وسط غابات من الإبداعات الروائيّة العربية وبعد روايته الأولى (نصف قمر) شمرت عن سواعدها موهبة الكاتب العراقي نوزت شمدين في رائعته (سقوط سرداب) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في شباط عام 2015؛ لتعلن لنا عن حالة سردية قلما أنجبتها أقلام المبدعين وتوارت خلف حروفها حكم العارفين وجواهر الأدباء وأصحاب الحجا الرزين، حتى تمثل الإبداع فيها قلباً وقالباً؛ ليحمل القارئ إلى مدارس الحياة ثم يتخرّج فيها مصلحاً لواقعه الذي ألقت السياسة فيه بظلمها وأعدم المتسلطون فيه ذوات الناس قبل أجسادهم حتى غدا الحلم فيه كفاحا والفكرة جرماً يحاسب عليها القانون.
لقد تمحورت الرواية بآلياتها السردية حول طفل يكبر على قهر الواقع ليهرب إلى أمل يصير له قبراً كما صار لأبيه من قبله عندما أُجبر على التخفي في سرداب بيته نتيجةً لغدر رفاقه من الضباط لأنه رفض أن يصادر انتصارات الأبطال ودماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن وطنهم.
فكرة المعركة الوهمية والانتصار الباهر على العدو جاء بها نفر من الضباط ليحصلوا على أنواط الشجاعة وهبات القيادة العليا بغير وجه حق كما جاء في رسالة الأب إلى ابنه ثائر والتي وجدها في أحد صناديق الكتب والسجلات في سرداب البيت الذي قضى فيه فترة من شبابه بعد تخرجه من الكلية أمدها اثني عشرة سنة وشهرين، وثمانية وعشرين يوما، واثنين وعشرين ساعة، وسبع دقائق. لكن العميد ركن سالم جميل أبو درع رفض أن يخون الوطن فكان أنْ خانه الوطن عندما قذفه بتهمة الخيانة وسرقة العديد من مسدسات برونك الجديدة إضافة إلى رواتب فوج كامل؛ فاختار الموت بشرف في سرداب بيته على أن يموت خائناً للوطن وترابه الذي قضى عمره في الحياض عنه بوجه الأعداء.
لطالما مثلت العبارات والجمل في سياقها الروائي دلالة أخرى تركها الكاتب لقارئ حاذق يجيد فنّ إبداع القراءة، أو لربما هي الفنّ ذاته حين يتحدث فيه الصمت بلغة الغياب في سماء الحرية ليعلن عن كل تلك المضامين الفكرية والاتجاهات الخلقية المنحلة التي قضت على المجتمع العراقي حتى تركته حبيس التيارات الحزبية والسياسية بعيداً عن رؤيته قبل رأيه فيما يخصّه أو يمسّ حياته اليومية بكل جوانبها.
لقد مثلت الرواية مدرسة وعلاجاً شافياً في أول كلماتها عند العنوان عندما أضيف السقوط إلى نكرة لتكتسبَ النكرةُ التعريف من معادلها الموضوعي الذي ظل خافياً حتى وسط الرواية، لكنه كان واضحاً من سياق القصة فمحور الأحداث يدور حول (سقوط صدام).
والحق أن هذا العمل الروائي المنصف لم يُرَد له التأريخ لفترة زمنية عاشها العراقيون كما كتب أحدهم وحسب، ولم يكن عملاً أسقط الخيال على الواقع مثلما كتب آخر وحسب، وإنما هو عمل إبداعي يحاول التأسيس لطريقة منهجيّة في القراءة همها الأول والأخير كان علاجيّاً لمشكلاتٍ اجتماعية تجذرت وسط ثقافات الشعوب فتركتها رهينة الانقسامات والأمراض الفكرية وهو ما أسقطه الكاتب من الواقع في روايته بأسلوب دلاليَ في أغلب المواطن.
لقد تمظهرت العوارض الاجتماعية التي عاشها (ثائر) المتمثل بالإنسان العراقي الذي حاول أن يجد أملاً في الحياة بمساعدة أمه وجدته وبوصيةٍ من أبيه على طول فصول الرواية في سجنه السردابي؛ فكان الاسم ملائماً لقصديّة الرواية في ثورتها ضد مظاهر التسلط والانحطاط والتبعيّة والتي لم تغادر شخصيّة الفرد العراقي ليومنا الحاضر.
(ثائر) هذا الشاب المتعلم أولاً ثم المثقف ثانياً، وليد الترف والرفاه ثم القهر والشدة أبدعته مخيلة الكاتب ليصور لنا صيدلية الأمل لغد مشرق في وطن يعيش الظلم بكل أشكاله ليتنبأ الكاتبُ بعدها في تشابه الحاضر بالمستقبل فلعلنا نجد مخرجاً مما نحن فيه.
بعد أن اتضحت معالم الحكاية الأولى ظهرت أولى الإشارات التي حددت واحدا من أسباب التخلف الذي يعيشه المجتمع العراقي فالكنز الذي وجده ثائر داخل السرداب تمثل بالقراءة ( قراءتي للكتب…) صــ 98، وفي بعض الأحيان يشير الكاتب إلى أكاذيب الواقع بطريقةٍ أقرب إلى الإفصاح إذ يطلعنا بطريقة المونولوج الداخلي على كلام امه:( وظلت لسنتين كاملتين تغريني بالعالم الخارجي، تبالغ في تجميله تؤثثه بعشرات من الأكاذيب..) صــ102 ثم ترد لفظة ( السرداب انتصر) لتشير إلى انتصار اليأس والهزيمة في مجتمع تشبّع بالخذلان ثم أعلن استسلامه عنوةً، كما استحضر ثائر عبارة جده كحكمةٍ صائبة على سبيل النصح (طرفا الحرب خاسران وإنِ اعتقد أحدهما أنه منتصر) صــ105، ثم شرع الكاتب يعرض لنا أمهات الكتب التي تمثل الرصيد الثقافي العربي وهي من أساسيات الشخصية العربية المثقفة، وهي المعول عليها في تصحيح الرؤية المعرفية للإنسان العراقي، (القط) الذي أطلق عليه ثائر تسمية أمانج لم يكن حشواً لفراغ سردي بتاتاً وإنما هو وصفٌ لإنسانية الفرد العراقي حتى مع الحيوانات في جوهرها، ولأنه استمد التسمية من صديقه في المعسكر العريف أمانج والذي يعني باللغة الكردية (الهدف) ليعلن عن هدف الحياة الكريمة بشخصية أمانج الطيّبة.
الطائفيّة والمناطقيّة في المجتمع العراقي كانت من التمظهرات التي حاولت الرواية إبرازها للعلاج واستدلت على أنها حالة مرضية عارضة بتعايش المسلمين واليهود والمسيح والأيزيديين في المجتمع العراقي في الموصل على وجه التحديد وفي عموم العراق بشكل عام وذلك عندما سردت الجدة قصة زوجها مع تلك الطوائف وعبرت عن مدى سعادته وحبه لهم، كما لم تغفل الرواية عن حالة التعصب والتطرف لدى البعض ممن يحسبون على الإسلام عندما صور لنا ثائر تلك العبارات التي كان يطلقها أمام المسجد القريب من دارهم. كما أن الحب لم يغادر فصول الرواية إذ كانت ياسمين حاضرة تصور الحب العذري الذي يكنه لها ثائر.
كل هذا وذاك جاء ليعلن عن سقوط الشخصية الثالثة بعد سقوط صدام والسرداب إنه ثائر البطل نفسة ليكشف لنا عن سقوط حالة حتمية في المجتمع العراقي، سقط صدام والسرداب وثائر ثم القيم والعادات والتقاليد، بل سقطت الحرية بعكس ما توهم الجميع ورحنا نرمم ذواتنا على أنقاض الشخصيات التي مجدناها وصنعنا منها أصناماً تُعبد كلّ حين وها نحن اليوم نعيد الصلاة لها ولو ابتعدنا عنها لصغر حجمها كما رآها ثائر في صورة صدام.
—
هذه الرواية للروائي العراقي نوزت شمدين، وليس علي الكردي.
نعم سيدتي هي للروائي العراقي نوزت شمدين وتم تصحيح الخطأ مع خالص امتناني..