منسية حتى الآونة باستثناء مواعيد ظرفية يكثر فيها الهرج الاعلامي الرسمي وتنتعش رقصة “العلاوي” المليئة بإيحاءات لم يفهمها مستغلوها بعد ، ولو تمعنوا فيها صادقين لاستنباط مقاصدها الدقيقة التعبير عن مواقف تارك بها السلف الصالح في مدينة زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر زعيم قبيلة مغراوة من أمازيغ زناتة قيم الانتفاضة المباركة في مواجهة شُجاعة ضد متزعمي القهر والتسلط وقلة الحياء و الفساد ، لتركوها وشأنها وما فكروا أصلا في تخطيطاتهم الهادفة لتبديد رموز مراحل كان المغرب الدولة يقيم للمغاربة خالص المودة ويبسط العدل والإنصاف في البلاد .
… ترفض المجرمين إن حَلُّوا فوق تربتها ، بل تلاحقهم حتى ينالوا جزاءهم دون تفريط في محاكمة شعبية يتوحد من خلالها المطالبون بالقصاص وفق الشريعة والقوانين منذ قرون تعاقب عليها أصناف بررة من العباد، أما الآن فالحديث مسهب والحزم غائب حتى اختلط ورق العنب بشوك الصبار وصب البحر في الوادي، لتصل الأخلاق ذاك المنحدر، المُشوّه لتاريخ تلك الديار، المُشَيَّدَة بعرق الأخيار، لتكون معلمة الهوية المغربية النقية النائية هيبتها عن أي استهتار، انطلاقا من هذا المضمار، اعتقل فيها “سليمان الشماخ” قاتل إدريس الأكبر ، المبعوث من طرف حكام العباسيين في العراق لدس السم له انتقاما مجانيا عن اختياره الفرار ، من شام حكام الأمويين المصابين آنذاك بكارثة الانهيار. الأمثلة محملة بها فصول عشرات الأسفار ، كتب ثمينة لتغييبها لقبت بصفراء الاصفرار، شأنها شأن الشاهدة على إقدام الشعب المغربي أسمى مغوار ، في الوقوف متى أحس أنه مهان في كرامته يوقد في عقول طلائعه الأنوار، ليشعلوها أصالة عنه أقوى نار .
مدينة وجدة من دخلها طالباً الرزق الحلال مدت أذرعها لتحتضنه بافتخار ، دون أن يحس أول الأمر، لكن مع الأيام يقتنع “أن المُجِدَّ وَأجِدٌ في وَجْدَة نُبلَ الجَدَّة ليُعِدَّ العُدَّة مهما الزمان به امتدّ” ليصبح على الفاقة وعدم الادراك لمكامن توفير حاجيات الحياة الشريفة قد حقق الانتصار . حدثني حي “بودير” حينما زرت الحبيبة وجدة عما حل ببعض الأسماء التي عرفت أصحابها أواخر ستينيات القرن الماضي بفعل الزمن الغادر ، فتيقنت أن باقة أرقي الأسر ، تتناقص فيها الأزهار ، لتعم بعض أطراف المدينة الشامخة بأناسها ما يعرض الشهامة والمصداقية والكرم لمتاعب حداثة لا تقيم للأصيل موقع تقدم أو ازدهار ، معتمدة على رضا غرب يضحك علينا بها ليستعمرنا هذه المرة بما ابتدعه للغاية من أفكار .
الرئيس الجزائري الراحل عاش واشتغل بها ردحا من الزمان لما كان رجلا عاديا يقتات من عرق جبينه ، وظل مفتخرا بتلك المرحلة التي قاسم فيها الوجديين “الكسرة” و”الكليلة” و”كران”وتذوق ملح المغرب فطابت له العشرة حيث استقر والقدر يهيئه ليلعب دور الزعيم المدبر بحزم شؤون بلاده التي حاول من سبقه لنفس الزعامة أحمد بنبلة أن يلحقها قلبا وقالبا بقومية جمال عبد الناصر قائد الأمة العربية بلا منازع ، محافظا بذلك على الشخصية الجزائرية الأصيلة أصالة الأشياء الجميلة التي تؤثر ولا تتأثر تتكيف مع أي محيط لكنها لا تتغير من حيث الجوهر لدرجة أن الجزائري متى نطق لا يحتاج ليقدم بطاقته الوطنية ، ترى على قسمات محياه أجزاء من وهران وسيدي بلعباس واسطيف وعنابة وبيوقبة في العاصمة ، و وجدة أول مدينة مغربية طلبت ولا زالت أن يبقى الجزائري جزائريا متمتعا بحريته كاملة متضامنة مع أعرافه وعاداته مادام يقابل الحسنى بالحسنى وكرم الضيافة بأصدق احترام ، بل تذهب للتعامل مع المنتوجات التي يستحضرها بكيفية أو أخرى بأفضلية لها مغزاها الدالة على التضامن في التكافل الشعبي المشترك بعيدا عن المواقف السياسية لحكام كلتا البلدين المتلاصقين جغرافيا ، الدولة المغربية على علم بكل ما يحدث أولا بأول ولا تتدخل إلا لفرض هيبتها والدفاع عمن ائتمنت على تركه ترفرف فوق مساحاته المعروفة شبرا شبرا الراية المغربية رمز السيادة الوطنية غير القابل للمس مهما كانت الظروف أو العوامل ، وصلة بالموضوع ثمة خط بمنعرجات لا تحصى يربط “السعيدية” ب “بني ونيف” أجزاء منه صحراوي السمات وأخرى جبلي الصفات ، بين ضفتيه جنسيتين وعلمين يتشابكان سلما ويتعانقان عاطفة مع التأكيد أن كليهما لا يرغبان (لا يومه ولا غدا) في أي اصطدام مهما كان صغيرا لا يذكر ، وهنا يتجلى حس تربية وجدية التي استطاع فرض التعايش مع الوضعية اللاعادية المؤجلة باستمرار منذ عقود أربعة حتى يحين التوقيت الموعود من لدن عقلاء الدولتين لتعود المياه إلى مجراها القويم المستقيم ، ويُنزع العوسج المغطي القناة الصغيرة الفارقة بين ضفتي “زوج بغال” المنفذ الرسمي ولوجا وخروجا بين المغرب والجزائر .
مرة سألتُ وأنا في مكان يُدعى “بوقلقال” ب “الضَّهِرَة ” وهي عبارة عن تجمع خيام ذي خاصيات معينة مضروبة حيثما وُجِِدَ كلآ الماشية و قُرْبُ ما يكفى من مياه شرب الإنسان والحيوان الأليف أو غيره معا ، ورائحة “الشيح” تعطر أجواء تلك البقع ألأرضية المكسوة بكثبان رملية تشعر بالعلياء وما يسطع فيها من نجوم قريبة منها ، تكاد تلمس البسيطة لتحولها خضراء بغير فصل الربيع ، والقوم الرحّل صعب التمييز بينهم إن كانوا جزائريين أو مغاربة ، سألت : أين تبتدئ الحدود المغربية وأين تنتهي الجزائرية ، أجابني الحكيم فيهم ، نحن أدرى بها جيدا وأنت معنا أستاذ منيغ وإن صمتنا كما يصمتون فنحن منهم وهم منا ، نربي الشياه والجمال ونتبادل في التجارة المال راضين بالحال منتظرين أفضل مآل ، نشتكي همومنا لكبرائنا في السن المنحدرين من سلالة الشرف في كلتا المنطقتين وكل مخلص لجذوره وفي لارتباطاته حارس بالصبر والتراضي أحيانا على مصالحه ، متى تضايقنا اجتمعنا في وجدة أو للامغنية وعدنا بإصرار مواصلة التآخي مع عدم التراخي ، بأسلوب يقارب يقظتنا من الذئاب المتربصة تكون بأغنامنا أساس رزقنا ومصدر عيشها.
… اللوحة التشكيلية لم تعد غامضة في حاجة لتفسيرات الفلاسفة المتشبثين بحب المعرفة وتوزيعها على نظريات أجمل ما فيها طول الخطاب دون التحكم في عدم الخروج عن النص المعبر عن الرأي المطوَّق بتقنيات الرؤى المضبوطة أكاديميا . الناس هنا على بساطة عيشهم، وتواضع ما يُشْغِلُون به أنفسهم ابقاءا على حياتهم، كما تشكلت بالوراثة عصرا بعد عصر ، بالرغم مما يقدمونه من تضحيات وما يبذلونه من مجهودات ليهيمن الاستقرار بلا مصاريف تُذكر، يُقابلون بالجحود والتهميش والإقصاء لتشهد ساحة عبد الوهاب ، جلسات غريبة لأصحاب أجساد حفر الألم بأظافر اليأس على أحاسيسهم ، ولا يرضون بمد اليد لأنهم في وجدة، تتأسف عليهم تأسفها على كيانها كمجاهدة مناضلة، لم ترتاح على امتداد ألف سنة من معركة طويلة ، تتغير فقط أسماء وقائعها، وكل هذا ليعيش المغرب مطمئنا معززا مكرما موحدا من طنجة إلى الكويرة ، فكفى من صبغ الجدران من مناسبة إلى أخرى وتنظيف الطرقات كتتمة لتزيين الديكور وإحضار كل فرق “العلاوي” في “كرنفال” صادح بالخيبة وتلميع الواقع بما لا يُدرَك إلا في الخيال، لتعود الأحياء لمنظرها الأول ، مكدسة فيها الأزبال، حاصل فيها ما لم يتوقعه بال .
—