(ان تجيد الكتابة معناه ان تجيد الاختصار) هذا ما يقرره تشيخوف..وان قيمة العمل الادبي يقررها المضمون الفكري لذاك العمل او هذا..والقصة القصيرة جدا..الجنس الادبي الحديث الظهور خلاصته تعني تجديد العلاقة بين الواقع والقصة بحكم عوامل تاريخية وحضارية اعتمدت التقاط اللحظة المكتظة بالحياة الانسانية بسبب ميل الناس الى الايجاز نتيجة حالة القلق التي تسود الواقع مع تأزم الحالة النفسية واشتغال الفكر مع تنوع المعارف والرؤى الابداعية التي اخذت تتناسل من بعضها وسط مخاضات التجريب التي تتوخى المعاصرة ومسارات الحركة التكنولوجية الحديثة وميل الانسان الى اختصار المسافات.. وبذا كان ظهور هذا الجنس الادبي استجابة لواقع جديد وحياة متجددة..فصار اسلوبها المكثف يقترب من الشعر في ومضته المشحونة بالخيال والموسيقى المنبعثة من داخله..لكنه مختلف عنه في الحدث وعنصر الفعل والمحيط مع اضاءة سريعة للحظة المكانية المكتفية بذاتها والمستغنية عن التفاصيل التي تفسدها وهدفها.. والمكتفية بالتقاط الومضة التي تمثل سر دينامية الاشــياء وحــركتـها المرئية باستثمار المنهج الواقعي التأثيري الذي يجر صوب التجريدية..العرض الذهني للاحداث والتي تقدر على ايصال الاحاسيس الداخلية الاكثر صلة بالفضاء اللامحدود..وهذا لم يأت الا بفعل الرؤية المتميزة للاشياء والواقع..لذا كان كاتب القصة القصيرة جدا يحاول اقتناص اللحظات الحياتية ليصورها بعدسته التي تنتج لوحة متماسكة البناء.. واضحة المعالم..مؤثرة التشكيل..كون هذا الجنس يعتمد الدقة والتناسب في اختيار المفردات مع فعل درامي خاطف.. واعتماد عنصر المفاجأة والدهشة في نهاياتها..فكانت عباراتها مكثفة بفعل مشبع بالايحاء..فيها يلجأ القاص الى الشعرية للتعويض عن غياب وحدة التراكم..وهذا يذكرنا بالشاعر محمد الماغوط الذي يتخذ من الومضة الشعرية اسلوبا في بناء قصائده..
هيا ياصديقي..
ثمة غيمة تشبه الرصيف
لتمضي ..
الريح تهب
والاسفلت يرتفع لأجلنا
كاللحاف / المجموعة الكاملة /171
لقد نسج قصاصونا كثيرا في هذا الفن الذي اطلق عليه (الومضة القصصية) او(الوجـدانية) او(قـصة الـومـضة) او (الضربة الخاطفة غير القابلة للتأجيل)..كان في مقدمتهم نوئيل رسام الذي نشر اولى قصصه عام 1930 في جريدة البلاد وجريدة الزمان(وهذا يعني انه سبق الفرنسية (ناتالي ساروت) والامريكي (ارسكين كالدويل) واكثر الظن انه كان متأثرا بالجاحظ فاستوحى ابداعه هذا من فن (الخبر)الذي عرف فيه كما يقول الناقد شجاع العاني..تبعه زكريا تامر ويوسف ادريس وخالد الراوي وابراهيم احمد واحمد خلف الذي يعد اول من توصل الى الصيغة الفنية للمصطلح في مجموعته(نزهة في شوارع مهجورة)1974 اذ نشر في نهايتها خمس قصص قصيرة جدا حملت هذا الاسم..
وحنون مجيد وحسب الله يحي ومحمد سمارة وهيثم بهنامبردى وعلوان السلمان وجبارسهم وحميد الشريفي وكريم الوائلي وكاظم الميزري وعبدالكريم حسن مراد وجابر محمد جابر..
ونتاج المشغل السردي في البصرة من خلال (ذاكرة المقهى) التي عززت من مكانة هذا الجنس الادبي بتقديمها خمس وستون قصة لخمسة عشر قاصا بصريا تمثلوا في..محمد سهيل احمد و قصي الخفاجي ونجاح الجبيلي وعلي عباس مخيف و فرات صالح و كاظم حلاق و محمد عبد حسن و عبدالحليم مهودر و ضياءالجبيلي و نبيل جميل و باسم الشريف و باسم القطراني و مصطفى حميد جاسم و ناصر قـوطي و رمزي حسن..
فكان صدورها لتكميل المسيرة ومحاولة لتجذير هذا الفن..و(ذاكرة المقهى) حققت توصيلها عبر الكلمة التي تسعى الى خلق حركة بوساطة الصور المتتابعة كما يقول فؤاد التكرلي..وبذاأدت لغتها وظيفتها الايحائية التي جاءت متمثلة في الاقتصاد الكلامي..اذ تؤدي كل كلمة دورها الفاعل في الاداء والدلالة كما هو موضح في ادناه ..
الدلالة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــاـــــــــــــــــــــــــــ
المدلول(التصور الذي يذهب الدال (الكلمة المؤلفة
اليه الذهن بمجرد من حروف صوتية
نطق الكلمة ..) متصلة ببعضها..)
ــــــــــــــــــــــــــاــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشار اليه حقيقي مشار اليه خيالي
(الشيء الذي تدل عليه (الشيء الذي تدل عليه
الكلمة ويكون للقاريء به الكلمة ولا يكون للقاريء به
معرفة واقعية حقيقية) معرفة واقعية)
(احرقته الحرب في اتونه لكن زوجته التي عدته مفقودا ما زالت تهيء كل مسرات الليل على فراش الانتظار) ص/76
فالقصة القصيرة جدا تنبثق من عنصر اللغة (الكلمة) بوصفها لفظا مشحون الدلالات في سياق نثري يبذل القاص جهدا استثنائيا في هندسة مفرداتها وبناء عباراتها..كونها شكل تعبيري..بل هي ومضة شعرية متمثلة بحركة ذهنية خاطفة تعبرعن مكنونات الحدث.. وهي عادة تستغرق موقفا واحدا متمثلا بحدث مكثف يرتقي الى وجدان المتلقي فيثيره بشكل مفاجيء يعتمد اصالة وثقافة واستيعاب العصر مع قدرة وموهبة على اقتناص اللحظة:
( أفز من اغفاءة..ألطم بعوضة كانت تحلب بقعة في ساعدي..اهرش احمرار البقعة.. يحرك صاحبي بيدق شطرنج ملاعبا نفسه: كش ملك.. ماذا حدث؟ /ص10
يقول ترنتويل ميسيون ( لعل الاقصوصة من اشد انواع الادب القصصي صعوبة في اتقانه .. انها تطلب صيغة من نوع راق اضافة الى قابلية الابتكار ) فهي تعتمد اللحظة الفنية والعبارة المكثفة لتجتاز المسافة فتدخل دائرة الابداع وتحرك الذاكرة.. وهذا يعني انها فن مضغوط لا يستقيم فيه الاداء بالاسهاب وانما بثراء الكلمة وتركيز العبارة وبالايحاء الذي تنطوي عليه الصور المتتابعة فضلا عن كثافة الحوار كما يقول الناقد ياسين النصير..
( قال لي : لاشيء
قلت : وانت ؟
قال : لاشيء
هرعت امي الى الجهاز ممتعضة حيث انغرزت عينا بورخس في عيني .. ضغطت امي على الزر فشع هائلا ضوء الوجود..) / ص 12
فالقصة القصيرة جدا تمتاز بنزوعها صوب الشعرية .. لذا فهي قصيدة تحكي قصة..اذ يشتركان معا في التعبير عن لحظات شعرية قصيرة..ويختلفان في ان القصيدة تعتمد الايحاء في التأثير بالمتلقي ..
لن احلم بك ياعاشق النخيل
ايها الجنوب لن تكون جنوبا الا مع النخيل / ص88
وقول آخر ..
كان يقف على قدم واحدة..
والاشجار بدت اكثر حزنا وغادرت المكان / ص108
اضافة الى تميزها بالمرونة وكثافة العبارة المحققة لغايتها باقصر الطرق واقل المفردات..كونها بنية متماسكة تمثل وحدة لايمكن التفريط بمكنوناتها التي من خلالها تؤدي بعدا معرفيا وفنيا..فهي لاتتحمل التعدد..لذا فهي تعرض موقفا او فكرة واحدة بتمثيلها قطعا قصيرا في مجرى الحياة..حتى ان القاص يضع الكلمة في اطار السياق الخاص بها لتؤدي وظيفتها المحددة في عمله الادبي كما يرى محمود العبطة..مع عنايتها بالتركيزعلى اللحظة وابتعادها عن السردية المملة والتفصيل والاغراق في الوصف..
(في البلاد الثلجية البعيدة وفي ليلة باردة قاسية لم يجد المهاجر الذي كان الفقر والغربة معطفا او دثارا يقيه من البرد وهو يأوي الى ركنه المألوف لكي يغفو سوى (معطف) غوغول يقرأها فيحس بالدفء ينداح على جسمه وينام ..) /ص27
لقد كانت مساحات القص في( ذاكرة المقهى) تتشكل عبر اختزال وتبسيط مقصود على مستوى الحجم او الشكل او الخطوط مع استثمار الموسيقى الداخلية لبلورة خطابها الجمالي فتأخذنا عبر سواحل الروح حيث تتحول لغتها او خطاباتها الى ضرب موسيقي ينبعث من تشظيات الواقع وتشكل رحلة كل واحد منهم رحلة بلا زمن عدا الزمن الجمالي ..
( احس بالحرارة تدب في جسمه من جديد .. عند ذاك لم يطق الموت الانتظار طويلا فتنهد ورحل ..) / ص124
فالقصاصون يبحثون عن الومضة المسروقة من الطبيعة التي تفصح عن حساسية كل منهم ومدى عنايته بخلق معادل بين الفضاء والرؤية..لايجاد وحدة تجعله يعكس شخصيته ببراعة وهو يصور معالم مملكته وحدودها التي تحتضن الذات والمحيط الخارجي..
(حين دفع الممرض المناوب الجرار ليعيده الى مكانه.. اردت ان اتوسله:رحماك لاتغلق الجرار مرة اخرى..لكن راسي ليس معي .. فمن اين لي بفم اتوسل به ليسمعني الممرض المناوب) / ص43
وناصر قوطي المتكيء على التراث يقول ( ايام عاشوراء حين كنا صغارا لا نملك غير الطواف المضني في الجادات المتربة ..كنا نتسابق ايام العزاء لنضع الدراهم التي سرقناها خلسة من ذوينا في صواني البركات بينما يمسك رجل ضخم الجثة أكفنا الصغيرة ويمرغ راحاتنا في عجينة الحناء ثم يعاود نداءه..
(الفلس بسبعين ياأولادي..الواحد بسبعين)/ص 112
فالحرية الابداعية امتلكها قصاصو (ذاكرة المقهى) متمثلة في رسم مساحات باقل ما يمكن من الالوان .. لذا فلوحاتهم كانت ضرب من التأمل الجمالي للاشياء .. فكان ابداعهم الفني يسير بمستويين : اولهما المستوى الفكري وثانيهما المستوى الكيفي الابداعي .. فالقصص تعيش التجربة وهي منفعلة بها لتحقيق توصيلها عبر الكلمة التي تسعى الى خلق حركة بوساطة الصور المتتابعة كما يقول فؤاد التكرلي..
( بعد اللقاء تملكني احساس غريب باني خروف طبطب احدهم على اليته ثم أزيح جانبا لاختيار خروف آخر ..) ص49
(ذاكرة المقهى) تولي اهتماما خاصا للتكنيك القصصي مع حداثوية تؤطر العمل بالتجديد ..كونها تخاطب الوجدان فتترك اثرها في النفس باستكمالها العمل الفني الابداعي بحرفياته وتقترح على متلقيها ان يتأمل خطوطها وصورها التي تكشف عن معنى انفعالي يخاطب العقل بفعل مهارة المبدع لان بناءه بناء عقلي باستعمال حساسيته وتوزيع عوالمه ..
(لما اراد النهوض لم يستطع..كان مسمرا الى الارض..بصعوبة رفع رأسه ليرى بوضوح ظله عائدا باتجاه المدينة ) / ص 66
فالخطوط المتقاطعة في هذه المجموعة مرنة .. منتشرة بعناية وعفوية بسبب تداخل الكتل ضمن تكوين واحد .. فالاحداث التي هي باعث الحركة والتشويق مع امتلاكها لطبائعها المتمثلة في التعبير عن نفوس الاشخاص كونها متولدة عن حركة داخلية او مولدة لها وتنتظم في حبكة متماسكة.. مترابطة ..تشكل ايحاءات تنقل متلقيها من البصري الى المجرد المختزل من الموضوع المحدد .. لكن ثمة حركة صامتة ..
قال لي صاحبي : ما تقول ؟
فقلت له : ما بعد العين .. ما يقال
وهكذا حدث الامر / ص81
وقول آخر ..
( يعتريه دوار مفاجيء جعل البحر ضفافا والضفاف بحرا في عينيه.. ينزلق .. ينزلق.. ينز..والاشرعة لاترى الآن ) / ص 107
(ذاكرة المقهى)تختار الغوص العميق في المناطق المجهولة من النفس لتحقيق اصالة الرؤيا بتأمل الواقع واحداثه عبر آلية الادراك الحسي ..
لقد قيل مرة ان الشعر(حكاية عقل يغفو..وحاضر يموت..على نغم يرف هناك..حكاية اتساع الحياة في مواكب من الضوء والاخيلة والاحلام والعاطفة ..) وهذا يصدق على (ذاكرة المقهى) الذي يشكل بعدا من ابعاد الحياة ويسير في تمردها وانسانيتها..كونها قصص مشحونة بعواطف صادقة .. فالكلمات فيها تتفاعل مع انفعالات القصاصين الوجدانية والنفسية ..
—
شكراً للناقد المبدع علوان السلمان على هذه القراءة النقدية لكتاب ذاكرة المقهى الذي يضم قصصاً قصيرة جداً لعدد من قصاصي البصرة