النص
في بطن الحوت
في قعر العالم السفلي كنّا نمارس كتلة من الأحلام، ننسج من همس الحزن والغربة المميتة صمتاً، ينخر عباب المسافات، كانت العتمة وقوافي الفزع قبلتنا، نختبئ خلف ظلّ الأنين والانتظار، نحمل طيوفاً على طرف الخيال، وسط لهيب السياط، ولمّا تزل أنفاسنا لاهثة نحو وجه الشمس، منقوعة بغضب دفين، كنّا في رحلة كسوف تماماّ، كمّموا أفواهنا بالرعب، العيون لم ترَ غير الظلام، كانت جروحنا تغسل بالملح على ضفة ضحكات استهزاء واحتقار، الصوت الآتي من خلف الظلمة، يتخذ شكل عاهرة طاعنة بالصدأ، كانت الكلمات مؤذية جداً:
– ألم تسمع ذلك الصوت؟
– بلى، يؤرقني صداه.
– هل التقينا من قبل؟
لم يجبني. كنّا نتّكئ شهوراً على دكّة الصوت، يحتوينا الفراغ والعتمة قلقاَ، أرقاً، يشكّلنا ضجراً مرّ المذاق، نصول ونجول في مساحة لاتتسع للجسد، مساحة تشبه القبر، ربما كنّا نرقد في عالم من التوابيت، لا أدري، لكنّي أعلم أنّنا شربنا من كأس واحدة، إنّه يرقد بين ضلوعي بقايا أسى، دموعه تلامس مقلتي باشتهاء، يداه النحيلتان فيهما شيء من ارتعاشتي، كان يحلم بالحياة، وأنا لا أعرف غير أن وجهي يحمله ليل طويل، ليل أطفأني غياباً على ضفة عالم ليس له ملامح. وحين يستبدّ بي القلق واليأس يطفئ مخاوفي بكلماته، كلمات تنبّئ بحفيف أمل محمول على كتف جراح البائسين:
– من رحم العتمة يطلّ النور، والصبح يحمل نداه، هذه الجراح ستحملنا يوماً ومضاً، أنشودة تهزأ من كلّ هذه الأطواق، سنتحرّر من قيودهم يوماً ما، لاتخشَ شيئاً ياصاحبي. – ألم نلتقِ من قبل ؟
– هو ذات الوجع والخراب، هي ذات الأحلام.
– لكنّك تحملني جرحاً ودمعاً بين الحدقات.
كنّا نبحث بين فراغات العتمة عن نسمة هواء أو شعاع ضوء، غريبان منبوذان في العراء، لا لون لهما، يختنقان بمجامر العزلة، عزلة خانقة تغمرنا بالأنين والدموع، تغمرنا بشهقات أقرب لشهقة الموت، حاولت مراراً أن أعبر أمسي لحتفي الذي ينتظرني منذ شهور، لكنّي لم أقوَ على الأمر، ماكنت لأرغب أن أكون بقايا قبر، لا أحد يسمع صراخي وأنين جرحي:
– من أين قدمت؟
– لا أدري، وأنت؟
– من جادة الأمس، أعدّ خطواتي التائهة فوق طرق قذرة.
– وأين نحن الآن؟
– في بطن الحوت.
ابتسمت على رغم الوجع، ياترى هل لمح ابتسامتي؟ سيكون سعيداً بها…لم يكن بيننا سوى مسافة أنفاس، وبيننا وبين العالم أسوار من الصمت، وجدران من الفزع، صُلبت عليها أحلام وأماني عصافير، تحلم بزقزقتها، كنّا نحلم بصرير الباب، نرتجي قطرة ماء من فصول ارتدت أقنعة الجفاف:
– إنّك مازلت ترقب خوفي، وتبثّ في خواء الصمت أنفاسك النقية، إنّي أراك لا تحصد من حقول السراب غير الأوهام كما الظمآن يلهث خلف السراب. ما زال خوفي ويأسي ينمو في فراغات العتمة والفراغ، وهو يحمل شراع الرفض، يكتب بالجراح ذاكرة الغضب في ظلّ غيمة عابرة، يحلم بالأمطار:
– دع أحلامك تتنفس المدى، فخلف الجرح تسكن حراب الغضب وغفوة أمل، خبّئ دموعك عنّي، واسمع صدى العاصفة، ارنو ببصرك بعيداً، ألا ترى معي ذلك الفنار الشامخ على مرفأ الغربة والعزلة؟ لا شيء سوى أشباح وحدتي، سأم يؤسر خطى الصبر، أقتات منه جوعي وعطش المنافي، أعماق الروح تتلظى ألماً ، تتفجّر لوعة وجوى، لم أرَ غير أشجار ذاوية وقوافل من الموتى، تبحث في الظلام عن مأوى لها، وخلف الغروب مدن تلتحف أسمال أبنائها في عزّ البرد، وأراني وسط الضباب ألتقط من بين متاريس الذاكرة وجهاً يسطع بظلّ أوجاعي، أستظلّ به. فجأة وقبل أن يتداعى صرح الفجر عانقني صرير الباب، تجندلت مثخناً بدموعي وبقايا ذكريات بعثرها النسيان، تتواثب دقات قلبي للعناق، حدّقت في الفراغ، لم أرَ غير وجوه كالحة:
– أين خبّأتم وجه الشمس؟ تستّروا بجنوني:
– إنّك تهذي، لا أحد غيرك.
ترجّلت من خطواتي العاثرة بأفق الشك،عيناي تترقران بالصراخ والدهشة:
– أين أنت؟ ها أنا أطلّ من أرصفة الوجع، أطلّ على شمسك المتوهجة بالرغبة. يفترشني سقف الفراغ والعتمة، يغتصب ذعري صمت مريع، أتسوّل وضوح الرؤيا لعلّي أدرك ظلّه، ارتحل مهاجراً من منفى إلى منفى، من عتمة إلى عتمة وسط حجب من ظلام، لا أدري حين سمعت صرير الباب، أدخلت محجر المجهول أم خرجت منه؟ لا أذكر شيئاً سوى أنّني كنت محمولاً على ( بطانية ) خضراء تقطر دماً.
القراءة النقدية
__________
لا يحفل القاص العر اقي عبد الكريم الساعدي بتطوير الحدث عن طريق الحركة والأفعال , وإنّما يمتلك بشاعريته وقاموسه اللغوى الثري تقنية بديلة . يستخدم ببراعة دفقات الشعور فى الارتقاء بدرجة التوتر لدى المتلقى دفقة بعد دفقة , فى مسار مدروس لتكتمل التجربة فى خاتمة تبلور التجربة وتنضجها . مسار شعورى أشبه بمسار القصيدة , ورغم ذلك لا تبهت التجربة القصصية , بل تتألق من خلال دفقات الشعور التى تحفز خيال المتلقى لإنتاج الصورة .
ويكتمل بناء النص بمهارة توليف العنوان الدال على التجربة . فالعنوان ( فى بطن الحوت ) يحيل الى قصة النبى يونس , والعبرة التى يتماس النص فيها مع قصة النبى الذى أرسل إلى أهل نينوى قبل ميلاد المسيح بثمانى قرون . هى اعتقاله فى بطن الحوت نظير عدم اتمامه المهمة التى كلفه بها الله , فقد أعرض عن قومه وغادرهم بعد أن أصروا على عصيانهم وقبل أن يأتيهم العذاب , ظنا منه بأنه أدى المهمة بمجرد الإبلاغ . والإعراض كما يكون بالمغادرة , قد يكون أيضا بالوهم . والتقاعس عن استخدام الوسائل المناسبة للصراع .
يقبع الراوى فى عتمة تشبه عتمة بطن الحوت , فى مساحة لا تتسع للجسد . مساحة تشبه القبر . والندم الذى يتخلل السياق يسرى إضماراً بلا بوح . يرزح كهم ثقيل أشد وطأة من قسوة الأسر وعتمة القبر . لا يبوح الأسير لكن مرارة الندم تتبدى فى الحوار الذى يجريه مع ذاته ( لكنّي أعلم أنّنا شربنا من كأس واحدة، إنّه يرقد بين ضلوعي بقايا أسى، دموعه تلامس مقلتي باشتهاء، يداه النحيلتان فيهما شيء من ارتعاشتي، ) .. فالصوت الآخر ليس الا ضمير الأسير ذاته وحسنا فعل الكاتب إذ أكد وحدة السجين فى محبسه إذ يخاطب نفسه ” إنك تهذى .. لا أحد غيرك ” . والبوح يكاد أن يكون جلدا للذات تشى به العبارة ( صلبت عليها أحلام وأمانى عصافير , تحلم بزقزقتها ) .. فالأحلام التى انهارت , وماصار اليه الراوى من أسر ومهانة وضيق , إنما نتج فى ظنه من تبنيه أساليب قد تليق بالمدينة الفاضلة , وليس بصراع يستهدف تكسير العظام . صراع استخدم فيه المخلب والناب , قد يشير إلى حركات النضال التى ترفع دعاوى السلمية فى مواجهة أعتى آلات الدمار . ” إنّك مازلت ترقب خوفي، وتبثّ في خواء الصمت أنفاسك النقية، إنّي أراك لا تحصد من حقول السراب غير الأوهام كما الظمآن يلهث خلف السراب. ما زال خوفي ويأسي ينمو في فراغات العتمة والفراغ ” ..( ولا يبقينّك حياً إلا الرفض الذى لا يزال يحملنّك فى أعماقك رغم قسوة المحنة ) . والسجين رغم المحنة لا يتخلى عن أحلامه . إن مايبقيه حيا هو الأمل فى فرصة ثانية لمواصلة النضال . ربما باستحالته هو ورفاقه إلى فكرة ستبقى حية فى ذاكرة الأجيال تجدد شعلة النضال . ( من رحم العتمة يطلّ النور، والصبح يحمل نداه، هذه الجراح ستحملنا يوماً ومضاً، أنشودة تهزأ من كلّ هذه الأطواق، سنتحرّر من قيودهم يوماً ما، لاتخشَ شيئاً ياصاحبي. )
أنشودة الأسر والسجن هى الإيقاع الذى يصاحب اللحن الأساسى , الأذن الموسيقية المدربة هى من يمكنها التمييز بين اللحن الأساسى وبين الإيقاع . والخطاب يراوح بين المونلوج بضمير المخاطب فى مناجاة ذاتية مضفورة باللوم والأسى , وبين ضمير الغائب الموجه للطغاة الذين لا يدركون أن نصرا يأتي على جثة الوطن ما هو إلا نصر زائف . أولئك الطغاة الذين كمّموا الأفواه بالرعب . لا يدركون أن ( من رحم العتمة يطل النور ) .. وأن (هذه الجراح ستحملنا يوما ومضا ) .. يمتزج لوم الذات فى النص بالعزم على المواصلة , والأمل فيما هو آت . ( سنتحرر من قيودهم يوما ما ) ..
الفقرة الختامية تعكس حيرة المناضل السجين فى ظل فتنة تترك الحليم حيرانا :
“يفترشنى سقف الفراغ والعتمة ”
” أتسول وضوح الرؤيا ”
” أرتحل من عتمة إلى عتمة وسط حجب من ظلام ”
نص هو لسان حال المناضل فى مناخ ملتبس يغيب فيه الحق , ويسطع الباطل .. والعبارة الساطعة ” أدخلت محجر المجهول أم خرجت منه ؟ ” تلخص الأمر كلّه .
نص جميل ممتع ..
—