احتفاء بعيون القدس للكاتبة نبيهة جبارين، أقام نادي حيفا الثقافي والمجلس المِلّي الأرثوذكسيّ الوطنيّ- حيفا، وجمعيّة الأفق للثقافة والفنون أمسية أدبيّة، وذلك بتاريخ 22-10-2015 في قاعة كنيسة ماريوحنا للروم الأرثوذكس في حيفا، ووسط حضور من أدباء وشعراء وأصدقاء وأقرباء وقرّاء، وباسم نادي حيفا الثقافي رحبّت كوليت حدّاد بالضيوف، ومن ثمّ تولّى عرافة الأمسية الممثل الفنان محمود صبح، لتتلوها مداخلات كلّ من الأدباء: عفيف شليوط، د. مروان أبو غزالة، ود. محمّد حمد، والمحامي حسن عبادي. وفي نهاية الأمسية ألقت الشاعرة نبيهة جبّارين أربعة نصوص شعريّة، ثمّ شكرت الحضور والمتحدّثين والمُنظمين لهذه الأمسية، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة عفيف شليوط: البكاء على الأطلال والمُدن والممالك له دوْرٌ في الشعر العربيّ، ومثال على ذلك (معلقة طرفة بن العبد)، ومطلعها :لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمد/ تَلوحُ كباقي الوشم في ظاهر اليد.
الحديث عن عادة البكاء والوقوف على الأطلال في الشعر العربي طويل، فقد عرف شعراء المشرق العربيّ بكاءَ المدن، لكنّهم لم يبلغوا فيه شأن المغاربة والأندلسيّين الذين برعوا فيه، لكثرة سقوط المدن والممالك في المغرب العربيّ وخاصّة الأندلس، ومن شعراء المشرق الذين بكوْا مدينة بغداد، أثناء الفتنة بين الأمين والمأمون سنة (197 هـ- 812 م). أمّا الشاعر عمرو بن عبد الملك الوراق فيقول :من ذا أصابك يا بغداد بالعين/ ألم تكوني زمانا قرّة العين/ ألم يكن فيك قوم كان قربهم/ وكان مسكنهم زينا من الزين/ صاح الغراب فيهم بالبين فافترقوا/ ماذا لقيت لهم من لوعة البين.
ويقول الخزيميّ إسحاق بن حسان الفارسيّ :يا بؤس بغداد دار مملكة/ دارت على أهلها دوائرها وحينما اقتحم الزنج البصرة سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة (255 هـ)، وهدّدوا كيان الدولة العباسيّة، واعتدوا على الأموال والحرمات والأعراض، قال ابن الروميّ :أي نوم من بعد ما حلّ بالبصرة/ ما حلّ من هنّات عِظام/ أيّ نوم من بعد ما انتهك/ الزنج جهارًا مَحارم الإسلام/ كم أخ قد رأى أخاه صريعًا
رأى البعضُ أنّ الوقوف على الأطلال هو رمز لحبّ الوطن عند الإنسان العربيّ، لكن حبّ الوطن وصدق العاطفة أكثر وضوحًا في البكاء على المدن والممالك، لأنّهم يبكون أرضًا سُلبت ووطنا ضاع، بل هم يَبكون حضارة وتاريخًا، كما أنّ القارئ لقصائد البكاء بنوعيه في النماذج الرائعة، يجد المتعة الفنيّة والأدبيّة التي يبحث عنها، لكنّه يهتزّ ويطربُ وهو يقرأ القصيدة الطلليّة، وهو هادئ النفس لا يكدر صفوه شيء، أمّا وهو يقرأ قصائد البكاء على المدن والممالك، فإنّه يشعر بشيء غير يسير من الألم والحسرة وربّما الفتور.
في ديوان “عيون القدس” للشاعرة نبيهة جبارين، يبرز البكاء على المواقع والمدن الفلسطينيّة والتغني بجَمالها، فتخصّص لمدينة القدس 4 قصائد؛ (عيون القدس، أيّ العواصم أنتِ يا قدسُ، أنتِ أقصى غايتي، وزهرة المدائن)، ويبرز تأثير الموروث الدينيّ بشكل واضح في قصائد هذا الديوان، فمثلاً في قصيدة عيون القدس، تذكر الإسراء والمعراج، والملائكة، البُراق، القيامة، والموروث التاريخي: الفاروق؛ عمرو بن الخطاب، وصلاح الدين.
وفي قصيدة (أيّ العواصم أنت يا قدسُ)، يبرز مرّة أخرى تأثير الموروث الدينيّ من نفح الطيوب، وهنا إشارة الى رائحة الطيوب التي وضعت على جثمان السيّد المسيح بعد موته على الصليب شهيدًا ومُخَلصًا وفاديًا للبشريّة، ونداء المآذن الله أكبر، وأجراس تآخت في النداء وقرع الأجراس، تستقبل العيون التي عشقت، وهنا تتلاحم حاسّة السمع مع النظر، كما تتلاحم رموز الديانتيْن المسيحيّة والإسلاميّة، في تناغم يُثير فينا الاعتزاز والفخر.
وفي قصيدة “عروس الجليل” التي تخصّ بها مدينة البشارة- الناصرة، يَبرز أيضًا تأثير الموروث الدينيّ، بشارة الميلاد، ثغر المسيح، راهبة تقيّة، عليك يا مريمُ السلام.
وفي قصيدة “ابنةُ يَعرُب” تناجي مدينة يافا، وتخصّ مدينة حيفا بقصيدة “حيفا.. يا عروسَ الكرمل”، ولا تنسى طبريّا في قصيدة طبريّا، وعكّا في قصيدة “أميرة البحر”، وتكتب عدّة قصائد عن مدينة غزّة، ورغم أنّ الديوان مُخصّص لفلسطين بمواقعها ومدنها، إلّا أنّها ونظرًا لعشقها لمصر، حيّتْ مصرَ بقصيدة “الصمت والهدير” فقالت: سلامًا/ يا مصرَ العروبة والحضارة/ ومصرَ النيل والأهرام والمنارة
إدوارد سعيد ربط بين المكان والهُويّة، فيقول ثمّة أهمّيّة بالغة للمكان دون شكّ في تشكيل وعي الفرد، والتأثير على مزاجه وميوله، خاصّة إذا ارتبط هذا المكان بالخطوات الأولى في الطفولة، ونسج جانبًا مُهمًّا من أحلام الصّبا والشباب، وهنا لا يبقى المكان مجرّد فضاء محايد، أو أرضيّة جامدة تؤطر الانسان، بل يغدو كيانًا حيويًّا مُتفاعلا مع رؤى الإنسان وأحلامه. ولدى نبيهة جبارين نجد هذه العلاقة الوثيقة مع المكان الفلسطينيّ خاصّة، والعربيّ عامّة، حيث تقف أمام المدن والمواقع الفلسطينيّة؛ القدس، يافا، حيفا والناصرة، بخشوع المتعبّد الزاهد، ويصبح عندها شعرها أشبه بطقوس ليتورجيّة، تكشف عن عظمة المكان، وعن العلاقة الخاصّة للفلسطينيّ والعربيّ مع المكان.
مداخلة د. مروان أبو غزالة: ديوان عيون القدس للشاعرة نبيهة جبارين يَكتنز في حناياه الميزات اللغويّة، الأسلوبيّة وأيضًا المضمونيّة، وأرتئي في هذه المداخلة معاينة خاصّيّة واحدة من الميّزات اللغويّة، الأسلوبيّة والمضمونيّة:
1: الميزات المضمونيّة: خاصيّة اليوتوبيّة أنموذجًا: بوّابة قصر الأمير وكلّهم أولادي!
اليوتوبيّة هي كلمة أعجميّة منحوتة؛ تعني لا مكان، وهي المدينة الفاضلة التي تجلب السعادة والحبور والطمأنينة، وتدرأ العناء والوعثاء والكآبة والرتابة، فقد تأتّت اليوتوبية في ديوان “عيون القدس” في أربع حلقات:
الحلقة الأولى: عام العام، فقد أومأت الشاعرة إلى كونها إنسانة شرقيّة وغربيّة، وإنسانة مِن جميع الحقب التاريخيّة والأماكن الجغرافيّة.
الحلقة الثانية: هي العام، فقد تبدّت في الوطن العربيّ، وقد اكتنز الديوان قصيدة عن مصر. الحلقة الثالثة: هي الخاصّ، فقد تأتى ذلك في وصف البلاد: طبريّة، حيفا، عكّا، يافا، الناصرة وغزة.
الحلقة الرابعة: هي خاص الخاصّ: من خلال معاينة القدس والأقصى أيّما معاينة.
وبناءً على تلكم الحلقات، يتأتّى لنا أنّ الحلقات تعاين اليوتوبية، لأنّ الوطن العربيّ والبلاد والقدس هي واحدة من الإنسانيّة، فقد احتوت هذه الحلقات الثقافات والحضارات والديانات، فمن خلال القراءات المتعدّدة، هي أيضًا أماكن جغرافيّة بدون حدود وثغور، لذا نُعرّج إلى القول، أنّ معاينة هذه الحلقات ارتأى الحديث عن التاريخ الإنسانيّ عند الشعوب التي سكنت فيها، لذا القدس هي اليوتوبيّة والحياة السعيدة، على الرغم من الأسى والحزن اللذان يضفوان عليها، بيْدَ أنّ المستقبل يُلوّح بأفق جميل.
2- الميّزات الأسلوبيّة: تداخل الأجناس الأدبيّة- الكتابة النوعيّة: “آه لو أستطيع”:
الشاعرة استخدمت الشعر النثريّ أو ما يسمّى قصيدة النثر، فقد احتوت قصيدتا: “آه لو أستطيع” خمس خصائص قصصيّة:
الخاصّة الأولى خاصّة الحوار: والذي تبدّى في الحوار الداخليّ عند الشخصيّة الطفلة، والتي تكبّدت العناء.
الخاصّة الثانيّة هي خاصّة الخطاب: فقد خاطبت الشاعرة القارئ الضمنيّ والحقيقيّ على حدّ سواء.
الحلقة الثالثة هي الحبكة: التي تصِفُ الأحداث التي مرّت بها الشّخصيّة.
والحلقة الرابعة هي الراوي الخارجيّ: وهو المُشرف الكلّيّ، والذي وصَفَ الشخصيّة ظاهرًا وباطنًا.
فيما الحلقة الخامسة هي زمان ومكان الحدث الذي عايش الشخصيّة.
3: الميّزات اللغويّة: التأثيل اللغوي من خلال اليوتوبيّة:
وظّفت الشاعرة الأنوموتوبيا Onomatopoeia:؛ وهي محاكاة الكلمة للصوت في الطبيعة، وذلك لأن اللغة تتكون من الأصوات الطبيعيّة، وخاصّة في الكلمات المُضعّفة، كما نجدها في كلمات واردة في صيغ مختلفة، لذا، كلمات كثيرة تشتقّ من الأصوات، مثل:
عقعق؛ هو صوت طائر طويل الذنب. وصرصر؛ هو صوت الريح الشديدة، وذلك لأنّ الكلمة تتكوّن من حروف لها أجراس صوتيّة تدلّ على الكلمة، وأيضًا صرَّ الجندُب، فتضعيف الرّاء سبب استطالة صوته، لكن نقول صرصَر البازي، وذلك لأنّ صوته متقطع، فقد تبدّى من خلال الكلمات الآتية رفرف؛ (ابنة يعرب)- يلملم (حيفا يا عروس الكرمل)، وذلك من أجل شدّ آزار القارئ ولفت انتباهه.
نافلة القول؛ ديوان “عيون القدس” هو ديوان طلائعيّ في وصف المدينة اليوتوبيّة، بأسلوب شعريّ نثريّ يحوي في حناياه السرد القصصيّ، كما يحوي أيضًا المهارة اللغويّة، من خلال استخدام الأنوموتوبيّة، سعيًا إلى شد القارئ إلى الولوج في حنايا النّص.
مداخلة د. محمد حمد: ثنائيّات متلازمة في “عيون القدس”!
في المجموعة الشعريّة “عيون القدس” ثنائيّات متلازمة لافتة للانتباه، سواء كانت بوعي أو بدون وعي، تتعلّق بالعنوان، بعلاقة المكان بالزمان، بالأرضيّ والسماويّ، بالهُويّة الثنائيّة، ولا بدّ من التعقيب على الغلاف الخارجيّ، للانطلاق للمتلازمة الأولى الخاصّة بالعنوان.
الغلاف الخارجيّ: الشفق الأحمر ودلالة الغروب والنهايات. الأحمر لون الدم وتجسيد الواقع. رومانسية حالمة لفتاة تنظر وتراقب، وتغييب الفعل باستثناء فعل الرؤية. العناوين كلها أسماء باستثناء وجود فعل واحد (أستطيع)، وجاء بصيغة التوجّع والتمني (آه لو أستطيع)، والطريف أنّ هذا الفعل تلازمَ مع العيون بسياق الحديث عن أطفال غزة: آه لو أستطيع/ أن أجعل في عيونكم صبحا جميلة أنواره/ ألوانه ربيع. (ص75).
هنالك عيون القدس ومقابلها عيون غير ظاهرة لفتاة تنظر، كما نظر حنظلة في كاريكاتير ناجي العلي، لكن عيون القدس ظاهرة في العنوان وقد تمّ تشكيل الضمّات فيها للفت الانتباه، والضمّة تعبير عن الارتفاع، لا ندري مَن ينظر إلى مَن، هل الفتاة أم القدس هي التي تنظر وتعاتب. وحضور الأقصى في الصورة ومسجد قبّة الصخرة. كلمة قصائد كتبت على يسار القبّة، لم تكتب كلمة شعر أو مجموعة شعريّة، وإنما كلمة قصائد، ولا ننسى أنه يمكن بسهولة تكوين كلمة أقصى من كلمة قصائد، بحذف الدال ونقل الهمزة إلى البداية.
رمزيّة العيون: العيون تنظر وتراقب وترصد حركة ما يجري، والعيون تبكي وتعبّر عن المشاعر، ولهذا هنالك حضور للعنصر المائي في القصائد من خلال: حيفا، طبريا، أميرة البحر، جنّة الشاطئ، غزّة، الغيث. 10 عناوين من أصل 21 تجسّد هذه الثنائيّة. العدد 21 قد يشير إلى 21 رصاصة تطلقها الشاعرة في احتفاليّة الموت.
ثنائيّة العنوان: عيون القدس. العينان على الإطلاق تأتيان زوجًا والزوج دليل التثنية، وثنائيّة الناظر والمنظور إليه كما يظهر جليّا في الغلاف.
ثنائيّة المكان والزمان: تتمظهر دلالة المكان بمجموعة من الألفاظ والأماكن منها: عيون القدس، زهرة المدائن، عروس الجليل، حيفا، طبريّا، غزّة، يافا ابنة يعرب، عكا أميرة البحر. وفيها وحدة وطن واحد لا يقبل التجزئة. وتتمظهر من خلال مواضع أكثر تحديدًا، كما يظهر في قصيدة “عروس الجليل” قاصدة مدينة الناصرة: حاراتك القديمة/ والسوق لا تنام/ كنيسة البشارة/ المسجد الأبيض والسلام/ ترفع إلى السماء أنظارها وتبتهل/ عليك يا مريم السلام. وفي المقابل هنالك حضور زمانيّ يمتدّ عبر التاريخ، يمتزج بالمكان ويعطيه المرجعيّة التراثيّة دينيًّا كما في: ثقافة الإسراء والمعراج، اسألوا القيامة عن ثقافة العذراء والمسيح والتكليم واصغوا إلى الأقصى (ص17).
وفي قصيدة “أنت أقصى غايتي”، يمكن اعتبار كلمة أقصى تورية لطيفة: لكِ يا صخرةَ المعراج والأقصى حنيني/ ونخلات وفيّاتٍ وزيتونٍ وتينِ/سلامًا للقبلة الأولى وثالث الحرمينِ/ أنتَ أقصى غايتي وعنوان يقيني. (ص22) تلاعب لغويّ بين أقصى بمعنى أبعد وبين الأقصى المسجد.
أو المرجعيّة التاريخيّة كما في عكّا أميرة البحر: وفرّ نابليون يجرّ أذيال الهزيمة. (ص49) أو عمر بن الخطّاب وصلاح الدين في قصيدة عيون القدس.
أو الحاضر المأساويّ: قسمًا يا غزة/ عبثًا تهدمون الديار/ وتقلّعون الأشجار/ عبثًا في غزّة/ تزرعون الموت/ وتمطرون النار.
تتقن الشاعرة الحركة التلازميّة بين المكان والزمان، دامجة بين التاريخيّ والدينيّ، كما في قصيدة طبريا: هنا من طهر مائك توضّأ صلاح الدين/ وتبارك الجهاد والنصر ثمّ في حطّين/ تعمّد في نمير بحرك الناصريّ الأمين/ عيسى بن مريم سلام عليهما في الآخرين. (ص44)
ثنائيّة الأرضيّ والسماويّ: حاولت الشاعرة القيام بحركة موازية لتنظيم العلاقة بين الأرضي والسماويّ، للتأكيد على روحانيّة المكان والاحتفاء بقداسته. واستخدمت عدّة ألفاظ خاصّة لهذا الغرض أذكر منها: السماء، الملائك، الإسراء والمعراج، البراق، السبع الطباق وسدرة المنتهى والحجاب، آية البشارة. ما أهمّيّة السماويّ؟ هل هو التعبير عن الارتقاء عن الطين والمادّة الأرضيّة؟ هل تعني الخلاص القادم من هناك؟ أليست آية البشارة إشارة إلى المسيح المخلّص؟
ثنائيّة الهويّة: تتلازم الهويّة العربيّة الفلسطينيّة مع الهويّة الإنسانيّة المتجاوزة للعِرق والدين واللون، فمن جهة تأكيد على الهُويّة الفلسطينيّة من خلال علاقة الأنا بالمكان، والعلاقة مع القوميّة العربيّة، كما في قصيدة الصمت والهدير التي تنتصر فيها للربيع العربيّ في مصر. وبالمقابل هنالك الهُويّة الإنسانيّة التي تخصّص لها قصيدتين: كلّهم أولادي، وقراءة في هويّتي: لا تسألوني من أنا؟/ أنا الأمّ لكلّ طفل/ دون القراءة في الهُويّة/ لا أحسب للعِرق حسابًا/ وأحبّ ألوان الأطفال والبراءة الفطريّة/ فالأمّ يا سائلي/ لا تعرف للحنان هُويّة/ للأمّ قلب واحد/ في حنايا العربيّة والأعجميّة. (ص86)
إجمال: تظهر الثنائيّات التي وردت في حديثنا السابق بشكل منظومة دلاليّة، للتعبير عن قصديّة الشاعرة، فهي تؤمن بالمكان الّذي هو الهُويّة، وبعلاقته التاريخيّة والدينيّة، من خلال التلازم مع الزمان، والتلازم مع السماويّ والهويّة الإنسانيّة. تعبّر هذه الثنائيّات عن تشبيك العلاقات وتداخلاتها، داخل النسيج الشعريّ وفي ذهنيّة الشاعرة، وهذا التشبيك ليس مجرّد بنية ومنهجيّة تأليف معتمدة، بقدر ما هي ترجمة للمشاعر والأفكار والرسالة التي تقصّدتها الشاعرة. بوركت “نبيهة جبارين” على هذا العمل الطلائعيّ، وأتمنّى لها المزيد من العطاء في الأعمال القادمة.
مداخلة حسن عبادي: القدس حالة فريدة من نوعها في الشعر العربيّ عامّة والفلسطينيّ خاصّة.
ليلى الأطرش قالت في قدسها في رواية ترانيم الغواية (ص52) “حين تنظرين الآن في المرآة، سترين فقط ظلال رجال عبروا يومًا على طريقك”).
ومحمود درويش نقد الذين لا يَكترثون بمصير وطنهم نقدًا لاذعًا، وشّن عليهم حملة قويّة، ناحيًا بذلك منحًى جديدًا، مُركّزًا فيه على مَن يجعلون من القدس سبيلا للوصول إلى السلطة، ففي قصيدته “سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا” يقول: وما القدس والمدن الضائعة سوى ناقة تمتطيها البداوة إلى السلطة الجائعة/ وما القدس والمدن الضائعة سوى منبر للخطابة ومستودع للكآبة/ وما القدس إلا زجاجة خمر أو صندوق تبغ/ ولكنها وطني
يجذب النصّ الشعري ويلفت الأنظار لما يختزن من دالة، راحت تنحى منحًى جديدًا في كشف الحقائق وفضح المستور، وأعتبرها نجاحًا لدرويش في قدرته على توظيف صورة متميّزة، يفضح من خلالها أولئك الذين يُتاجرون بجراح أمّتهم، كما يُسخّرها شاهدًا على الحكّام الذين يجعلون من القدس ناقة يمتطونها، وكلما أرادوا اعتلاء سدّة الحكم يَرفعونها شعارًا.
قضيّة تحوّل القدس عند درويش “إلى ناقة تمتطيها البداوة”، لتغدو هي وغيرها “منبرًا للخطابة” و”مستودعا للكآبة”، لكنها تبقى في الوقت ذاته وطن الشاعر. إنّ المتلقي للنصّ الشعريّ يجده يغصّ بالدالات التي تعزف سيمفونيتها على وتر حسّاس يُحرّك العقول، ويكشف زيف النفوس التي تجعل من القدس سلمًا للوصول إلى هدف، مع الاحتفاظ بها هدفا أمام أنظار الناس، فتنقلب الموازين ويعمّ التضليل، وتحشد الجنود ويقدّم الشهداء، وترمّل النساء تحت راية عنوانها تحرير القدس، ويُفجع الجميع بذهاب القدس وثبات الحكومة مُكشّرة عن أنيابها، تجتث ما بقي في القلوب من أمن وسلم. ثمّ يتجانس النصّ برمزيّة تكشف خيوطا نسجتها أيدي مُضللة تتساوى في ميزانها، القدس وزجاجة الخمر أو صندوق التبغ، ثمّ يَستدرك درويش أبياته بـ “لكنها وطني”.
هناك كمّ هائل من القصائد الشعريّة التي تختصّ بالقدس مكانًا ومكانة؛ يُوظف الشعراء الفلسطينيّون القدس بما يخدم قصيدتهم ويحمي مدينتهم، فيأتي الاسم ليُزيل ضبابيّة عن أعين الناس، فقد حملت الدلالات أبعادًا دينيّة وتاريخيّة وسياسيّة، استغلها الشاعر في خدمة قضيّته والدفاع عنها؛ المسجد الأقصى، وقبة الصخرة المشرفة، وكنيسة القيامة، حاملة بعدًا دينيّا خاصّا، فجاءت النصوص في هذا النوع كثيرة والصور متكرّرة، وتمّ استخدام دلالات المكان الخاصّة بأسوار القدس، والأبراج، والأبواب (باب الخليل/ باب العمود) والأماكن عامّة، مثل أسواق المدينة وشوارعها وأزقتها، لتدلّ على البُعد الاجتماعيّ الداخليّ في المدينة، وقد حملت هذه الدلالات حركة داخليّة، تمثلت في رائحة البخور وزحام الشوارع، وأزمة الأسواق والأزقة.
شكلت القدس المرأة الحسناء الجميلة العذراء العروس البكر، ولكنّها في قصائد الفلسطينيّين مُتقلبة الأحوال، بسبب وجودها تحت الاحتلال، فهي امرأة عذراء تُسبى، عروس أسيرة، حسناء مُغتصَبة. يُوظف الشعراء هذا التحوّل دالا على الحركة التي تمرّ بها القدس وسرعة تحوّلها، فوظف الشعراء الأسماء الدينيّة والتاريخيّة من أنبياء- عليهم السلام، وصحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وصلاح الدين الأيّوبي، وعبد الملك بن مروان وغيرهم، فحملت الأسماء بُعدًا دينيّا وتاريخيّا، استغله الشعراء في إثبات الحقّ العربيّ في القدس وتفنيد المزاعم الصهيونيّة، متمثلة بوجود الهيكل والتاريخ اليهودي.
نحت القصائد الخاصّة بالقدس في غالبيّتها نهجٌ سياسيّ، فكانت القصائد وليدة المناسبات الدينيّة أو الأحداث السياسيّة التي تأثر بها الشعراء، وقوْلبوها مُدافعين مُحرّضين، فخرجت قصائدهم ملتهبة تغصّ بدلالات ثوريّة تحثّ على الجهاد والثورة، تشكّل نوعًا من الشعر الخاصّ بالقدس، اهتمّ بالثورة والجهاد والتحريض على الصهيونيّة، وقد نتج هذا النوع كردّ فعل على العنف الصهيونيّ المستخدم ضدّ الفلسطينيّين. وهناك ابتذال وتكرار فيما يخصّ الكتابة عن القدس، وكثير من الشعراء الفلسطينيّين عاشوا القدس، ورسموها بأشعار نابعة عن وجع عامّ، وهناك من امتطاها كـautoestopista (يعني بالعربي”ترمبست”)، واستغلها واستهلكها كبطاقة دخول أو تأشيرة مرور.
من أشهر ما كتب عن القدس من الشعر الفلسطيني: 1- يا أمة القدس (سليم الزعنون). 2- هل يسقط بيت المقدس (فوزي البكري). 3- أردنية فلسطينية / أمام الباب المغلق (فدوى طوقان). 4- يوميات عائد بتصريح (محيي الدين عبد الرحمن). 5- رغوة السؤال (المتوكل طه). 6- على حاجز القدس (ليانه بدر). 7- الى أورشليم (راشد حسين). 8- لا تتدحرج (علي الخليلي). 9- هنا …. هناك (احمد دحبور). 10- بالأخضر كفناه / يا عنب الخليل (عز الدين المناصره). 11- فسيفساء على قبة الصخره (سميح القاسم). 12- المزمور الحادي والخمسون / حادثه غامضه (محمود درويش). 13- وأخيرا- تهليلة الموت والشهاده لتوفيق زياد: “اه يا فهد المحمود.. استشهد في عمان.. وهو يعد العده.. ليعود.. ويحرر.. باب العمود”
أما عند الشعراء العرب فالموضة؛ (بالعربي: “المين ستريم”) أن تكتب عن القدس: 1- أصلي خلف ظلي (بهيجة الأدلبي- سوريا). 2- سأهيئ الحقائب للسفر (محمود سليمان- مصر). 3- نصف الحقيقه (نصر بدوان- الأردن). 4- امرأة (عبد الباسط أبو بكر- ليبيا). 5- قصائد لا يفهمها أحد (علي أحمد جاحز- اليمن). 6- سقوط (ادريس علوش- المغرب). 7- لك وحدك (مها الخطيب- العراق). 8- فنجان قهوة وفتنة أنثى (ليلى ابراهيم- السعودية)+ لأجلك (عائشة محمد). 9- حالات (صالح سويسي- تونس)+ الموؤدة (فاطمة الحمزاوي). 10- شارع رئيسي (لميس سعيدي- الجزائر). 11- انشغالات الصمت (علي الستراوي- البحرين). 12- الأنثى (نصار الحاج- السودان). 13- أسطورة مظفر النواب: “القدس عروس عروبتكم”. 14- نزار قباني: هوامش على دفتر النكسة، طريق واحد، منشورات فدائيّة على جدران إسرائيل، ورائعته- القدس:بكيت حتى انتهت الدموع/ صليت حتى ذابت الشموع/ركعت حتى ملني الركوع وأجمل ما كتب عن ومن والى القدس مغناة الشاعر تميم البرغوثي “القدس” وينهيها: “لا تبك عينك أيّها المنسيّ من متن الكتاب/ لا تبك عينك أيها العربي واعلم أنّهُ في القدس من في القدس/ لكن لا أرى في القدس إلا أنت ”
فهنيئا لك يا نبيهه بقدسك وهنيئا لنا بك وب”عيون القدس”
مداخلة الكاتبة نبيهة جبارين: السلام عليكم وطاب مساؤكم. “ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحًا ترضاه”. صدق الله العظيم.
أيها الحفل الكريم! بحضوركم تزدان أمسيتنا أيها الأخوة والأخوات، الأدباء والكتاب والشعراء والمهتمّون بلغتنا العربية الجميلة وآدابها، أرحّب بكم أجمل ترحيب، وأشكر لكم حضوركم كل باسمه وشخصه مع حفظ الألقاب والمناصب. أرحّب بكلّ مَن حضر وأشكر حضوره. هذا الاجتماع والجمع الكريم إن دلّ، إنّما يدلّ على أنّ هذه الكوكبة من مُحبّي لغتنا وأدبنا العربيّ، والتي يَطيب لي أن أدعوها “ثلة العاشقين للغة العربيّة وآدابها”.
أهلا وسهلا بكم جميعًا، أسعدني وشرّفني حضوركم هذه الأمسية كرامة “لعيون القدس”، التي تبادل المجلس الملّي الأرثوذكسيّ نادي حيفا الثقافي في حيفا نظرات المَحبّة والفخار والاحترام، مُمثّلاً بالأخ الكريم السيد فؤاد نقارة، الذي مزج عطر الأدب بمسك الدين والإيمان، وبمبادراته الثقافيّة التي تنتمي أيّما انتماء للأرض والأمّة والوطن.
“عيون القدس” لا تفتأ تشرئبّ إلى الأفق، أفق المّحبّة والسكينة والوئام، عبرَ مؤسّسة الأفق للثقافة والفنون في حيفا، ممثلة بالأخ الكريم الكاتب والفنان عفيف شليوط، فتقدّم الأدب والفنون على مسرح الإبداع والانتماء، بنيّة حثّ الخطى نحو الأفق الذي نصبو إليه جميعًا. وأود أن أنثر الكثير من باقات الشكر والتقدير والاعتزاز للأخوة المشاركين في مداخلاتهم القيّمة.
د. مروان أبو غزالة محاجنة- الباحث والأكاديمي في جامعة نوتنجهام، هذا الفارس الذهبيّ لأبحاث اللغة وخصائصها، وميزاتها التي لا تنضب، وكشف جماليّات التركيب والترغيب والتحبيب والتصويب، وإصابة الأهداف بدقة متناهية، لا تجاريها في ذلك أيّة لغة من لغات الأرض. دمت دكتور مروان فخرًا للغتك وأمّتك ووطنك، وزادك الله عِلمًا، وأعانك على العمل به. أشكر لك حضورك وعطاءك، وأفخر بك في هذا الميدان.
د. محمد حمد المحاضر في كليّة القاسمي في باقة الغربيّة، هو ممّن لا تغفل عيونه عن القراءة والبحث والنقد، والتأليف في حقول الأدب، والتربية والتعليم، ومؤلفاته في مثل هذه المجالات تشهد له بالتمكن والعطاء وطول الباع. أشكر لك حضورك وعطاءك وأفخر بك في هذا الميدان.
أخي الأستاذ الكاتب والفنان عفيف شليوط أبو شادي غنيّ عن التعريف، فالإبداع يكاتفك في كلّ مجال تطرقه، كاتب مبدع وفنان قدير، ومدير ناجح، رؤياه لا تقصّر ولا تنثني عن الأفق، أفق الإبداع والعطاء والانتماء .
الأخ محمود صبح الفنان والمسرحيّ القدير، فإنّ كلّ ما قدّمته في هذه الأمسية، نجاحه متناغم مع عرافتك المميّزة التي جذبت الأنظار والأسماع بحسن تقديمك وحضورك، جزاك الله خيرًا، وزادك قدرًا.
أنا مدينة لكم بوقتكم الثمين الذي قضيتموه معنا، أرجو أن أسدّده لكم بدفعة من المتعة، نقضيها معًا في قراءات شعريّة من عيون القدس ولعيون القدس، راجية أن تنال إعجابكم. وقبل قراءاتي اقول: (بنفسي هذه الأرض ما أطيبَ الرّبى/ وما أجملَ المصطاف والمتربعا)
جنة الشاطئ/ نبيهة جبارين:
لا تستصرخي يا غزة المعتصما/ هو في عصرنا/ أضحى أصمًّا أبكما/ لا يهزه الشرف الرفيع ولا الأذى/ ويهزه عرش إليه قد انتمى/ ألا من ظلمة الليل/ يبتسم الصباح/ ومن أقسى الصخور/ ينبجس القراح/ وبلون الدم القاني/ يصطبغ الوشاح/ ومن إرادة الأحرار/ ينكسر السلاح
يا غزة هاشم/ يا عرين الرجال الرجال/ يا غزة العزة لا تقولي الليل طال/ يا غزة صبرًا/ كصبر الليمون والبرتقال/ اقتلعوه شامخًا مثلك/ فما أنّ وما مال/ فاستحلت يا غزة العزة قارورة لشذاه/ وتعالى صوتك الثائر وامتدّ مداه/ وصارت الحريّة لحنًا داميًا لصداه/ وظلّ قلبك ثابتًا خافقًا بهداه
هدية العيد لأطفالك/ ألقتها الطائرات/ لم تكن أثوابًا ولا ألعابًا/ ولا حلويات/ أهدتهم الموت الزؤام/ والحزن والآهات/ رجمتهم بالنار/ وحجارة البيوت والحارات/ سيظل عطر الكرامة/ من ثراك يفوح/ ونصر صادق/ على أفق الجراح يلوح/ وشمسك الحرة/ لا تغدو ولا تروح/ أحبك يا غزة/ والقلب بالحب يبوح
أزهارك لو قطّفوها/ وحرّقوا البرتقال/ ميدانك لو فجروه/ سيبقى صهوة الخيّال/ مياهك إن لوّثوها/ ستظل أمواه الزلال/ ستبقين غزة الحق/ جنة الشاطئ والرمال
حيفا .. يا عروس الكرمل/ نبيهه راشد جبارين
منك كم تغار النوارس/ وتحط عند قدميك/ وتغار الموجات منك/ فتطرح أكاليلها البيضاءَ/ وتغسل قدميك/ ويبقى الكرمل الولهان/ يداعب الليل في عينيكِ/ ويمسح الحزن من مقلتيك/ وقلبه مُتَحَرِّقٌ/ وجدًّا عليكِ/ وغضبًا على مَن سباكِ/ وكشف الطرحةَ عن وجنتيك/ ويبقى الكرمل الولهان يضمّك/ يُلملم شعرك/ من أيدي الغزاة/ وممّن يُراود طهرك/ وينبئ جازمًا ألّا تكوني/ إلَّا لَه، وألَّا يكون إلّا لكِ/ فمهما تمرّ الأيّام/ لن يرتضي بيْنَك/ سيبقى حارسًا/ لقلبك.. لشعرك.. لعطرك/ كيف له أن يغمض عينيه/ عن جمال سحرك/ عن البحر الذي/ يحاول أن يسرق/ أسرار وُدّكِ/ عن الميناء الذي يحمل الهدايا/ من كلّ لونٍ/ ليُغري كبرياءك/ ولكن هيهات/ يا حيفا.. يا عروس الكرمل/ أن ينال الزمان والغزاة/ من مجدك/ ستبقى الذكريات ترفل/ في حرير عزك/ فهذي بيوتك الشمّاء/ والشوارع والمساجد والكنائس/ والسكّة والساعة والأسواق/ وقبّة الجَمَال/ واللون والأسماء/ لا تنتمي إلّا لك/ ويبقى الكرمل يا حيفا/ يَمتطي جواده ويبذل وداده/ ويشهر بأسه/ في وجه كلّ مَن/ يراود عن نفسك
عروس الجليل: نبيهة راشد جبارين/ إهداء إلى المدينة الساحرة (الناصرة) وإلى أهلها الكرام بمناسبة الأعياد المجيدة والمباركة.
أميطي اللثام عروس الجليل/ أميطي اللثامم عن مُحيّاك الوضيء الجميل/ فيحلو الوسام/ واسمعي أنغام تمجيد وتهليل/ تعمّ الأنام/ حين أشرقت أرضك بالنور/ وتباركت/ وسماؤك لبشارة الميلاد هللت/ وتزخرفت/ ومياه طهرك من عين عذراك جرَت وتدفقت/ والقلوب بدفق المحبّة ارتوت وتعانقت/ أتذكرين كم مَرّ الجُند عنك كم مرّوا/ ومن خلف الجبال قد فرّوا/ وأنت العصيّة وجبالك عالية أبيّة/ راسخة وفيّة/ تصدّ الريح/ وتحمي وجهك باسمًا/ كثغر المسيح/ وأنت بينها/ آمنة.. راهبة.. تقيّة/ نقيّة كصوت التسابيح/ تُردّدين في المقام الترانيم العاطرة/ صلوات سيّدة النساء الطاهرة/ دعيني!/ دعيني أقتفي آثار أقدامها/ من المقام إلى صحن دارها/ وأشمّ في أجوائه طيب مسكها/ وشذى العطر من إكليل غارها/ أودّ لو أقبّل عينها والحجارة/ وأستقي من مائها التقى والطهارة/ وأناديك!/ تباهَيْ.. اختالي وتيهي.. وحقّتْ لك الخيلاء/ يا مدينة الأنبياء/ يا مهد الصفيّة العذراء/ حاراتك القديمة/ والسوق لا تنام/ كنيسة البشارة/ المسجد الأبيض والسلام/ ترفع إلى السماء أنظارها/ وتبتهل.. “عليك يا مريم السلام”/ فها هنا/ على ثراك مشت أقدام الطهارة/ ومن سمائك/ تنزّلت آية البشارة/ فاعتلتْ أرضَك نحو السماء/ وسهرتْ نجومُك خاشعة الضياء/ وتفتّحت جنانك الزاهرة/ وصرتِ يا سيدة المدائن/ ويا عذراء الدنيا/ لقلوب الناس أجمل ساحرة/ يا ناصرة!/ يا ناصرة!
عيون القدس: نبيهة راشد جبارين
السماء فوق القدس فتّحت أبوابا/ والملائك فيها هلّلت/ فرحًا وترحابا/ للمصطفى خير البريّة كلها/ لمّا أتاها زاهدًا أوّابا/ فأنارها الأمّيّ في إسرائه/ ومعراجه أزمانا وأحقابا/ وفي مكة “اقرأ” لا زالت تردّدها/ شمُّ الجبال تلالاً و هضابا/ أسرى به ربُّ العباد عشيةً/ وما فتر الفراش قبل أن آبا/ أسرى به من المسجد الحرام في/ قلب الليالي والنهار قد غابا/ حمل البراق خير الأنام دجىً/ فضاءت الأرض نورًا/ من نوره مُذابا/ ورحّب الأقصى به وقد اعتلى/ صهوة السماء فزاد قربًا واقترابا/ وبورك للاميّ إسراءٌ ومعراجٌ/ تجاوز فيه سبعًا طِباقا/ وسدرةً وحجابا/ وتجاور البيتان في القدس معًا/ يمجدان الله وأصفياءً وأحبابا/ تشهد القيامة بالتسامح والرّضى/ لفاروقِ حقٍّ فلم يبغ احترابا/ أعاد للقدس عزًّا ومجدًا قد خبا/ بجيشٍ إيمانه كان الخطابا/ وبعده صلاح الدين مقدامًا أتى/ لا ينثني عن النصر ارتيابا/ وتجمّلت عيون القدس له لمّا أتى/ فاستقبلته وكحّلت أهدابا/ وما زالت عيونها/ بشوقٍ ترتجي/ ناصرًا يأتي ويفتح للنصر/ أقفالاً وأبوابا
—