هي رواية الاقتصاد السردي المشوّق ..تتحاضن اصابع القارىء ودفتيّ المطبوع أو تغوص عيناه في زجاج الحاسوب لتنتقل مع (سالم) الذي لم يسلّم في حياته القصيرة العسيرة ،انتزعته المرأة العمة من المرأة الامومة ،على مرأى أبوة لاحول لها ولاقوة ،لااستراحة للقراءة مع هذه الرواية، لأن القارىء فيها من الزاهدين ،فهو منشغل ٌ بالتجسير بين السرديين اللذيذين ..
(*)
تجنيسيا تنتسب ( المرأة والقطة )للروايات القصيرة وهذا الجنس يتجاور مع القصة الطويلة ولايحسب عليها ومابين الجنسين كالتطعيم بالبراعم بين الاشجار وهكذا تأخذ الرواية من القصة جملتها المكثفة ولحظوية الزمن واختزال (سيفي) الشخوص كما تأخذ من الرواية سعة ابعادها ، كما هو الحال في كل روايات مرغريت دوراس ،وروايات اسماعيل فهد اسماعيل : (كانت السماء زرقاء، المستنفعات الضوئية،الحبل،الضفاف الاخرى ،ملف الحادثة 67، الشياح، خطوة في الحلم،بعيدا الى هنا، الكائن الظل، مسك.)وكذلك في رواية (وصف الماضي) للروائي غسان زقطان وفي روايتيّ يحيى يخلف (نجران تحت الصفر) و(تفاح المجانين ) ورواية ضياء الشرقاوي (الحديقة) ورواية الشاعرة فليحة حسن (نمش ماي) والروائي الافغاني عتيق رحيمي في روايتيّ (ألف منزل للحلم والرعب) (حجر الصبر) وغيرذلك ..
(*)
تجري أحداث الرواية في الكويت ، لكن دون تحديد الحقبة التاريخية.والرواية ليست بوليسية ،رغم اشتغالها على جريمة قتل ملتبسة مما جعل النص في النهاية يوجه دعوة مفتوحة لمشاركة القارىء في كتابة تقريره الخاص عن قاتل (حصة ) زوجة سالم ..
(*)
ثمة تجاور بين زمن سرد الحكاية روائيا وزمن قراءة الرواية ، فهي رواية يمكن قراءتها في جلسة واحدة ، فإيقاع الرواية ينماز بسرعة سيرورته وأشتغاله على الكتابة بالحذف والايجاز والانتقال السريع أحيانا من السرد بضمير المتكلم الى السرد بضمير الغائب ..فهي رواية صوتية ، أعني خلوها من التوصيف واقتصارها تقريبا على المناوبة السردية ، حيث يتناوب السرد :
*صوت المتكلم
* صوت الغائب
وكلاهما يتدفقان في فضاء مغلق، يتوزع بين البيت الفقير – السجن – المستشفى.
وهناك السرد الجواني الذي يتدفق في ذاكرة سالم من محبرة الابر المهدئة في المستشفى ..
*وسرد حصة المشار إليه سريعا ..(أقص لك قصة ؟/ 56) وهذا السرد محاولة تعويضية عن سرد الام قبل تطليقها ..
*الشخصية الرئيسة : هي العمة : شخصية مطلقة مستبدة في سردها لحيوات الآخرين ، فهي التي سردت حياة أخيها وتسبب في تطليق زواجاته الثلاثة
*سردت حياة سالم وفق قناعتها هي وقد جردت الأب من حق الابوة مع ولده سالم وارغمته على التطليق كلما تزوج من امرأة..وأرغمت الاب ايضا على انتزاع ولده الوحيد من المدرسة ..
(*)
شخصية العمة : شخصية مركزانية ،من قبضتها ينبجس نحول بقية الشخصيات : الاب/ الابن / حصة / زوجات الاب / وبالطريقة هذه تصنّع العمة هذه المخلوقات وفق جرحها النرجسي المحذوف من السرد..هل يمكن لملمة شظايا المحذوف من خلال بعض الوحدات السردية؟ ألا يكشف ماجرى بين القطة (دانة) والهر ؟ إذن العمة تصنّع هذه المخلوقات وفق تشنجات سلوكها الشخصي فهي التي قررت ان يتزوج سالم وهي التي اختارت حصة زوجة لسالم ،.وهذه العمة ميتة مرتين :فهي ميتة في حياتها وميتة في السرد لكن من ميتتها تتدفق حياة سرد الرواية !!.فالعمة لاتشارك بالسرد ..لكنها نواة ثمرة الرواية ،إمرأة لاتجيد الكلام بل البطش ،هي المرأة العنكبوت وبشهادة السارد العليم (هل كانا يعيشان السعادة حقا؟ هل تكون السعادة الحقيقية مكتملة وهما يخافان حتى على الضحكة ان تصل آخر الليل الى سمع العمة؟) وهذه المرأة لاتجيد من الكلام سوى افعال الأمر، توجهها الى : اخيها والد سالم / سالم / حصة / المطلقة الثالثة ..حسب هذيانات سالم وهو تحت تأثير الابر المهدئة في المستشفى (عمتي الشريرة التي حرمتني وجه أمي . كرهت وجه دانة .حرمتني منه ، ثم كرهت وجهك ياحصة .كرهت ان يسكب السلوى والحب في حياتي../34)..الأب أعني والد سالم لاوجود له في الوجود فهو محض وعاء تسكب فيه العمة ظلها المعتم ..الأب أخصته العمة اجتماعيا ،فهو لايسرد حياته إلاّ وفق أمالي أخته / عمة سالم ،فبأمر منها تم تطليق زوجاته الثلاثة وهي التي قررت سردت حياة ابنه سالم : انتزعته من امه وحرمتها من زيارته ،ثم قررت ان يترك المدرسة ويعمل في الدكان مع ابيه ، وضمن اساءة التأويل، يبدو ان العمة تعرضت هي شخصيا الى سردية قسرية في حياتها فقررت ان تثأر لحياتها بمزاج جرحها النرجسي. لكن سالم سيكسر نسق البيت وهو يواجه عمته من خلال محاورتهما التي تأمره العمة ان يطلّق زوجته حصة .
( – طلقها
– أحبها ، ما أطلقها
– أبوك طلّق أمك . المفروض ان تقتلها
– مثل ماقتلت ِ دانة
– هذه فاسقة
– شحن صوته بالحقد .قذفه في وجهها – : لاأحد كثرك فاسق بنيّاته
صرخت في وجهه : ماتخجل من نفسك ؟ طلعت لك أظافر
– وستطولك..
تركها مفجوعة بتهديده .)
بسب هذه المجابهة الكلامية ، سيتخلخل فضاء البيت وقتيا، بل سيتسع لصالح الجيل الكويتي الجديد أعني : سالم وزوجته حصة . من يومها (تحاشته عمته ُ.تجاهلت وجود حصة ،أسعده ضعفها أمامه ،لم تعد تجرؤ اصدار الاوامر له ، ولابتكليف حصة في اعمال البيت المرهقة ،وان خرج الى الحوش تفر من وجهه كمن يفر من عاصفة .شعر بالقوة والانتصار أخيرا استطاع ان يقلّم أظافر عمته التي أكلت لحم طفولته .ان يكسر بأسها كما كسرت قلبه يوم أبعدت أمه ودانة من البيت ..)
(*)
بنية التخلف: سرديتها من الثوابت المغلقة ومن الانغلاق ينبجس الجهل ليتلطخ بسرد الشك الدمائي.. هذه البنية لاتتحمل الاستثناء ولاتستوعبه بوعي جنسي صحيح وبمؤثرية تلك البنية ،لايكون سوء الظن من الفطن بل من الجهل المدّمر بلا حدود ..هاهو هو سالم يرّكب سردا متسقا بجهله حول حمل زوجته حصة، كيف حملت وهو لم يفتضها طوال هذه المدة القصيرة / الطويلة بعذاباتها ،وهذا الشك القاهر ؟ كيف يسكته ؟ كيف يرتاح منه ؟ (هل يسأل حصة لم يجرؤ) ..لكن اضطر وسأل أمه وهو يتعثر بخجله فعرف منها امكانية الحمل ، بنفاذ عصير فحولته الى مستقره في زوجته حصة ..
(*)
يبدأ السرد بكاميرا محمولة على كتف السارد العليم (السكون يخيّم على المكان ،ظلال النافذة المحكّمة بشبك الحديد تسقط حيث زاوية الفراش فتنتشر زخارفها فوق الوسادة وعلى الاشياء الموضوعة فوق الطاولة. كوب ماء من البلاستيك ،قطعة شاش ومناديل ، علبة شوكولاتة، صحن فاكهة بلا سكين وأشياء أخرى صغيرة مبعثرة..) ..تلتقط قراءتي (ظلال النافذة المحكمّة ..) فهذه الظلال ستقدم سردا إيمائيا بالغ الجودة لما يعتمل به الفضاء المغلق ، كأن زخرفها نسيج شبكة صيد ،وسق موجودات الحيز كلها..والتركيز الوجيز على المكان ، بمثابة فعل اندراجي سينتقل من المكان الى المكين، في الوحدة السردية التالية ..(هو على السرير رافعا ركبتيه متكئا عليهما بذراعين تسندان رأسه الملقى بكسل ٍ. وجهه ساهم، بضع قطرات من عرق ودموع تلتمع على وجنتيه وشفتيه المصفرتين )..وهنا المظهر البراني : علامة جوانية ، إنها جلسة المغلوب / المخذول .وهذه الجلسة بمثابة سرد ساكن …وسيكون هذا المفتتح السينمي هو نهاية الحدث الروائي ثم يبدأ السرد ليس مثل حركة الدراجة الهوائية بل مثل حركة المشط في شعر الرأس …
(*)
هندسة الرواية ليست مقسمّة الى فصول مرّقمة أو ذات عنوانات فرعية ،كما فعلت المؤلفة (خذها لااريدها) ..في (المرأة والقطة) نكون ازاء نقلات سريعة من ضمير المتكلم الى ضمير الغائب وهذا يعني نحن امام الذات الانسانية نفسها ببعديها :الجواني/ البراني ..والسرد بضمير الأنا (ربط ترهيني أساسي في الرواية) من أجل معرفة من قاتل حصة ؟ ليس بالنسبة للمحامي فقط بل للقارىء ايضا وفي مرة واحدة يتحول ضمير المتكلم من المفرد الى المثنى ، وتحديدا تلك اللحظات التي يكونان لوحدهما في البيت : سالم وحصة .ومن خلال هذه الحرية البيتية والمعلومة التي غذته بها امه ، سيدخل سالم صيرورة جديدة (صارت حصة له، فارسها الشجاع فاتح القلعة العذراء)..وهنا ينبثق سؤال القارىء وفق اسباب الاقناع الروائي، ان البيئة الكويتية لاتختلف عن بيئتنا العراقية على سبيل المثال فليلة العرس الكل ينتظر ،،نيشان ،، ليلة الدخلة لإشهار فحولة العريس وعذرية العروس ..وحسب هوسة عراقية (جبنالك برونو ما ملعوب ابسركيها) ،فالعروس هنا بندقية من طراز برنو، بندقية جديدة ، بندقية عذراء..هذا الامر محذوف في الرواية !! لا العمة المتسلطة سألت ابن اخيها ولا والده ؟! عن النيشان : المنديل المدمى !!
(*)
ثمة تراسل مرآوي بين القطة (دانة) وأم سالم المغيبّة من حياته ..(كان وجه دانة هو الوجه الذي أحببته بعد ان غاب وجه أمي .صارت هي سلوتي ،ومؤنسي ،لم تكن العوض عن أمي .لكنها كانت مصدرا لفرحي .حين أسمع أنفاسها أحس ُ أنفاس أمي تدفىء وجهي وعندما تموء أتذكر حزاوي أمي وكلامها الحنون ../33)
(*)
سيكون التراسل الثاني ، ثلاثي الابعاد ..وتحديدا حين تشجعه زوجته حصة على فعل الحب ..(فيقترب وشرارات جسده ملتهبة لكن انطفاؤها يأتي في لحظة يشعر ،وكأن سيفا حاداً يضرب ظهره .تغيم عيناه وينتشر الظلام .تغيب رائحة حصة المنعشة ،تفوح رائحة دانة ورذاذ الهر وصرخة عمته ../ 57)..وهكذا فقد قامت العمة بفعلتين : انقضت بعصاها على الحيوانين وهما يتجانسان !! والظهر الثالث الذي انقضت عليه عصا العمة بشكل ايحائي هو ظهر سالم ..
(*)
…والثالث في تلك الليلة ..(تحسس مكان حصة في الفراش لم يجدها أنتفض .نادها باسمها هامسا لم ترد .عربد الخوف في قلبه .تذكر غياب دانة في تلك الليلة الشتائية ) وحصة التقطت هذا التراسل (صورة دانة في سواد عينيه /59) لذا خاطبته (أنا مو قطوة تخاف عليّ)..
(*)
هذه الرواية لها قفزة الكنغر في تجربة الروائية الكويتية ليلى العثمان ،التي عرفناها قاصة وروائية ذات وعي حداثي في التعامل مع الحياة والكتابة ..
*ليلى العثمان / المرأة والقطة/ الدار العربية للعلوم / ناشرون / ط1/ 2010/ بيروت
—