراقي سدى ، فلا قيمة لها بعد تأجيلها وتمييعها ، المجرمون مازالوا في فرح ونعيم دائم ، فلم تطل المدة حتى يجدون طريقهم الى الحرية ، وبدء حياتهم الاجرامية من جديد لقتل مزيدا من العراقيين ، مئات المجرمين الذين صدرت بحقهم احكام قطعية بالاعدام ، لكن الرئاسة تعطل ذلك ، وعندما بادرت الحكومة على رمي الكرة بملعب وزارة العدل ، بصفتها الوزارة المعنية بالامر ، انبرت منظمة هيومن رايتس سيئة الصيت الى التامر علينا ، وتدخلت في شؤوننا الداخلية ، واعتبرت الاجراء الحكومي خرقا ، وأخذت بالتشكيك مجددا بالقضاء العراقي ، حفاظا على أرواح من ينتمون الى داعش ، واصفة الاحكام بانها تفتقر الى المعايير الدولية .
ولا ندري هل ان الذين انتموا الى داعش وقاموا بعمليات إجرامية ، واعترفوا علنا بما اقترفت أيديهم ، يعاملون على اساس معايير أخرى ، وهل تريد منا المنظمة ان نعامل هؤلاء كمعارضين سياسيين . المنظمة تتجاهل عن عمد معايير المعارضة السياسية ، وأساليب التعبير عن الراي ، وتتعاطف بشكل كامل وغير مشروط مع الإرهابيين والمجرمين في كل زمان ومكان على انهم ضحايا ، اما الضحايا الحقيقيون سواء في سبايكر او من يقتل يوميا على ايدي عصابات داعش فليشربوا هم وأولياؤهم من ماء البحر.
(2935) مفقودا منذ سقوط الموصل في 10 حزيران عام 2014 ، وهذا في عام واحد فكيف ونحن نعيش الشهادة والفقدان والقتل على الهوية منذ 12 عاما ، ولا ندري هل ان عدم المصادقة على احكام الإعدام هي جزء من المصالحة الوطنية التي يرعاها رئيس الجمهورية ، واية مصالحة هذه ان تضع يدك بيد القاتل .. أي هراء هذا وكيف تسير الأمور ، لماذا علينا دائما ان ندوس على جراحنا ونمضي .. وان ننام وقاتلونا الى جنبنا ، وان تفتح عيوننا كل يوم بوجوههم الكالحة .
مجلس الوزراء العراقي كان قد وافق في 16 حزيران الجاري على قرار ينص على إمكانية تنفيذ احكام الإعدام من قبل وزير العدل ، اذا لم يوقع عليها رئيس الجمهورية خلال مدة 30 يوما من صدور حكم الإدانة النهائي للمصادقة على العقوبة ، المعلومات الصحفية اشارت الى وجود اكثر من 7000 حكم اعدام منذ عام 2006 والتي نفتها رئاسة الجمهورية ، وأكدت ان الاحكام الموجودة لا تتجاوز 600 بينها 160 حكما بقضايا إرهابية فقط ، وان باقي الاحكام جنائية مشمولة بقانون العفو ، هذا القانون هو الاخر مؤامرة لا طلاق سراح مزيد من الإرهابيين الذين تم القاء القبض عليهم وضبطوا متلبسين بالجرم المشهود ، او انهم اعترفوا بالجرائم التي ارتكبوها .
رئاسة الجمهورية غير مستعجلة بالمصادقة على احكام الإعدام ، وهي غير مبالية قطعا بمشاعر العراقيين ، وكأن تلك الاحكام مزاجية ، وانها مجرد ( لعبة الحرامي والشرطي) كلاهما مواطنين صالحين ، وعلينا ان نحترم توجهاتهما ، العراقيون يذبحون كل يوم ، وهذه الدماء التي تسيل انهارا سببها التهاون والمهادنة من قبل اطراف وزعماء ، هم جزء من العملية السياسية ، ويتحملون ذلك النزيف المستمر بسبب تعطيل القانون ، وتحجيم القضاء ، وايواء المجرمين والمطلوبين للعدالة في أربيل ، وغير أربيل تحت حماية رئاسة الإقليم .
ملفات المجرمين في ادراج مكتب الرئاسة تأكلها حشرة العثة ، والمجرمون ينعمون بمزيد من الامان والسلام ، وشراب واطعام اكثر من أي عراقي اخر ، فهم في حماية ولاخطر عليهم ولا هم يحزنون ، بينما أي عراقي يذهب الى عمله ، او يحاول ان يجري عملية تسوق ، او يصلي في مسجد ، او يذهب الى ولي من أولياء الله لا داء مراسم الزيارة ، تكون حياته على كف عفريت .
هذه المعادلة ظلت تلازمنا وهي سبب ازمتنا وتضحياتنا وعدم استقرارنا وفقداننا لامننا ، وهاجس المؤامرة لدينا يقول: ان وضع الرجل المناسب في المكان المناسب تطبق عندنا بدقة ، وذلك بتعطيل احكام الإعدام من قبل رئاسة الجمهورية ، وعلى مدى عقد من الزمان. علينا اذن نحن العراقيين لعق جراحنا ، فرئاسة الجمهورية غير مهتمة بنا ، وهي تتقاضى مئات الملايين من الدولارات سنويا لتعطيل احكام الإعدام ، وإبقاء الوضع على ماهو عليه.
عبدالزهرة الطالقاني
القاهرة
—
مقالات ذات الصلة
14/10/2024