مرّة أخرى يدهشنا الشّاعر البحريني علي السّتراوي بحالته الشّعريّة في ديوانه “على راحة قلبي” الذي يقدّم فيه أنموذجاً شعريّاً ذا نكهة خاصّة نحو تكوين تصوّر خاصّ لتصويف العشق من منطلق إحساسه وفكره وتجريده الفلسفيّ لمعاني الحبّ ليقدّم لنا مقولته الخاصّة في الحبّ،ليكون ديوانه بذلك منذ عتبة عنوانه هو مفتاح للدّخول إلى عوالم العشق في نفس علي السّتراوي.
وأوّل تكوين لهذا العشق الصّوفيّ قائم على حالة نقاء وصفاء وتقبّل كامل للآخر،إذ يقول:
“ولعلّك عرفت حدود شغفي
لعلك رضيتِ بسمائي دون زيفٍ
وحول دارنا التحفت نبضي “(1)
والعشق عند السّتراوي يصوغ حالته الصّوفيّة الخاصّة من علاقته بالمكان والماضي والذّكريات،ويكتسب الطّهارة والتّقديس بمقدار رصيده الإيجابيّ في وجدان الشّاعر،فلا غرو أن نجده يخلع على والده وعلى نخلة بيته خُلعاً صوفيّة،فيقول:
” كان لأبي سرّ العارفين به
وكان لنخلتنا الواقفة في حوش بيتنا القديم
حكاية الجموع”(2)
وعندما يخلص السّتراوي لهذه الحالة العاشقة يصبح ذاتاً ينشغل الوجود بها،كما ينشغل الوجود بعوالمه ورؤاه :
” ينشغل بي مالم أدركه من الكائنات
وأنا أعالج عافيتي
أدخل في حيزوم الحروف
أنتقيك من بين وجع الحروف
مينائي الذي أستريح على هدوئه”(3)
ويشرع حينئذٍ يفيض بطقوسه الصّوفيّة:
“من خارطة الرّوح تفيض الرّؤى
ومنك أيّتها الخارجة من الجسد الأرض
يقظة السّاحرات ترقب الوقت
ولغة العصافير يذبحها الوقت
أدري أنّك على حافّة السّكين تعالجين الضّوء
وأنّك على صارية السّفن تنشرين ثوبك المطرّز
أحباب الدّار مساحتهم سعة النّبض
وأفراحهم أهازيج المدينة”(4)
وله لغة خاصّة في التّلقي والتّأويل وإعادة إنتاج الرّؤية:
” ولي في ذاكرة الصّكوك
صكّ قد ختم النّبض بالشّوق
فكنّا معاً لغة أخرى لتأويل الأحاديث
وأسرار المدينة!”(5)
وكما للصّوفي أسئلته القلقة وإجاباته الملغزة،فلعلي السّتراوي أسئلته القلقة،إذ يتجلّى لنا في هذا الدّيوان صوفيّاً عتيداً يغرق في عتمة الإجابات:
” فما عادت لنا أجوبة
سقط البوح في الصّمت.فما عدنا كما كنّا”(6)
وذلك في زمن دائريّ مغلق لا انفلات فيه،ولا خروج منه،ومحرّكه الأوحد هو العشق الذي يمدّ الصّوفيّ بوجوده ومعنى فكره وتوالد فكره وطاقاته:
” ينشغل الوقت بالوقت
والشّوق بالشّوق
وينام القطا على سلّم النّبض”(7)
وكما هو العشق باعث الصّوفيّة،فهو محرّك علي السّتراوي لينضوي تحت لوائه،فيكفر بالأقاويل جميعها،ويؤمن بشيء واحد،وهو الحبّ،ولا شيء غيره:
“لن أقول :ما قالته القبيلة
ولن أنطوي في الوله الخوف
سأنتظر النّجم
وسأسافر في عينيك رسالة
لأنّي أحبّكِ
وليس لي في سواك نبضٍ”(8)
وهو بذلك يعلن صراحة أنّ هذا العشق هو شوقه المقيم فيه:
” يشغلني الشّوق
لكنّني لن أغادر” (9)
وهذا العشق هو ما يمدّ السّتراوي بمفردات وجوده ومبرّرات حياته،ويملي عليه طقوس حبّه،ويقوده إلى أن يدخل طقساً خاصّاً من طقوس صوفيته الخاصّة،حيث هو طقس”الدّهشة” بكلّ ما تحمله من معاني وتأويلات وتوليدات وإشارات:
” هو الحنوّ في مرابعه نتعلّم الهمس
وعلى عتباته نقرأ الشّعر
حيث ينحدر من أعلى شجرة في البيت
نحو سرب الحمام
نحو قطر الأرض الدّامي
ونحو عرس فضولي الحنين
كلما انشغل القلب به
انشغلنا معاً في خارطة الدّهشة”(10)
بل هذا العشق هو من يهبه فضيلة الجدال واقتراف الجماليات جميعها:”أفتح نافذة تلو أخرى أقلّب حروفاً عصريّة الوقت
ومع “ابن عربيّ”
أجادل النّهارات
أصلي جهة بغداد
وأهمس للشّرق بصحوة الورد
يدي بإبرة المداد تسيح” (11)
والانشغال بالفكرة والعمل هو ما يعطي شعر السّتراوي ديمومة القلق والحياة والتّطلع،ويدخل به إلى صوفيّة الفكر والعمل هي الانشغال والإخلاص له والانطلاق منه إليه،وهذا الانشغال عند السّتراوي يأخذ صورة الوعي الإنسانيّ بمأساة الإنسان ومعاناته،ولا ينطلق نحو أفق ما وراء الحدث،بل هو جنين الحدث ومعطاه الأوحد:
” مشغول بالمدينة الفاضلة
بوجع الأمّهات
بكدح الرّجال
وبطفولة مشرّدة
مشغول بالنّهار الموحش
وبالصّباحات المنتمية للشّجر”( 12)
وهو يدغم حالة القلق الوجوديّ الجمع بحالة العشق الذي يتلبّس روحه إذ يقول:
” تسكننا وحشة الخوف
فتكونين أنتِ الشّاردة من الحزن
القادمة على ساعدين مطهمين بالرّكض
هنا موقع الجدل
هنا يكتحل المداد بالمطر”(13)
…
ونهار تفتّق الجروح نحو المكتظين بالأسئلة
كذا سيدتي ينكشف الجوع
ونضيع في انشغالات الصّمت!”(14)
ويصمّم السّتراوي على أن يصنع من حبّه حالة عشقه الصّوفيّ،إذ يغدو هذا الحبّ هو الانشغال الحقيقي الذي يملك وجوده وحواسه،ويحرّك فعله وقراره:
” لم أكن
ولم تكوني
لكّنه النّهار ينشغل بك
يحملني على راحة قلبي
وفي مسامات عينيك
عبر انشغالات لا تهدأ”(15)
وهذا الحبّ هو الاختيار الأعظم في نفس الشّاعر،فهو صوره لإرادته وفعله الذّاتي بعيداً عن الجبريّة أو القدريّة:
” معاً نحتار في جهاتنا الأخرى
معاً ننشغل بالحبّ” (16)
وهذا الانشغال الاختياري هو ما يخلق حالة الانعتاق من القلق والخوف إذ يقول:
“ينطوي القلي على حصيرة
وينطوي نهاري بك
فلم تغادر الروح سماءها
بل غادرتنا لحظات القلق
هنا سكن القلب”(17)
وإن كان الانشغال هو الفعل الصّوفيّ الخالص عند السّتراوي،فهو يجعل من اللّغة أداة لهذا الفعل،وهو يخصّ اللّغة الشّعريّة بهذا الأمر:
” الشّعر يا سيدتي نافذتنا الباقية
والحديث عن فضّة الشّعر
بكارة الخوف في الذّاكرة العربيّة”(18)
وهو يقول كذلك:” لتسكنّا وهج اللّغة
ولتسكننا ملائكة الظّل
لعلّنا في خولتنا نفجّر الدّار بالمطر”(19)
والحبيبة هي من تصبح معادلاً موضعيّاً للغة والفعل عند السّتراوي:
” أنت لغة ظلّي
وأوّل صباح العصافير
حينما ينام النّاس تلدين العافية”(20)
في حين تصبح اللّغة هي أداة الاعتراف والتّكفير في آن :
” وقد تكون قصائدنا شاهد على زلتنا
لكنّنا نلتحف وجه القاضي بعلو قامتنا
نقوله ما لم يقله الصّمت”(21)
ويقفل السّتراوي ديوانه بتراتيل العشق الصّوفيّ الذي لا يعرف نفاداً،إذ يقول:
“وتضيق بي السّبل
أحملك زوادتي الأخرى
ونحو بلاد الله أشرع صدري للبرق
امرأة في سلالمها يلد الحلم
وفي حنّيتها تهدأ الرّوح”(22)
ويصرخ فينا وفي الأزمان معلناً أنّه يحتاج حبيبته:” أحتاجك
يختلط البوح بالخوف
والحكايات بالصّمت
أحتاجك وكفى”(23)
وتتلخّص الحياة والأفعال والفكر والأزمان في حبيبته التي تشاركه اللّغة في شقاء مكابدة ألمه من فراقها:” هكذا تحيّرني القصيدة
وتظلّ أشياؤك
تشاغب مكتبي بصريرها الحنون
هكذا أعرفك
وطن
يهجع على بحره الصّمت”(24)
وهو يدرك تماماً أنّ المرأة التي يعشقها تعرف مقدار تيمه بها:
” هي تعلم
أنّني كالفراشة يقودني الضّوء نحو النّار
لكنّها تتجاسر في وحشتها
تنوس على شجرة الرّيح
تغلق دوني
ما لقلبي من صرير”(25)
ولذلك يحرّضها على أن تنطلق معه في لعبة الحبّ:
“شرّعي قلبك للرّيح مرّة أخرى
الفضاء أوسع من أن يضيق بنا”(26)
وهو من يرى فيها عالم من الحبّ:” قلبك دالية من جمال الفردوس
يخطو مثقلاً بالحنين
له الحبّ
والشّوق المجازف”(27)
ويسمو بالاعتراف بوجعه وألمه:
” وأنا المفضوح بوجعي
أهدد البكاء
أمسح على شعر حاضنتي
أغفو
وفي لعبة الصّغار أتدحرج بهمّي
بيتي في المرايا طائر يرتّب الأشياء”(28)
مقولة الحبّ وذاكرة السّرد:
يزاوج السّتراوي بين مقولته في الحبّ وبين أداء شعري يركن إلى السّرد القصصي ليؤثث عوالم تشكيل مقولته،ويربط تجربته الخاصّة ومكابداته الذّاتيّة بتكوينه الشّعريّ لمقولة الحبّ،وهو بذلك ينطلق من يقين العشق ليكون أرضاً لسرده الشّعريّ،فالقصّة عنده تبدأ حيث وُلد الحبّ إذ يقول :
“معاذ الله
ما كان للشّكّ ظلّ
وما كنت تلعبين النّرد في شغف الشّهب
أحببتك
وتركت للآخرين ما حولي”(29)
وهذه القصّة تتسع لتصبح حالة وجوديّة لا مجرّد حكاية حبّ بين رجل وامرأة؛فالعشق عند السّتراوي يتسع ليصبح ذاكرة تستحضر الماضي والأهل وبيت العائلة حتى أنّها تستحضر الكبد والمعاناة لتكوّن مجموعاً كاملاً من العشق الذي لا يغادر قلبه،ويقفز بين الماضي إلى الحاضر ليملك عليه مشاعره وأحاسيسه ووجدانه:
” والماء يكره أن يغسل خطيئتنا
ويعطي ما لجدّي لجدّي
وما لأبي للآخرين
كتاب يشغلنا الحبّ فيه
لكنّنا نعجز أن نغادر عتبة البيت
نستأنس الظّمأ
ويضنّ الشّتاء
محتبساً بالمطر
آه لدارٍ لم يغادرها الزّائرون” (30)
فيتأتّى له عندئذٍ أن يشكّل أبجديات مقولته في الحبّ،أو يمطرنا بمقولته إن جاز التّعبير.وأوّل مقولاته في الحبّ أنّ حبيبته هي فرحته وفرحه للكون كلّه،وهي من تصنع التيه اللذيذ :
” وأنت فرح الفراشات
حينما أحاول الإمساك بها
أتيه”(31)
بل هي في نظره مالكة المستحيل؛إذ النّهار بين راحتيها :
“النّهار بين راحتيكِ
صباح الطّيور العاشقة
فدعيني أنقر النّبض
لأنّ عينيك وطنٌ
أحبّ ألمه!”(32)
وهذا التّشكيل الصّوفي عند السّتراوي هو من يخرجه من تيه الوحدة،ويقوده نحو كنه الجدل الذي يلخّص حالة الانعتاق من العزلة،ويفسّر الدّخول في حالة الاندغام مع العشق :”
كنتُ وحدي
أحايل الخوف
أفترش مرآة مقعرة الاضطراب
أبحث عن حصيرة النّبض
ومع الجمع
أظلّل الشّمس بالبهجة والعنفوان ” (33)
ومرّة أخرى يقدّم السّتراوي مقولته بالحبّ مشبعة بتفاصيل الحياة إذ يقول:”
أعرف أنّ الوطن حينما يسكن الشّوق تفيض المقل
وأعرف أنّ الدّار حينما تضيق بأهلها يتوحّش القلب
وأعرف أنّ ما لبيت العنكبوت من خيوط أوهنها صعب
أعرف أنّك لم تهادني الخوف،ولم تتركي باحة الدّار
أعرف كلّ هذا الحبّ
لكنّني أصمت لحظة العشق”(34)
فمقولات الحياة كلّها تصبّ في عُرف السّتراوي في مقولة الحبّ الكبرى التي تذكي نار الحقيقة والقلق في نفسه في آن،ليصل إلى حقيقته الكبرى إذ يقول:
” امرأة من نار
تسمو بذاكرة النّهار
حينما ينحدر القلق”(35)
وهي من تهبه يقينه كلّه:
” أوّل كتاب العرّافين بمواطن الحنين
علّمتنا
أنّ عتبات السّلم الأولي
بدء أوّل النّهارات
آخر المتسولين عند اشتداد العواصف
وعند أوّل خصام
يخرجنا من العتبة
كانت هي!”(36)
إنّ العشق هو من يخلق حالة الاندغام في الآخر،ويطلق روحهما للحريّة و الحياة:
“تكونين أنتِ
أو أكون أنا
أو نكون نحن في الجهات الواسعة
هكذا هي صورتنا
وهكذا تمرّ عجلات البرق في الجسد
فمن يعرف الشّوق
يعرف من أين تبدأ لعبتنا القادمة
وفي أيّ الجهات تهذي”(37)
الإحالات:
1- علي الستراوي:على راحة قلبي(ديوان شعري)،ط1،وزارة الإعلام،مملكة البحرين،الانتشار العربيّ،بيروت،لبنان،2008،ص9.
2- نفسه:ص11.
3- نفسه:ص13.
4- نفسه:ص17.
5- نفسه:ص18.
6- نفسه:ص23.
7- نفسه:ص23.
8- نفسه:ص24.
9- نفسه:ص25.
10- نفسه:ص28.
11- نفسه:ص31.
12- نفسه:34.
13- نفسه:ص36.
14- نفسه:ص37.
15- نفسه:ص39.
16- نفسه:ص40.
17- نفسه:ص41.
18- نفسه:40.
19- نفسه:ص41.
20- نفسه:ص57.
21- نفسه:ص47.
22- نفسه:ص49.
23- نفسه:ص50.
24- نفسه:ص51.
25- نفسه:ص55.
26- نفسه:ص56.
27- نفسه:ص60.
28- نفسه:ص63.
29- نفسه:ص9.
30- نفسه:ص30.
31- نفسه:ص14.
32- نفسه:ص15.
33- نفسه:ص31.
34- نفسه:ص45.
35- نفسه:ص46.
36- نفسه:ص62.
37- نفسه:ص65.
—