عبد الفتاح المطلبي :
وأنا أهرولُ باتّجاهِ الشارعِ يعترضُ طريقي سوقُ الحيّ مثل معيٍّ طويلٍ أدخلُ من دُبُرهِ المحميُّ بكتلتينِ منَ الكونكريتِ مؤملاً أن أخرجَ بعد لأيٍ من فمهِ ليتجشأني إلى الشارعِ ،عفونةٌ تنتشر في نفقهِ وصَخَبٌ مكتومٌ مثلَ قرقراتِ أمعاءٍ فاسدةٍ ، راحتْ عيناي تتلمسان الطريقَ وتمرّ مروراً عابراً على الأشياءِ بينما كانَ رأسي يرتجعُ ما اختزَنهُ من أحداثٍ ووجوهٍ قديمةٍ تمرُّ سراعاً ولمْ يلبثْ منها بمنعرجاتهِ إلا طفلٌ ذو أعوامٍ ستةٍ ، يحملُ طائرةً ورقيةً خيطُها ملفوفٌ على بَكَرَةٍ من خشب على رأسها ختمُ الباخرةِ وهي تمخرُ بحراً واسعاً ، خيطُهاُ بلونِ سماءٍ وقتَ الضُحى وإذْ ينسدلُ الظلام تتراءى لهُ النجومُ مثلُ طائراتٍ ورقيةٍ غارتْ بعيداً فاستحالت نجوماً ، يحلمُ بصباحٍ ذي هواءٍ لطيفٍ يحملُ طائرتهُ إلى سماوات القريةِ البعيدةِ حتى يستقر قذال رأسهِ أعلى قفاه مثل كرةٍ صغيرة وعيناه تتابعان مرح الطائرةِ ، يا لها من سعادةٍ حينَ تتحققُ الأحلامُ، قلتُ وأنا أسيرُ باتجاهِ الشارعِ الرئيس ، ليست كل الأحلام بل تلك التي تستطيع مطاردتها مثل صغار الأسماك في حافةِ جرف (المشرح)*،هرب الصغير ذو الأعوام الستةِ من رأسي تاركاً خيطَ طائرتهِ بيدي واختفى في زحام الأفكاروظلت طائرتُهُ برأسها الكبير وذيلها المتمايل خلفها نُصبَ خيالي أتابع رقصتها في أقاصيَ روحي، كادت تقطع خيطها وترتفع عاليا بسبب سيري السريع الذي يشبه الهرولة،ومن مكانٍ ما في رأسي حضرَ ذلك الطفل : ألا تراها جميلة؟ قالها وراغَ عنّي بعيداً صحتُ عليه من داخل رأسي: إلى أين يا ولد؟ بالكاد سمعتهُ يقول: إلى النخلة عند الجرف، تعرفُها، نخلة الحاج صالح، هناك سأغفوَ تحت سعفاتها ..أتَذْكُرُ؟ ، دمدمتُ نعم ..نعم هناك كان مأوانا أنا وأنت حين تحل الهزائم ،اختفى وكنت أود أن أسألهُ: أترى شيئا غيرَالأحلام يستحق الإنتظار ؟ فإذا انقطع خيطُها صرنا بؤساءَ حقاً مشردين بلا مأوى ، الناس في الحقيقةِ لا يأوون إلى مساكنهم إلا مجازا ، هم يأوون إلى أحلامهم وعلى رنتها ينامون ،الرأس الذي لا أحلامَ فيه مثل قدحٍ فارغ، ثمة من يهمسُ وأنا أنصت ولازلتُ مهرولاً ، الهمسُ أسمعه من داخل رأسي لطيفاً أول الأمر وحين واصلت الهرولة باتجاه ذلك الشارع اللعين صرخ بي ، إهدأ ، إهدأ يا هذا وانتبه جيدا فخيط الطائرة رفيع ولا تنسَ أنها من ورق ، تأكدْ من أن الخيط معك، النشالون يرتادون السوق يتصيدون الحالمين وأولئك الذين يشغلون أنفسهم عن بؤسها المزمن ، وبحركةٍ غير مقصودة وكأنّ قريناً يلجُّ بحديثه وضعتُ كفي على جيب قميصي ولم أجد غير (هوية الأحوال المدنية) ، نَظرتُ إليها ملياً ، كانت تؤكدُ بإلحاحٍ أنني أعرف ذلك الطفل ، دائرة النفوس تشي بأنني رأيته يوما ما في (المشرح)* ،بيد أنني اللحظةَ أهرولُ فوق إسفلت بغداد المجدور بندوبٍ كثيرة وآثار سرفات دبابات وروائح غُرباء، لا أعلم شيئا عن الحكمة في أن يترك ذاك الولد خيطَ طائرتهِ بيدي ويرحل، الخيط يتوتر بفعل الهرولة يضغط على إصابعي فأشم رائحة الجرف تقتحم وجودي وتلقي بي إلى هناك ربما أعثر عليه فقد اعتاد التسكع على الضفاف كما أسرّ لي قبل أن يختفي، كان سيلُ الحياة يجرفني ومازلتُ مهرولا نحو الشارع ومنذ ذلك الوقت كنت أرتطم بكائنات السيل لكنني بقيت ممسكا بخيط الطائرة وهي تطير بي إلى حلمٍ قديم ،عاودتُ النظرَ إلى (الهويةِ) ،من المدهش أنها صارت مجرد قطعةٍ مربعةٍ من الورق المغلف بالسولوفان آه لو أن الأحلام تستيقظ من جديد ، أمعن النظر جيدا تراها جميعاً رقوداً في كهفها ، لا مكسيمليانوسَ* فيها، وحين سألت نفسي ماذا أفعل هنا ؟ لم أرْتبْ في عجز اللحظة عن إجابتي و كما أخذتني الحيرة كانت اللحظة تدور مثل سورة ماء النهر لا شيء في جعبتها إلا الحنين إلى زمنٍ غابر، كل شيء في الرأس يحدثك بودٍّ قديم وفي الخارج كانَ طريقي يمتد تحت سقائف سوق الحي ، النساء كئيبات وهن يسحبن خلفهن عربات التسوق الصغيرة ، الدجاج في أقفاصه ينظر إلى آلة نزع الريش دون كلل ومع ذلك فهو يرخي أجنحته لاهثاً ينتظر، تُرى هل يملك خياراً آخرَ سوى إنتظارٍ يفضي إلى موته الأكيد ، الرجال مقطبو الجبين بعضهم يمشي كالسكران وهو يفكر بما فضل من كوابيس الليلة البارحة،أولئك الذين يعانون هذه الحالة جلهم من الذين جفت حقول أحلامهم وأمرعت في رؤوسهم أشواك الكوابيس تماما مثل كأس نبيذ يتحول إلى خَلٍّ و وسط زحمة السوق أُجْبِرتُ على وضع كفي علي جيب قميصي مرةً أخرى خوفاً من النشالين وحين فعلت ذلك تلمستُ بطاقة الهوية ورأيت من جديد نخلة الحاج صالح ، جلس الولد ذو الأعوام الستة تحت سعفاتها بقلبٍ مفطور ، كان عصر كل يوم جمعة وقتَ فراقٍ مريرٍ ، يرجع الوافدون بسبب العطلة إلى المدينة ، سلوى، هكذا كان اسمها ذا وقعٍ جميلٍ وأخي التلميذُ في مدرسة المدينة يغادران عصر كل جمعة أما أنا فكنت عند النخلة أزدرد كآبتي ببطئ ، تهبط على خدي الصغير دمعتان فأحسّ كأن يداً تربت على كتفي ، آه يا لهذا السوق ما أصعب اجتيازه، فزع الطفل ذو الأعوام الستة وفر من رأسي حين فجعني صوتٌ هائل وعصفٌ عنيف ألقى بي بعيدا وكانت الأشياء تتناثر ، ثمة رائحة لحمٍ محترقٍ، هي آخر ما شممته ثم حُجبت الدنيا بما فيها وأغلقت البوابات على روحي بقرقعةٍ عنيفةٍ ، تحسستُ هوية اللحظة ، لم أجد بطاقتي كانت طائرة الطفل الورقية قد انفلتت وضاع خيطها بين خيوط كثيرة ولم أعد في السوق ،كأنني أطير،رأيتني صغيراً أحاولُ اللحاق بطائرة من ورق ، وجدت طائرات كثيرة هناك مبعثرة على جرف النهر و في اللحظة التي هممتُ فيها بالجلوس كما كنت أفعل قريبا من طين الجرف ، هبت ريح غربية تنذرُ بخريفٍ مبكر،خريفٌ أعرفهُ جيدا فقد دهمني تحت النخلة قبل ذلك كثيرا،ريحٌ هائجةٌ تصفرُ وتزفرُ كأنها ماردُ حكاياتٍ قديمة ، أرجعتني هذه الريح القهقرى ، طارت الطائرات الورقية و ابتلعتها الريح لم يبقَ شيءٌ منها ،ألقت بها إلى العدم ، استيقظت المدينة من دهشتها وراح الأحياء من الناس يلملمون أشلاء الأموات التي لازالت تنزّ دما حارّاً ، لازال بي خيطٌ من الحياة حين رأيت مكاني تحت نخلة الحاج صالح تحسستُ دمعتين تنحدران على خدي ، التفتُّ إلى الخلف كانت سلوى تركض نحوي تبغي الجلوس بجانبي تحت ظلال النخلة كما كانت تفعل قالت وهي تلهث جراءَ ركضٍ طويل: لن أذهب سأبقى عند جدّي فقد بدأت عطلة الصيف .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*المشرح- مدينة صغيرة جنوب العراق ذات نهرٍ بالإسم ذاته.
*مكسيمليانوس – رسول أصحاب الكهف إلى المدينة بعدَ نومتهم الطويلة.
—