من الواضح أننا ننتمي إلى ثقافة الجواب لا ثقافة السؤال. ذلك أن كل الأسئلة التي يمكن أن تتبادر إلى أذهاننا- بدءا بالأسئلة التي تهم الحياة اليومية العادية، ومرورا بتلك المتعلقة بالشأن الإجتماعي والإقتصادي والسياسي والعلمي، وصولا لتلك الإشكالات الميتافيزيقية والوجودية- نملك إجابات مسبقة عنها، فليس لنا إلا أن نعود إلى أسلافنا الصالحين و تراثنا المحاط بهالة تضفي عليه “القداسة ” لنلفي فيه ما يشفي غليلنا. وقلما نكون على استعداد لمساءلة تلك الإجابات. وذلك لأننا نصدر من مسلمات – صريحة ومضمرة- تفيد بأن “السلف خير من الخلف”، وأن الأولين أقرب إلى المنبع والأصل وبالتالي أقدر على مدنا باليقين المطلق…ولهذا لا غرو إن كانت مجتمعاتنا تكن الكثير من العداء للأسئلة ذات الطابع الجذري والتشكيكي التي تروم خلخلة ما ينتمي إلى “آبائياتنا”- إن صح التعبير – وإعادة النظر في آرائنا ومعارفنا الجاهزة. إننا لا نرحب إلا بتلك الأسئلة “البليدة”( من قبيل الإستفسار عن حكم إرتداء البنطلون من طرف الرجال…) أو تتلك التي تدور في فلك المتحول دون أن تجرأ على الإقتراب من قلعة الثوابت المحصنة بفكر ديني يتسربل برداء أرثوذوكسي يحجر على العقل باسم الدين.
ولنفكر بالأسئلة ذات النغمة الوجودية الني يطرحها الأطفال في مجتمعاتنا على الآباء والأمهات حول: الله والجنة والنار والشيطان والموت والجنس…فهي وإن كانت تبدو في نظر الراشدين “العارفين” أسئلة ساذجة وطفولية إلا أنها تحمل بين ثناياها نوعا من التمرد و”الشغب الفكري” الذي يزعج ويعجز الكبار، فلا يتورعون عن قمعهم ماديا ومعنويا (التوبيخ والتهرب من الإجابة…). الأمر الذي يمهد لمحو بذور كل تفكير نقدي لدى الطفل، وغلبة التطبع والعادة عليه…
ولنستحضر تعليمنا التقليدي – الذي لا يزال حيا داخل مدارسنا “الحداثية” – الذي يجعل المدرس مالكا المعرفة وشيخا ينطق بالحقيقة، وما التلميذ إلا وعاء فارغ ينبغي شحنه بالمعرفة والقيم، وما عليه إلا الإنصات والحفظ، وبعد ذلك إعمال ملكة الذاكرة واستظهار ما تلقاه عن ظهر قلب…
وفي ذات السياق تحضر العلاقات بين الشيخ والمريد داخل زوايانا، والمبنية على أساس خضوع المريد لسلطة الشيخ الرمزية، والسعي لإبراز علامات الضعف والخنوع في حضرته، وخدمته تقربا من مقامه الرفيع…
ولنتوقف أيضا عند العلاقة بين الراعي والرعية فهذه الأخيرة مطالبة بضرورة تقديم فروض الطاعة والولاء للحاكم بأمر الله، وينبغي عليها أن تظهر تجليات خضوع الأبدان والأذهان في مجلسه، وأن تصغي لخطابه بكل حواسها، وأن تكتفي بمدح كل ما يتفوه به…
لقد نسجت،إذن، شبكة من السياجات (الفكر الديني، السلطة الأبوية،علاقة الشيخ بالمريد، سلطة الحاكم، ومحتلف العلاقات السلطوية التي تخترق جسمنا الإجتماعي…) التي تحاصر الفكر النقدي و تعمل على وأد الفعل التساؤلي، بدعوى حراسة مقدسات وثوابت الأمة تارة، وباسم تجنب الفتنة والشقاق والحفاظ على الإجماع تارة أخرى.
إن الخروج من ثقافة “الآبائية”وتأسيس ثقافة السؤال يقتضي توفر شروط ذاتية (الإندهاش وروح البحث الدؤوب…) وموضوعية يتمثل أهمها في: تكريس سياسة ديمقراطية، وبناء مدرسة منفتحة وحداثية، وكذا تجديد الخطاب الديني. علاوة على تشجيع الفكر الفلسفي والعلمي العقلاني. أي أن الأمر يتطلب ثورة ثقافية فكرية وسياسية واقتصادية.
وهذا الأمر يشكل ورشا مفتوحا لإستزراع الفكر النقدي داخل الأسرة والمدرسة ومختلف المؤسسات الإجتماعية، ولحقن مجتمعاتنا بجرعات من ثقافة السؤال، بهدف مراجعة الأسس التي شيدناها بأيدينا وصرنا لها عابدين. وكذا بغية إعادة النظر في كل المقولات التي تتحكم في فكرنا دون أن ندري أنها في نهاية المطاف أنها نتاج بشري وتاريخي ( له ما له وعليه ما عليه) .
لكن بالمقابل علينا الحذر من السقوط في شراك الفكر الأحادي والإختزالي (الذي يتوخى محو الماضي والإرتماء في أحضان الآخر، أو العكس، أي التحصن بالماضي والتقوقع على الذات) أو التمسك “بالعقلانية العمياء”، التي تؤله العقل وتنظر إليه بعين الإطلاق لا بعين النسبية.
—