للمرّة الثالثة التي أجد نفسي فيها مشدوداً لروائي كبير فأكتبُ عنه ، وعن دراما روائية جمعت بين الخيال والواقع والظواهر الطبيعية ، لزيد الشهيد ، الذي له من الشهرة التي يحسد عليها . بدأ مشواره الأدبي 1986 في قصته القصيرة ( الدراجة) ثم تتالت روائعه بعد ان ترك رسالة الماجستير في اللغة الأنكليزية جزَعا من العراق الذي لايطاق أنذاك ، ويشد الرحال الى اليمن ، يعود فترة الى الوطن لكنه يشعر بأن الأجهزة القمعية للنظام البائد تلاحقه أثر نشره رؤية بعنوان ( أسفل فنارات الوقيعة ) فيهرب على أثرها الى ليبيا ومن هناك تنعتق قريحته الإبداعية ليعطينا من الجمالات الرائعة لفيضه المتميز . روائي له من المنجزات التي وصلت الى المكتبات الرئيسية للدنمارك ( حكايات الغرف المعلقة) ، نال العديد من الجوائز الأدبية ، في عام 2004 عادالى الوطن بعد سقوط الصنم ليكمل لنا روايته المثمرة موضوعة دراستنا هذه ( فراسخ لآهات تنتظر) .
الرواية هي من أدب السيرة الذاتية ولكنها ليست بالضرورة أنْ تخص الكاتب نفسه بمجملها ، الروائي يصنع بطله في مخيلته ثم يتكلم هو بالنيابةِ عنه وهذا هو الإبداع الحقيقي ، مثلما ( الإعترافات ) لجان جاك روسو ، و(مذكرات لص) لجان جينيه . محور الرواية يدور بين ثلاثة أمكنة ( العراق ـ ليبيا ـ عمان) . عنوان الرواية هو من النوع الذي يثير التساؤل ، ماالذي ينتظر العراقيين هناك في المدى المنظور وغير المنظور ، وماهي المدة الزمنية لهذا الإنتظار ؟ الدمار والتخريب هو الذي ينتظر العراقيين هناك في خط النهاية المستقبلية المظلمة ، أنّ هذه الحالة هي مثل العدّاء الذي يصل خط النهاية فبدلاً من أن يفرح بالفوز ، يجابه النكوص الذي يصيبه نتيجة لأعتراض الحكم على خطأ قد إرتكبه دون دراية منه ، المسافة الزمنية التي تفصلنا عن هذه الآلام غير محددة ولكنها عبارة عن ( فراسخ) ، العراقي يتسابق في الوصول الى آلامه القادمة وآهاته نتيجة الحكام الطغاة . هي بالضبط مثل الركض وراء الذئاب للروائي علي بدر ، تركض ثم تركض حتى إذا مسكتَ بها تدور عليك ثمّ تنهشك وتقطعك أربا أربا . هذا ماينتظر العراقي في مستقبله القادم ، وليس ماينتظره هو ، هناك فرق كبير ، والاّ أصبح عنوان الرواية تقليدي كلاسيكي لايميل الى الإبداع المتميز . رِهاب المستقبل هو الذي ينتظر العراقي هناك ، في خطوط النهاية التي لاحصر لها ، وهذا هو إبداع زيد الشهيد غير المألوف .
زيد الشهيد كروائي ينفرد بشكل مذهل ومميزعن بقية سرد الروائيين الآخرين في إستخدام النعوت المرادفة والسلسة بدلا من المعتادة ، تلك النعوت التأكيدية المضاعفة مما يزيدها بهاءاً وألقا ولغة ، كما وأنها تعطي الرونق في النغمة عند قرائتها ، على سبيل المثال ( وطيئة, راهصة ، الهياب ، الفياض ، الخفيض ، القصدية ، الهليك الوسيع ، صائت ، عديد المرات ، دفيء، وطيئة ، رقيم أعوامي ، النايفة من العشرين ، الخذيل ، جدران لميعة ، جفيفة الشفتين ، رعشية الأصابع ، الشسيع ) وهلم جرا .
زيد الشهيد حين تنفلت قواه السردية يكون في حيوية عظيمة وتحكم بارع في قيادة العبارات الرخيمة التي يزجها على الورق . في روايته هذه ( فراسخ لآهات تنتظر) وجدت ُكلماتاً وسرداً فيّاضاً معطراً بالهوية الخمرية الجميلة للشعب العراقي والتي نراها في الصفحة الأولى كمدخلٍ أولي لأروقة الرواية المذهلة ، حيث الجواهري الكبير صاحبُ الكأس الأبدية بقوله البديع :
مُقيمٌ حيثُ يضطربُ المُنى والسعيُ والفشــــــــــــــــلُ
وحيثُ يُعـــــــــــاركُ البلوى فتـلـــــويهِ ويعـــــــــــــتدلُ
ســــــــــــــلاماً أيها الندمان إنّي شـــــــــــــــاربٌ ثمِـلُ
منذ الأزل والعراقي هو معاقر للخمر ، منذ سيدوري صاحبة الحانة التي يكرع عندها كلكامش بعضا من خمرها قبل أن ينطلق في رحلته الى ( دلمون) ، نزولا الى الخمارين في زمن الرسالة النبوية و منهم من تركها وصبأ وأولهم الحمزة عم النبي ومنهم من ظلّ يعاقرها لغاية مماته في معركة أحد وهو ابو جهل حيث يقول كما رأيناه في فيلم الرسالة الشهير لمطفى العقاد ( وعشرون ناقة مني تحمل دنان الخمر ) ، نزولا الى الفيلسوف العربي (الفارابي) الى الشاعر الكبير (الجواهري) الى الروائي الراحل (غائب طعمة فرمان) الى الكاتب الشهير الذي ناهز التسعين ولازال يتلهف للكأس كل يوم وهو الكاتب الشهير والأديب ( الفريد سمعان) ,الى العديد من الروائيين في هذا الزمن المرّ ، الذين لايستيطعون الإبداع من غير معاقرة الخمر ، الى كاتب السطور هذه . ومازالت راية الخمر مرفوعة حتى اليوم رغم منعها ومحاصرتها من قبل فتاوى الذين يدعّون الأمامة والتقوى في هذه الأيام وحملاتهم المشينة بين الفترة والأخرى . الرسالة الأخرى التي يريد إيصالها لنا الروائي من خلال المدخل هذا هو أنّ العراقي رحال من بلد الى بلدٍ فتراه مقيما هنا أو هناك حيث الهرب من الأجهزة القمعية التي لم تفارق العراق على مر الأزمنة ، فتراه في معترك الحياة الرهيب الذي تارة يلويه وتارة يستقيم على قدميه فيعيش مرة أخرى ومرات حتى يهده التعب , وهذه حالة ملاصقة لأغلب المبدعين عربا أو عراقيين ، فذاك هو مظفر النواب المقيم في سوريا وفي كثير من البلدان العربية ، وذاك أدونيس المقيم في فرنسا ، وهذا زيد الشهيد مقيم في اليمن شوطا وفي ليبيا شططا مع مرارة الحياة وقسوتها .
في الرواية نرى المتضاد لهوية الخمر هو الأدعية والدعاء على لسان الأمومة ، كلما غادر أحد الأبناء مكانا ما فنراه يحمل في جيبه الصغير حنان الأم ( وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا …..) ، لكنّ هناك تشابهُّ واحد بين الأدعية ورفع انخاب الخمور ، هو انّ الأثنين يرفعوا وجوههم الى السماء أثناء أداء الطقوس ، ربما لكلٍ إلههُ الخاص ،( ديونيسيس) إله الخمر ، ورب العالمين إلهُ الكون الكائنُ في السماء السابعة . بعد ذلك تعرّج الرواية الى السياسة التي أعيت الأمهات لحبهنّ لفلذات أكبادهن من البطش الظالم ، فها هو بطل روايتنا الذي ذاق الأمرّين في تفاصيل حياته ( مبدر داغر) ، تطلق عليه عمته بالأخرس على خطى عمه (عباس) الشيوعي الذي أعدم في عام 1963 مشنوقا من قبل البعثيين . تطلق عليه بالأخرس لطيبة قلبه ، قليل الكلام لكنه الوطني الدؤوب الذي لايكل عن حب وطنه ، فتخاف عليه عمته من كثرة مايقرأ من الكتب التي تركها عمه في درج خزانته والتي أرادت أحراقها ، لكن الأب (داغر) إحتفظ بها إحياءا لذكرى اخيه (عباس) بعد أعدامه : ( ومات أنذاك تحت طائلة التعذيب ، عندما مارس البعثيون معه ومع الكثير ممن سحرتهم الشعارات الأممية ، تواليات من إنتهاك أخرق ينآى عن الفعل العقلاني إبتداءاً من إجلاسهم على قناني المشروبات الغازية ثم إدخالها في مؤخراتهم ).
الرواية تذكرني بالروائي اليساري الكبير السوري (حيدر حيدر) وروايته (وليمة لأعشاب البحر) لمافيها من لمة أصدقاء أداروا محتوى الرواية المذهل بين مشاكساتهم ونضالهم المرير وكل ماتحمله من معاني القهر التي تصب على شباب شعوبنا من أنظمة الفساد . الروائي زيد الشهيد في روايته هذه جعل من الشخوص الرائعين أنْ يمثلوا أطياف صبانا وعنفواننا أنذاك حيث السياسة وما تجلبه لنا من من صحبة راقية ولكنها في نفس الوقت تتكلم عن المآسي والحيف الملاصق على طول الزمن . شخوص الرواية هم الأصدقاء الذين مثلوا الحقبة التأريخية أنذاك ، اليساري( مبدر داغر) بطلها كان شاعراً ، (كمال) الرسام الشفيف والرهيف والمتشاؤم كما نرى لاحقا ، عبد الرحمن الشارد الى تخوم اوربا حيث المنفى البعيد الذي ضم ملايين العراقيين ، هو الآخرأديب وناقد ، ثم العطر الأساسي لأي عمل روائي وبدونه يكون العمل الإبداعي في غاية النقص ، وهو حوّاء والمتمثل هنا بحبيبة مبدر ( نجاة ).
kh zaidبين حب الحياة في الصبا والرفقة الصداقية الذهبية في عمرها الزهوي يتألق الأصدقاء حبا وفداءاً في الوطن . بين لعب الطفولة ونزقها ثم صعودا الى عمر البلوغ الجنسي الذي لايطاق في ظل شعوب محافظة تجعل من العاطفة الجياشة تضيع هدرا وانسحاقا مع مر السنين دون أن تنطلق كوابحها كي تأخذ مداراتها بين الجنسين في العناق والقبل والتوحيد بالضم والشد وجميع مستلزمات الجسد ، والرعشات التي تثير هرمون السعادة ، كل هذه في بلداننا محرمات، بينما في بريطانيا رأيتُ مايسمى (السكس بوكس) هو برنامج جديد يقوم على فكرة دخول رجل وإمرأة الى صندوق موضوع في الإستوديو لممارسة الجنس الحقيقي وسط عدد كبير من الجمهور وهذا البرنامج أعد لغرض توعية الرجل والمرأة بالثقافة الجنسية التي تنقصهم أثناء الممارسة ، أين نحن من ذاك حيث العمر الجنسي يمضي الى الذبول بين فصولٍ من الإستمناء وحرمانٍ يستمر في زواجٍ تقليديٍ بائسٍ فوا أسفاً . فلم يبق غير العمر الكسبي والثقافي والسياسي الذي من خلاله يستطيع المرء أن يناضل في سبيل تحقيق رغباته المكبوتة في العيش والجنس وفي الثقافة وحرية الرأي ، فيبزغ الألق هنا في السياسة وتأتي المصائب عندها ، ولاتخلّف غير التشريد والزج في السجون والهروب الى بوابات العالم حيث المنافي والإغتراب . في دوامة الإنسحاق التي يشب عليها الأصدقاء ، نراهم يتشظون الى كتل متباعدة رغما عنهم , في البدء يخرج عبد الرحمن الى بريطانيا وينجو بجلده ، ثم مبدر بطل روايتنا لم يكن في حسبانه المغادرة لولا تحذير بنت الجيران( نجاة) له والتي أصبحت فيما بعد الحبيبة المرتقبة والتي من الممكن أن تكون الزوجة والأم ولكن كيد الأيام المعجون بالإضطهاد البعثي حال دون ذلك ، بل تحول الى سراب دامي ودامع وحزين . نجاة هي بنت الحزبي في المنطقة ( شهاب)الذي إستفاق ضميره بعد ان عرف أنّ القادم من الأيام سوف يكون عليه وعلى عائلته في الدمار ، فبدأ يحذر مبدر من البطش ، فأعطاه النصيحة بيد إبنته نجاة ، نجاة تلك الرمز لثقافة المرأة العراقية النادرة أنذاك ، وحتى اليوم فالمرأة العراقية لاتزال في المستوى الذي لايرتقي الى الحضارة ، بل هي محكومة بثالوث المرأة اليومي ( المطبخ ، السرير ، السجادة ) كما قالها الكاتب القدير (محمد الباز) في كتابه المثير (الإنحراف الجنسي والديني في بلاد العرب … السعودية) . نجاة يجمعها بمبدر الشعر وأول نتاجاته البذرية في عالم الخواطر. تخبره نجاة بذلك قبل أن يأخذ الحب بينهما المأخذ الشكسبيري الذي يكون في تواليات الأيام مصدر هيام وإلهام في كتابة العديد من الإأبداعات لمبدر ، أول نظرة من مبدر الى نجاة هي الشرارة الأولى لدخوله في وصف عالم النساء وأجسادهن ، هو ذاته الإنتشاء الذي غمر شكسبير وهيامه في حب فتاة ثرية والذي جُسِّد في فيلم رائع بعنوان (شكسبير عاشقا Shakespeare in Love ) والحائز على سبعة جوائز أسكار من تمثيل الشقراء ( جونيت بالترو) و ( جوزيف فيانس) حيث يظلّ شكسبير قلقا هيّاما قليل النوم ، حين يراها لأول مرة ، فتنطلق قريحته السردية في تأليف الكثير من مسرحياته وهو بالقرب منها ينهل إبداعه من جمالها الأخاذ . بين هذه وتلك (نجاة) تنصحُ مبدر في المغادرة قبل أن يبطشوا به مثلما فعلوا مع عبد الرحمن وكمال ، لكن عبد الرحمن أخذ الدرس وخرج الى بريطانيا ، هكذا أوصاها أبوها الحزبي أن تنقل الكلام هذا الى مبدر . تنتهي زيارة نجاة لمبدر بقبلة مسروقةٍ خفيفةٍ خجلى على شفتيها فتنسى أوراق الشعر عصارة بوحها على الطاولة ، وتخرج بنشوتها الدفينة . أحاديث الشعر بين مبدر ونجاة في تلك الغرفة البسيطة في السماوةوبين خدر الحب الكامن في الجسدين دون اللمس ودون تذوّق العُسيلة ، يزيد من فداحة الأمر في اللوعة والحرمان والعطش والحب الذي يَعرَم في تقادم السنين ، حب بلداننا في النظرات فقط ، وحتى هذه يشوبها الخوف والخجل ، بينما في الدنمارك الكثير من الفتيةِ والفتيات يتضاجعون في حمّام المرقص ، الحمام الذي هو الآخر يثير الجنس ليس كما في بلداننا حيث البول على الأرضية ، وقذاراته التي لاتطاق ، بل هو أنظف من أعظم بيوت الساسة العراقيين السرّاق ، بل هناك موسيقى هادئة ( مونامور مثلا) ، فمن خلال ذلك حتما سوف تكون السعادة المنشودة هذه مع كؤوس الخمرة تؤدي الى فعل الجنس والأورجازم في هكذا أماكن .
ثم تبينت الأمور واضحة لدى مبدر في خطورة بقاءه في العراق ، إذ رآى كيف ان رجال الأمن سحبوا رجلا من البار بالقوة ورموه في حوض الحقائب للسيارة وانطلقوا به أمام مرأى الجلاّس . البار هو المكان الوحيد لذي يلجأ له المحرومون من كل شئ ، من الحب ، من التسلية ، من الحرية, البار الذي يجمع الفقير والثري والغبي والذكي واليساسي والمندس والنادل والسيد والمتملق والمنافق الذي يصلّي صباحا ثم يسكر ليلا ويعربد. الخمرة تعطي إجابة سريعة لكل تساؤل محير مرتبك خارج المألوف ، هاهو مبدر يفكر بنجاة لربما لها علاقة بصديقه عبد الرحمن حيث يقول 🙁 لعنتُ رشح الخمرة الذي ينساب متسللاَ لمخدع الروح ، ليطلق سراح التشككات متنقلة بعربات التحسس الرمادي ، وقلتُ هذا يكفي لئلا تستحيل نجاة فتاة فاجرة وأمي إمرأة عاهرة ويغدو البيت منفى والمدينة قبرا) ، ولذلك نرى الخمرة تتوقف عند حد معين حين تعطي الأجابة الشافية ويرتاح الضمير بدوائها .
مالذي جناه مبدر من ذلك الوطن الذي حتى في أجمل سنين العمر وهي المرحلة الطلابية تراه خائفا مرعوبا من مدرّس شريف( ناهض) لأنهم يحذرونهم منه لكونه الشيوعي الذي جاء نقلا من كركوك نتيجة ميوله الشيوعية فانه كافرا ملحدا بينما هو الذي دلّهم على العمالقة من لوركا وبوشكين ، كيف سقينا الفولاذ وبناءا على نصيحته كانوا يتابعون بطلها (بافل) الصغير ونهوضه في مسيرة العمال النضالية .
ذلك الوطن ، و تلك البلدان التي تتخذ من الدين ستاراً لتمرير مآربها ، حيث ملئت الأرض جثثاً وقتلى في السجون والشوارع كما في إيران أيام الخميني ، حيث أنّ أحد الشعارات الدينية التي كانت ترفع ايام الخميني في ايران هي : ( لو سمح للكافر بالإستمرار في الحياة لأصبحت معاناته النفسية أسوأ كثيراً ، أما لو قتل المرءُ الكافرَ فيكون قد حال دون ارتكابه مزيد من الخطايا وبهذا يكون الموت نعمةً له ، ولذلك كانت الإعدامات في الشوارع بواسطة الرافعات …ماريا نعمت رواية … سجينة طهران).
ثم تبدأ رحلة التفكير بالخروج ومغادرة الوطن والحديث عنها بين الأصدقاء ، أنها لغة الأسرار في تلك الأيام الغادرة ، لخوفهم من بطش النظام ، فيرى مبدر ليس له غير البيت : ( تخطو وليس لك غير البيت ملاذاً ؛ هو الوكر العاطر بأرائج الأمان ولكن هل يأمن الطير في عش تترصده أحقاد الكواسر) . فيتوجب عليه وعلى اصدقائه الكتمان ، (الخوف هو أفظع السجون على الإطلاق ولذلك إذا كتبنا مخاوفنا قتلناها .. مارينا نعمت… من رواية سجينة طهران).
مبدر يتخذ القرار في الهروب من العراق ويغادر الى ليبيا نهاية السبعينيات ، على أمل اللقاء بصديقه عبد الرحمن الذي سبقه هناك ، ثم اليأس من اللقاء به لكونه غادر الى إنكلترا وهذه أول بشائر اليأس وتضاعف الغربة عليه . يصل الى ليبيا حيث ( زنقة اليهود ) وهذه التي تذكرنا بخطاب الأرعن القذافي حين يقول سنحرر ليبيا ، زنقة زنقة ، بيت بيت ، شبر ، شبر ، لكنه مات بعارهِ قبل أن يحرر نفسه .
فمن فداحة اليأس الأول لغياب عبد الرحمن وإرهاصاته التي دخلت عنوة الى صلب الهم ، بدأ مبدر يزيح عنه تعليق النفس بالأماني لنقرأ ما يقول:
( هلمَّ أيها المخلوق المتطيّر من ربقةِ القدر ؛ المهووس بشدَّة الضجر. يا ناقم ، يا حالم ! العالم لا يتغير بالأماني ؛ ولا المُرادُ هيِّنٌ ويسير .”.. أدخلُ كمن يبغي اكتشافَ وجودٍ لا مُكتشف ، يا حالم العالم لا يتغير بالأماني).
في ليبيا وحيرة الغريب في المنفى والضياع والخوف من المبهم ، يتعرف على شخصٍ طيب ( مبارك) ثم على( بشرى) النادلة في مقهى… بشرى تلك التي ترمي عليه ضباباً آخراً ، فهوَ ليس مِمَّن يتخلّون عن ذاكرتهم بسهولة تذكر ، فهناك نجاة في السماوة والحلم المنتظر وكل ما أعطي من تعهدات لنفسه في أن لا ينساها ، بل يظل ذلك الحبيب الوفي وتلك هي طامة المثقف وضريبته التي لابد أن يدفعها . بشرى تفكر به كزوج ، فيجد نفسه لأولَ مرّةٍ نائياً عن ذكرى الأهل ، واستحضار صورة الحبيبة نجاة ، لأول مرّةٍ يشعر أنه منسلخ عن غمامةِ هموم ؛ وداخل حلبة مفاجآت.
بشرى تحدّثه عن اختها الهاربة مع اليوناني حباً وتضحية , يبدو أنّ الكل في أوطان العرب ليس لهم لغة سوى لغة الهروب من جحيم الحكام ، المغرب هي الأخرى بلد الفقر المدقع وكثرة الدعارة ، بحيث في يوم قالوا للملك( محمد السادس) المسمى ( أمير المؤمنين ) أنّ الآيدز قد تفشى في المغرب فقال لهم ليس من مشكلة ( ادعموا الواقي الذكري ) ، هذا كل ما استطاع أن يفعله أمير المؤمنين .
في ليبيا يكون لمبدر ثلاثةُ صحابٍ : مبارك ، وبشرى ، والشِّعر .. وهنالك في البعد النائي كانت الأمُّ ، ونجاةُ ، والذكرى . يبقى مع بشرى سبع سنوات متواصلة ، أزاحت الكثير من التفكير القاتل لديه , المرأة هي مفتاح الراحة والأمان في الاغتراب ، حين يمرض ويصاب بالحمى ، بشرى تتحدى كل التقاليد الليبية المحافظة وتجتاز الأزقة الظلماء في ليلٍ حالك ، وتعوّده كي تداريه وتخفف عنه آلام الوطن النائي . وكل غريب له سلواه في السياحة وارتياد المتاحف والمناطق التأريخية وخصوصا الشاعر والكاتب حيث يصيبه الذهول لكل شيء غريب عنه وعن ما أعتادته عيناه , فيقول لبشرى وهو في متحف ليبي :
(المتحف دفترٌ حيوي وصفحات مصغّرة لمجتمعات كانت هنا، نحنُ هؤلاء قبل آلاف أو مئات أو عشرات الأعوام . مقذوفون من بؤرة وجودهم السحيق . هم جذورنا ونحن الأغصان) . الروائي زيد هنا يكرر لنا أنّ الذاكرة لدى مبدر هي التي جعلته يفيض بما لديه عن جذور الإنسان ، أولئك أسلافنا والقادمون أحفادنا وهكذا تبقى الذكرى جوالة بين هذه السلسلة المترابطة الممتدة الى السنوات السحيقة والماضية صوب الأبدية ، مثلما ذاكرته التي تتأرجح بين حبٍ تركهُ هناك في العراق ( نجاة ) وحب فرضته الغربة والاشتياق الى حضن النساء الدافئ والمتمثل بـ( بشرى).
فجأة تغيب بشرى والى الأبد بعد إن غرست في قلبه وفي جسده ندوب لا يمكن أن تمحى ، لقاء جمعهم اختصر كل معاني الاشتياق واللوعة والحرمان والحب الذي لم يُكتب له الاستمرار لدواعي كثيرة ، المرأة إذا أحبت بصدق لابد لها أن تؤرخ هذا الحب عن طريق الوصال الحقيقي والتماس الجسدي والتوحيد على سرير ناعم يفيض بالحنان ، ثم فليأتي ما يأتي ، بشرى تجعله يتذوق عسيلتها في تلك الليلية الأخيرة ، كي تغرس في قلبها سكين حبه الذي سوف يظل ماثلا أمامها كلما تتذكر قبلاته وتمسيده فوق الجسد الناعم . في الدنمارك إّذا ما التقى رجل وامرأة وقال لها الرجل : أتذكرينني قبل عشرين عام كنت قد أحببتك ذات مرة ، المرأة تقول له ، وهل سمحَ القدرُ لنا في أن ننام سوية في فراشٍ واحدٍ ونضاجع بعضنا ، فإذا قال لها كلا ، تقول هي بدورها : آسفة إذن لم أستطع تذكرك ، فتصور ايها القارئ ما هو دور الجنس في حمل الذاكرة سنين وسنين . ولذلك ظلّ مبدر داغر يحملُ تأريخ بشرى مادام حياً :
(بشرى إذاً نيزكٌ مرَّ في سماء روحِكَ خطفاً ثم انطفأ . لكأنَّ الأيام ترينا غوايتَها تجسيداً على صحائف العمر).
غابت بشرى !
وبالغياب أُغلِقَ كتابُ حبٍّ كان حلماً :
نهض فانتشى ..
تمايس فانكسر ..
بزُغَ فانطفأ ..
مرَّ وانتهى .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*الحصار .. الكابوس الجاثم والصدور الهشّة……..
بين هذه التصدعات يتسلم مبدر رسالة من أمه :
” يا ولدي : نحن في أشد الظروف فقراً ، وأتعسها مقدرةً . المال ؛ العملة عندنا لا قيمة لها فهي تنضب سريعاً كالدخان . الحصار استنزف المدخّرات وأطاح بالماثل من الأشياء : أثاثاً وعفشاً وعقارا……. الكثيرات من البنات اليافعات انجررنَ إلى دروب الخطيئة لا لشيء إلاّ للتواصل في حياةٍ أكثر ما يتمنّينَ فيها أكلَ لقمةٍ تُطيل الحياة ليومٍ آخر … ابعث لنا ما تقدر عليه من مال ؛ فنحنُ ننهار).
انا ، كاتب هذا المقال ، في يوم أثيمٍ كنت حينها أعمل مهندساً ولدي سيارة تكسي أعمل بها بعد الدوام الرسمي كي أستطيع مجاراة الحياة الصعبة أنذاك لعدم كفاية الراتب في متطلبات الأسرة . أغوتني فتاة في عمر الزهور وأنا أوصلها الى بيتها ، حينها كنت شاباً ينطحُ الحائط فينز ماءاً وخرير , ركنتُ السيارة بجانب بيتها ، ودخلت … ويا ليتني لم أضع قدماً على عتبتهم ، البيت ليس له باب ،بل مجرد خردة قماش ، الجلوس أرضاً على سجادةٍ أكل الدهر عليها وضحك . جلستُ حتى جاءتني والدتها الوقور ، فصعقتُ أيما صاعقة ، وهي الأخرى خرّت من الحياء والبكاء المفاجئ ، يا للهول !! .. كانت جارتنا في الزقاق البسيط . كانت ترفل بالشرف والعفة والكرامة وكنت في ذلك الوقت أناديها بخالتي تقديساً وحبا لها ، فاتضح لي أنّ البنت كانت( فلانة) أيام الصغر الذي تناهى لي وجعل الغشاوة على عينيّ ولهذا لم أعرفها ، خرجتُ سريعا تاركا لهم مبلغَ كل ما عملته من أجرٍ في ذلك اليوم وأكثر ، دون أن آخذ وطري ، غير أني لعنتُ صدام أمامهنّ دون خوف أو تردد .
تلك الظروف القسرية على عائلته والشوق الناري الذي لا ينطفئ للحبيب الأول ( نجاة) يجد مبدر داغر نفسه مرغماً بالعودة الى العراق وفي ظل الأجرام الصدامي وفي نفسه الكثير من الوساوس ، خوفا من رجال الأمن ، تفكيره بمصير العائلة ، ونجاة التي لم يسمع عنها خبرا يُذكر ، بعد إن كانت تتواصل معه بالرسائل والخطابات الى ليبيا لكنها في السنوات الأخيرة انقطعت ولم يعد هناك من رد ؛ وحتى امه التي كبرت وغاب عنها ذاك الألق و التي كانت تخبره عنها لم تبادر في الإفصاح عنها بشيء يسر الروح ، نجاة أصبحت في عالم الغياب وقد طواها الدهر دون معرفة مكانها وما حل بها ، ها هو اليوم عائد الى العراق (ويحشر نفسه مع العائدين ليدخلوا من فمِ النفق إلى جوفه العتيم) ، مرددا:
(مع رامبو في مركبه السكران ” وهكذا ؛ فأنا مركب ضائع تحت شعر الخلجان الصغيرة ، مقذوفٌ بالإعصار في أثير لا طير فيه) .
يصل مدينته السماوة بعد غيابٍ دام عشرين عاماً ويلتقي بفرحٍ يشوبه القلق والحزن الدفين بالكثير من أهله وناسه وخصوصاً اخته التي تقول له (أخطأتَ كثيراً يا أخي بعودتك !) ، لأنّ أغلب الشباب اليوم هربت من هذا الجحيم الذي نحن فيه ومن جيش القدس الذي اعدّه عريان ( صدام) ليحارب فيه جيوش العالم ، الرجال تهرب من العراق وأنت راجع اليه ، هكذا سمع أول تنغيصة في عراق الظلام الذي دخله توا .يلتقي بصديق عمره كمال فيجده ليس بذاك الكمال الذي فارقه ؛ ليس بتلك الحيوية وحب الفن، طحنته الأيام ولم يعد غير شتات . يسأله عن( نجاة ) فيجيب حسير النفس ، ربما هي في عمان الآن تنسحق مع آلاف النساء العراقيات ممن توارينَ هناك هربا من الجوع والحصار . لكنّ الجواب الذي أنهى كل خيوط الأمل الماثل في أنْ يعاد حبه الذي طار مع الريح ولم يعد …. حين يكمل كمال حديثه القاتل :
(أنّ عربة من النوع الذي يستقلّها المسؤولون الكبار كانت تأتي فتأخذها إلى العاصمة ، وتغيب ولم يعد أحد يبصرها…. لقد انتظرَتكَ طويلاً ومن المحتمل أن ظنها خاب في مسألة عودتك ؛ ظنّتها مستحيلة لن تتحقق . ومع هذا لا تجعلها تضيع ، ابحث عنها . ليس لنجاة من بديل).
ثم يعرف أيضا عن مصير شهاب والد (نجاة) بأنه كان يقص على زوجته (انيسة )وهو في سكرات الموت وصحوات الضمير بانه شارك في قتل العديد من الناس الوطنيين وقبلها في عام 1963 ، كان يقول لها ..(علقم ..علقم .. مرارة . أشعر كما لو أنَّ ملحاً يُزرَق في فمي، ما هذا ، يا أنيسة ؟.. لماذا أنا هكذا ؟!. هل أنا مريض ؟ “، ثم يموت شهاب من غير أنْ يدرك مصير نجاة ونهاية الجناة ! .. مات تاركاً المصير فضفاضاً بلا نهاية).
كان رجاءُ الناس من الله في القضاء على عريان لا حدود له ، لأنها عجزت من القضاء على عليه ، عريان هو صدام حسين الذي تعرى وأصبح مكشوفاً في أيامه الأخيرة ، تعرّى للإمبريالية لكي يرد الموت عن نفسه ، مثلما تعرّى قبله عمرُ بن العاص أمام علي . ترجو الناس باريها وما من مجيب فتبدأ بالتشكيك وهم يرددون ( الله قادر على كل شئ الا على عريان فهو عاجز وخائف ومدحور) ، وهذه الرؤيا حول الشعوب ويأسها قد وصفها محمد الماغوط بتعبير مذهل (انني اعدُ ملفاً ضخما عن العذاب البشري لأرفعه الى الله فور توقيعه بشفاه الجياع واهداب المنتظرين ولكن يا أيها التعساء جل ما أخشاه انْ يكون الله اميّا) . ثم يختصر مبدر مما رآه عن حالة البلد 🙁 الشباب من أهل المدينة لا وجود لهم ، ولم ألمح إلا القليل . علمتُ أنهّم أمّا مُجنَّدون في الجيش أو هاربون يقبعون في البيوت ، لقد هرب الكثيرون وصاروا يجدون الأمان هناك ولو على حساب سوء الحال .. شاهدت أعداداً هائلة منهم في عمّان) . المخرج الإيطالي الشهير (فدريكو فلليني) كان يقول : ( السير في الشوارع كان خطرا على أي شاب إيطالي ليس في جيش موسوليني) ، حيث يروي كيف أنه كان سجيناً في بيت خطيبته ولم يلتحق في الجيش وفي يوم خرج مغامراً فإذا بنقطة تفتيش تستوقفه فما كان عليه سوى أنْ يتدبر حيلة ، حيث ركض الى امرأة عجوز كانت تتوقف جانبا وأمطرها بالقبلات على أنها أمه ، العجوز ذهلت ، الجنود تركوه ريثما ينتهي لكنهم تناسوه بعد برهة استطاع بها الهرب من أقرب زقاق .
—