عدت اكثر من مرة لمقال عالم الاجتماع حليم يركات بجريدة الحياة حول مفهوم او حول النقد، وبشكل ادق النقد الصحفي ان جاز التعبير، او النقد الذي يكتب حول الاصدارات الادبية والابداعية العربية في الجرائد والصحف والمجلات، او حتى الكتب السياسية الجديدة، انه بلا شك من نوع النقد غير المتخصص؛ لانه يهدف الى تقديم الكتاب الى القاريء ولفت انتباهه الى اهميته او تميزة او الى الاستمتاع والفائدة من قراءته. كنت وما ازال اعتقد بان حليم بركات له طريقة فريدة بمشاركة القاريء لافكاره وفلسفته؛ لانه لا يكف عن عرض الاسئلة على القاريء في محاولة لمشاركته بالافكار او النتائج التي يريد ان يصل اليها، سواء اتفق معه ام اختلف. وهذه الطريقة باثارة الاسئلة، وبكثافة احيانا، تجعل من القاريء مشاركا حقيقيا بانتاج الافكار والتخيل والنقاش الذاتي، والوصول الى نتائج ام لا ليس ضروريا؛ مادام الكاتب يشارك، بهذه الطريقة، القاريء في محاورته بطريقة تتسم بالانفتاح والمرونة؛ لان اثارة السؤال بحاجة الى من يجيب عليه، والمعني في هذه الحالة القاريء؛ لان الكاتب، هنا، لا يعطيه اجابات او غير معني بها في اكثر الاحيان .
عدت الى المقال اكثر من مرة؛ لان دكتور حليم بركات تناول في مقاله بجريدة الحياة نماذج من نقد الصحف والمجلات، من ضمنها مقال لي حول روايته “طائر الحوم”، عن بلدته “كفرون” بلبنان كانت الرواية ملغومة بالاسئلة التي تميل بشدة، او تكاد، تكون اسئلة فلسفية بالدرجة الاولى، مما دفعني للتساؤل عن هوية العمل الادبي ان كان رواية ام لا؟ لان فيه جميع عناصر الرواية ولكن بلغة مختلفة عن السائد. اما بناؤها فلم يكن تقليديا تعتمد بؤرة جاذبة ان صح التعبير للاحداث والشخوص. احداث تجري بشكل مشتت او غير منظم او تقليدي، كحومان الطائر بارتفاعاته واستداراته وهبوطه وصعوده، او لعبه في فضاء مفتوح على افاق واسعة تبدو غير محددة بافاقها وانفتاحها، مع اسئلة تثير القاريء وتدعوه للمشاركة بتقديم اجابات ذاتية تتعدى قراءة العمل كمنتج ادبي او ابداعي وروائي.
يقول الدكتور حليم بركات في مقاله بجريدة الحياة : “يبدأ قيس العذاري مراجعته لطائر الحوم في جريدة “القدس العربي” بتاريخ 28/4/1992 بقوله انها “تثير… السؤال عن طابع الرواية… فمركز الرواية او بؤرتها – مع اشارة الى خلوها من عقدة مركزية – حيث تتجمع الجزئيات والاحداث… وتحشد شتات الاحداث من امكنتها المختلفة – بمقام العقدة – وتستقطب التفاصيل حول هيكلية عامة”. ويرى الياس حنا الياس في “اليوم السابع” بتاريخ 26/6/1989 ان السرد “لا تتراسل عناصره لتؤلف فضاء روائياً متشابك الابعاد”، فلا يتحول “طائر الحوم” الى “نقطة جذب محورية” أو “الى عمود فقري تتشكل من حوله الرواية” فلم تنشأ “علاقة مد وجزر بين الاجزاء، علاقة تجاذب وتلاقح”. ويتساءل محمد معاطي في “الموقف الادبي” 26/3/1990، “هل يمكن ان يضع هذه الرواية في خلية الادب ام لا… واذا كان هذا العمل رواية أم لا؟”
هذه الاراء ان صحت ان نسميها نقدية، اضافة الى اراء نقاد اخرين تناولوا الرواية من زوايا مختلفة، تجمع على ان طائر الحوم ليست رواية مألوفة او تقليدية في الوسط الثقافي والادبي العربي ويمكن تسميتها “رواية فلسفية” بامتياز، لاتعتمد البناء التقليدي للرواية، سواء العربية منها او الأجنبية، وهذه لصالح الرواية وتميزها عن باقي الاعمال الروائية السائدة. واعتقد ان الاسئلة الفلسفية التي تخللت الرواية بكثافة احيانا لعبت دورا بالتشكيك بهوية العمل الادبي او جنسه، ان كان رواية ام لا؟. واذا عرفنا بان الروائي، عالم اجتماع بالدرجة الاولى، تزول غرابة السؤال؛ لان علم الاجتماع من الفروع الفلسفية الاساسية، او نتج وتشكل كعلم مستقل من الفلسفة وتطور في كنفها .
ولقد اثار الروائي في مقاله جملة من الاسئلة المهمة لا يمكن الاجابة عليها، او لا يمكن الحصول على اجابات متشابهة بخصوصها، سواء بالنسبة للناقد او القاريء او الروائي نفسه او المبدع بشكل عام. ولكن من بين هذه التساؤلات يوضح التساؤل الاتي لنا رأي دكتور حليم بركات بمجمل الاعمال الابداعية او المنتج الابداعي العربي بجميع اجناسه، فيقول في المقال نفسه بجريدة الحياة: “هل يلتقي اذن هدف الكتابة بدافع القراءة فنقول انهما قبل اي شيء آخر التشويق والتماهي والتحريض على الابداع في اطار عملية التواصل من اجل المساهمة في خلق وعي جديد؟ واذا كان الامر كذلك أليس من مهمات الكاتب ان يهدم الحواجز بين الرواية والقصيدة والسيرة الذاتية، وبين النثر والشعر؟”. وهو اقرار ضمني من الروائي ان رواية “طائر الحوم”، كما شخصها اكثر من كاتب وناقد، تدخل في اطار الروايات العربية غير التقليدية او السائدة، وهو حكم بصالح الرواية، وان شكك بهويتها لتميزها واختلافها عن المألوف؛ لان رواية “طائر الحوم” تدخل ضمن الاعمال الادبية التي تختفي فيها الحواجز بين “الرواية والقصيدة والسيرة الذاتية، وبين النثر والشعر؟” على حد قول الروائي في المقال نفسه.
والواقع ان دراسة رواية “طائر الحوم” يجب ان لا تقتصر على الشكل الادبي او جنسه؛ لانها من الروايات الجديدة والمميزة، وان كانت مشتتة او لا تخضع لبناء العمل الروائي التقليدي او السائد. وهذه من المواضيع القديمة الجديدة وما زالت على طاولة النقاش والبحث، اذ لم تعد هوية العمل الابداعي ذات اهمية كبيرة بقدر تجاوزه لاشكال الكتابة التقليدية او المتداولة، واثبات حضوره كعمل ابداعي جديد ومميز، وهو ما ينطبق على رواية :”طائر الحوم” بشكل واضح يتجاوز الاطر التقليدية او السائدة.
واعتقد ان النقاشات والبحوث بشأن الاعمال الابداعية، سواء كانت نثرية او شعرية ستستمر، رغم تشابك المصطلحات الادبية واستعمالها بشكل اعتباطي احيانا، وظهور مدارس واختفاء مدارس، يظل العمل الابداعي باقيا بغض النظر عن جنسه او شكله او هويته، اذا ارتقى الى مصاف الاعمال الابداعية الحقيقية، وهو ما يفسر اختفاء اسماء واعمال ادبية سابقة وبقاء بعضها رهن القراءة والتدول؛ والسبب بسيط وواضح، ان هذه الاعمال تحمل سمات الابداع والتميز عكس الاعمال الادبية التي تظهر، وتختفي بسرعة البرق؛ لانها في الواقع بدون محتوى ابداعي جديد ومميز، ولا تحمل صفة الاعمال الابداعية الحقيقة، التي تؤهلها للاستمرار او البقاء رهن التدوال والقراءة في مختلف الاجيال والعصور.
————
المصادر : انطباع الناقد وانطباع القارئ : تجربة رواية “طائر الحوم”
جريدة الحياة : حليم بركات
للاطلاع على مقال الروائي حليم بركات
انطباع الناقد وانطباع القارئ : تجربة رواية “طائر الحوم”
الكاتب: حليم بركات
يمكن النظر الى الرواية على انها نسق من العلاقات بين الكاتب والقارئ، بالدرجة الاولى، والتي تشمل، بالاضافة الى ذلك، الناشر والناقد.
وكي نفهم هذه العلاقات وكيف تشكل نسقاً خاصاً وجنساً أدبياً متفرداً، لا بد من النظر اليها على انها تواصل في سبيل تحول الوعي في اطار التحولات التاريخية والمجتمعية.
ولما كنت قد كتبت مقالة سابقة حول دوافع الكتابة، فانني اريد في هذه المقالة ان اتناول دوافع القراءة بالتركيز، من موقع الكاتب، على الفروقات كما لمستها شخصياً بين بعض نقاد الادب في الصحافة العربية والقارئ العادي. ومن أجل أن أتمكن من تناول هذه الفروقات على المستوى الحسي وليس على المستوى المجرد والضبابي، يهمني هنا ان أركز على ردود الفعل لروايتي “طائر الحوم” التي كنت قد نشرتها عام 1988 عن دار توبقال في المغرب. أريد ان أفعل هذا لأنني لمست فروقات واضحة في ردات الفعل ودوافع القراءة عند الناقد والقارئ العادي.
بعد أن اطلعت على عدد من المراجعات في الصحف والمجلات وتسلمت بعض الرسائل حول روايتي المذكورة اكتشفت فروقات أساسية في ردات الفعل بين الناقد الادبي وخاصة اولئك الذين يكتبون مراجعات للصحف والمجلات العربية وبين القارئ العادي، وأدركت انه من خلال تناول هذه الفروقات يمكننا ان نتعرف الى التنوع في دوافع القراءة. وفي تناولي لدوافع القراءة في هذا المقال بعد ان تناولت سابقاً دوافع الكتابة، ربما يمكنني ان ألقي بعض الضوء على طبيعة الرواية العربية كنسق من العلاقات والادوار في عملية التواصل الثقافي في الحياة العربية المعاصرة.
<<<
كيف يتعامل الناقد الادبي العربي مع الرواية وماذا تعني له وكيف يفهمها ويتعامل معها ويقدمها لبقية القراء وماذا يهمه منها بالدرجة الاولى؟ هل تهمه الموضوعات؟ هل يهمه الشكل الفني؟ كيف يفهم الشكل الفني؟ كيف ينظر للفروقات بين الاجناس الادبية؟ ما المقاييس التي يستخدمها؟ هل هي مقاييس ثابتة أم متطورة، مرنة أم صارمة؟ هل للرواية في ذهن الناقد شكل مثالي جاهز أم يقبل عليها بعقل منفتح متحرراً من مفاهيم مسبقة ومحاولاً ان يتعرف الى الشكل الذي تتخذه انطلاقاً من ذاتها ومن التجربة التي يتناولها المؤلف ؟
أستنتج من اطلاعي على مراجعات روايتي “طائر الحوم” في عدد من الصحف والمجلات العربية ان هناك اختلافاً بين النقاد أنفسهم من هذه الناحية، ولكن هناك مع ذلك ما يجمع بينهم ويميزهم بشكل خاص من هذه الناحية عن القراء العاديين. وأكثر ما يجمع بين النقاد، كما يتبين لي من خلال هذه المراجعات، انشغالهم الاساسي بمسألة كون العمل الذي يقرأون عملاً روائياً أم لا. لا أريد ان أقول أنهم يقصرون اهتمامهم على تحديد هوية النص الادبي وعلى الشكل الفني، فهم حقاً يهتمون ايضاً بالمضمون وخاصة كحوادث وشخصيات وموضوعات ومشاعر وافكار، ولكنهم يشعرون مع هذا ان بين اهم ما يجب ان يعنيهم كنقاد هو ما اذا كان العمل الادبي الذي يراجعونه يشكل رواية حقاً أم لا وما علاقته بالاجناس الادبية الاخرى.
هذا ما توصلت اليه من خلال اطلاعي على المراجعات لروايتي “طائر الحوم”. وقد تفاجأت بمدى رسوخ هذا الاهتمام وسعة انتشاره بين النقاد في الصحف والمجلات العربية، وخاصة بين الجيل الجديد، مما اضطرني ان اتساءل ما اذا كنت قد اصبحت من الجيل القديم رغماً مني ومن دون ان ادري، باعتبار انني افضل الانتماء، وأحسب انني انتمي، بصرف النظر عن عمري الحقيقي، الى الاجيال الجديدة القادرة على تجاوز نفسها وغيرها باستمرار بالتحرر من كل القيود والتقاليد والاعراف التي تحدّ من الرغبة في الريادة والتجريب والتجاوز والتفرد.
ثم انني كنت اعتبر ان الرواية، من هذه الناحية، اكثر حظاً من الشعر في الثقافة العربية المعاصرة باعتبار انها لا تملك في ثقافة النخبة العربية تاريخاً وتراثاً يحددان معالمها ومقاييسها فيكون من المنتظر ان تأتي متطابقة لاشكال جاهزة وراسخة في الذاكرة والتوقعات الثقافية السائدة. لأن للشعر العربي مثل هذا التاريخ والتراث اللذين يضبطان موضوعاته واشكاله ضبطاً محكماً، حتى كادت النقاشات في الثقافة العربية المعاصرة حول مفاهيم المعركة بين القديم والجديد او التراث والحداثة في الشعر العربي ان تتركز على الجوانب الشكلية وخاصة جوانب الوزن والقافية.
<<<
ومما كان يسعدني كروائي ان الرواية العربية تفتقد مثل هذا التراث والبعد التاريخي على مستوى الثقافة العليا او النخبوية، وهي تتصل بالسرد الشعبي المنفتح كما نجده في ألف ليلة وليلة، فلا نتوقع ان نحكم على الاعمال الروائية من منظور القوالب والاشكال الجاهزة مسبقاً.
بكلام آخر، كنت اعتبر ان النقد الادبي يكون أقل تزمتاً في تحليله للرواية العربية الحديثة منه للشعر، مما يعطي الروائيين العرب مجالاً أكثر رحابة وقدرة على التجريب والتفرد وتجاوز الاشكال المستهلكة والمفروضة فرضاً من الخارج بدلاً من ان تنبع عفوياً من طبيعة التجارب التي يتناولونها. ولكن يبدو واضحاً لي الآن ان مجرد مرور حوالى نصف قرن من النقد الروائي كان كافياً لأن تنشأ لدى بعض النقاد مفاهيم ومقاييس راسخة ومحددة وجاهزة حول البناء او الشكل الروائي يتمكنون على اساسها ان يحكموا فيما اذا كان العمل الادبي الذي يقرأونه رواية او غير رواية. واضافة الى ذلك، اصبح الناقد ينشغل اكثر مما ينشغل في مراجعته للرواية فيما اذا كانت حقاً رواية ام لا، انطلاقاً من الشكل المثالي الحاضر في ذهنه والبنية الخارجية كما تتجلى في السرد والعقدة والمركزية او المحورية الشكلية.
يبدأ قيس العذاري مراجعته لطائر الحوم في جريدة “القدس العربي” بتاريخ 28/4/1992 بقوله انها “تثير… السؤال عن طابع الرواية… فمركز الرواية او بؤرتها – مع اشارة الى خلوها من عقدة مركزية – حيث تتجمع الجزئيات والاحداث… وتحشد شتات الاحداث من امكنتها المختلفة – بمقام العقدة – وتستقطب التفاصيل حول هيكلية عامة”. ويرى الياس حنا الياس في “اليوم السابع” بتاريخ 26/6/1989 ان السرد “لا تتراسل عناصره لتؤلف فضاء روائياً متشابك الابعاد” فلا يتحول “طائر الحوم” الى “نقطة جذب محورية” أو “الى عمود فقري تتشكل من حوله الرواية” فلم تنشأ “علاقة مد وجزر بين الاجزاء، علاقة تجاذب وتلاقح”. ويتساءل محمد معاطي في “الموقف الادبي” 26/3/1990، “هل يمكن ان يضع هذه الرواية في خلية الادب ام لا… واذا كان هذا العمل رواية أم لا؟”.
ويتكلم عبدالله بن بخيت من موقع محافظ في جريدة “الشرق الاوسط” بتاريخ 3/10/1992 عن “الهم السياسي في مقابل الابداع، والبوح الشخصي في مقابل موضوعية الفن. فعندما طرح المؤلف وقائع النص في صورة مذكرات كان قد اختار أصعب الطرق لبناء عمله الروائي”. يتكلم بهذه اللغة العجيبة كما لو ان هناك شكلاً جاهزاً خارج الذهن التقليدي، وكذلك كما لو ان هناك تناقضاً بين السياسة والابداع. لذلك لم يكن من الغريب ان يتحدث عن ان الفن مهمة موضوعية وهذه مقولات تناسب المحافظين والمنظومة الفكرية الثابتة.
ليس من اجماع بين النقاد على مثل هذا التساؤل وهذه التوجهات التي تعنى بالدرجة الاولى بالبنية الخارجية للنص الادبي. على العكس، لا يطرح احمد بنشريف في “انوال الثقافي” المغرب في 30 – 12- 1988 مثل هذا التساؤل بل يتوصل الى ان رواية “طائر الحوم” رواية حديثة يعرّفها انطلاقاً من بنيتها الداخلية غير الظاهرة بأنها “شكل تعبيري يطمح الى تكسير قيود الشكل الواحد والغاء الشروط التي واكبت سير عملية الكتابة في حدودها المرسومة، علماً بأن الاحساس الموضوعي الذي تنهض على منواله الكتابة الابداعية لا يقف عند حدود الشكل”.
وفي محاولة مشابهة لتفسير قيام الشكل الفني، يتوصل محمود شريح في مجلة “الناقد” العدد التاسع، آذار / مارس 1989 الى القول، “وما الشكل الذي جاءت عليه الرواية إلا استمرارية لتصدّع الشكل القائم في المنطقة من محيط الى خليج، في الرواية والشعر، وفي السياسة والحدث، وفي الرسم والموسيقى، وفي المؤسسة والنظام. الشكل في “طائر الحوم” خلخلة لا مفر منها في ظل تفسخ آخذ في الاتساع”. بهذا يبدأ الناقد بالربط بين البنى الفنية والاجتماعية والسياسية.
في زمن الخلخلة هذه نفهم لماذا يكتشف عبدالرحيم العلام ليس فقط لماذا جاءت “طائر الحوم” بنص روائي جديد، بل لماذا ايضاً تحل بطولة المكان المفتقدة في الرواية العربية محل بطولة الاشخاص والاحداث. ومن هنا ايضاً حديث الشاعر بلند الحيدري عن “البساطة المذهلة التي تتجنب القوالب المستهلكة” “المجلة” 21- 27/12/1988.
ان القراءة النقدية في شكلها الاول كما جاءت في مراجعات العذاري والياس وبن بخيت والتي تعنى بالشكل الخارجي تختلف اختلافاً بيناً عن القراءة كما وردت عند بنشريف وشريح وكما يقبل عليها ويمارسها القارئ العادي.
<<<
اكتشفت من خلال الرسائل التي بعثها لي عدد من القراء اهتمامات ثلاثاً اساسية: التشويق، والتماهي Identification مع شخصيات الرواية والاحداث، والتحريض على الكتابة أو تفجير طاقات الابداع عند القارئ.
بالنسبة لعملية التشويق، قيل لي في هذه الرسائل من قبل احدهم: قرأت “طائر الحوم” باهتمام وشغف في ذات النهار الذي تسلّمته به”. ومن قبل شخص آخر: “لم أتمكن من النوم قبل الانتهاء من قراءتها”.
وبالنسبة للتماهي قيل لي: “كنت أتفرج على نفسي التي تحركت فيها المشاعر والخواطر والصور لأن هناك اشياء كثيرة متشابهة ومشتركة في ظروف حياتنا. كتابك… هو كتابنا كلنا نحن اولاد الضّيع الذين مثلك ومثلي… انه كتاب النفس النشيطة اليقظة الطيبة الغنية الحرة الحساسة الفنانة التي يعبر فيها الالم الكبير فيتحول الى حب كبير وفن كبير. انه كتابنا نحن جميعاً”.
وبالنسبة لقدرة الكتابة على تفجير الطاقات الابداعية عند القراء وتحريضهم على الكتابة، كتبت لي سيدة تعيش في قفص الزوجية ان الرواية اعادتها الى ايام صباها عندما كانت تحلم ان تكون رسامة، “أريد أن أعود وأحلم، أريد ان أحيي حياتي، وان اخلق ثانية ان لم يكن بالرسم فبالكتابة… ألسنا نرفض العبودية؟ كيف حرمت نفسي من التنفس لسنوات خلت عمري معها ضاع؟… عليّ ان اكسر قيودي بيدي. طالما فعلت ذلك وأنا صغيرة ثم شابة. كيف اهملت نفسي عندما اصبحت امرأة انا التي حاربت استعباد البيت وتقاليده؟… الآن حان الوقت لي بأن اعود لأحيا وأحيي الخط فيّ والكلمة فيّ واللون فيّ… أي شيء يحييني لن اكبته اليوم… اليوم استوعبت مشكلتي ومشكلة الآخرين… رغبة جامحة بالكتابة تغمرني هذه الايام منذ قرأت “طائر الحوم”. سأدع لنفسي العنان… لذلك شعرت انني اريد ان اكتب لك ولو أنني لا اعرفك شخصياً… شكراً لكتابك الذي فجّر بي طاقات مدفونة واعتقد انني سأعود للرسم عما قريب. اعذرني ثانية لارسالي صورة عما كتبته لانني لم اعد متأكدة ان كنت اكتب لك او لنفسي او للتاريخ”.
طبعاً ليس القارئ العادي وحده هو الذي يهتم بهذه العناصر الاساسية في الكتابة والقراءة. بين اجمل الرسائل التي تسلمتها واحدة من صديقي شوقي بغدادي الذي كتب يقول: “قد يختلف النقاد في ما بعد حول هذا النص: هل هو رواية أم سيرة ذاتية أم مزيج خلق جنساً آخر. ومهما يكون الامر، فانا انطلق في تقييم النص الادبي – والفن عموماً – من هذا المنطلق: الى أية درجة استطاع هذا النص أن يمتّعني ويهز وجداني ويشعرني ان اشياء جميلة جديدة قد خالجتني وصارت جزءاً لا يتجزأ من كياني… أو باختصار، الى أية درجة استطاع هذا النص ان يغيرني الى أفضل لاكون بعد القراءة انساناً آخر غير الذي كان قبل القراءة… من هذه المنطلقات شعرت ان “طائر الحوم” قد غسل روحي. يا الهي… بأي حنان، وأية رقة، وأي ذكاء استطعت ان تستعيد الطفولة، وان تسترد جنتها المفقودة”… وكتب لي ادونيس عن رواية “طائر الحوم” قال فيها باختصار بليغ: “جميلة، حرّضتني على كتابة الرواية”.
هل يلتقي اذن هدف الكتابة بدافع القراءة فنقول انهما قبل اي شيء آخر التشويق والتماهي والتحريض على الابداع في اطار عملية التواصل من اجل المساهمة في خلق وعي جديد؟ واذا كان الامر كذلك أليس من مهمات الكاتب ان يهدم الحواجز بين الرواية والقصيدة والسيرة الذاتية، وبين النثر والشعر؟
حليم بركات
—