الحوار هو الكلام المتبادل بين الشخصيات داخل العمل الأدبي وتقع عليه مسؤولية نقل حركة الحدث من نقطة إلى أخرى داخل النص ، وهي عملية صعبة تتحول من خلالها الفكرة إلى جزء فاعل له صيغة عمل داخلية نابعة من إجراءات الحدث وتفاصيله .
وعلى الكاتب أن يكون على وعي خاص في اختيار أسلوب الحوار الأدبي الذي يجريه على ألسن شخصياته، إذ على الكاتب توجيه الحوار إلى اتجاه التكثيف والاكتناز من أجل نقل الحوار من مستوى المحادثة العادية اليومية التي يتداولها الناس إلى مستوى جديد يتوافر على انتقائية في المفردة والتركيب والموضوع والإيحاء انسجاما مع روح العمل الفني وإيحائيته وجوه . وبما أن الحوار هو وسيلة شكلية للنفاذ إلى جوهر الأشياء ، فإن أهم وظائفه تقديمه المباشر للشخصية وتأطير علاقاتها سواء من خلال إخبار الشخصية نفسها ،أو من خلال إخبار الآخرين عنها . فالحوار يشي بالشخصية طبيعة وثقافة وبيئة وطبقة ومهنة وسلوكا وموقفا ، أي أنه يسهم بفاعلية في تقديم الشخصية وتحديد صورتها ودورها في العمل الأدبي .
وفي إطار تعبيره الجمالي يستعير أمل دنقل وسائل تعبير من فنون قولية مجاورة كالحكاية والأداء الحواري وصياغة المشاهد الدرامية التي تمتزج فيها عناصر الدراما بالشعر وما يتضمنه ذلك من جدل وصراع أو ما يثيره من حركة درامية داخل النص الشعري ( بحيث تقدم أصواتاً متعددة متصارعة حتى وإن كان في داخل صوت الشاعر نفسه يحدث بينهما صراع ينمو ويتصاعد ثم ينتهي بأشكال مختلفة ).
و لإبراز جوهرية الصراع بين المواقف أو التعبير عنها يعتمد الشاعر أمل دنقل وسيلة الحوار أو الأداء الحواري في نصه الشعري كواحدة من الأدوات التعبير المهمة التي تطرح نفسها كتقنية تعبيرية فنية وحيوية داخل النص الشعري والتي تهب نفسها للمتلقي لينجذب إليها ، ويمرر الشاعر عبرها ما يريد نقله بنجاح إلى المتلقي في رؤية شعرية كاملة. ومن ثم تكتسب هذه الأدوات التعبيرية في القصيدة عند أمل دنقل شعريتها فهي تأتي مشبعة بروح الشعر وإمكاناته المؤثرة والفاعلة .
وإذا كانت الأدبية أو الشعرية على رأي الناقد محمد رضا مبارك ( هي تمازج عناصر متعددة ومتضافرة فإن الحوار داخل الشعر هو نثر داخل الشعر، وقد يرتفع عن درجة النثر فيصبح سرداً) من خلاله يقدم الشاعر سردية حوارية بأصوات متعددة ( قصيدة ) تنساب برؤية السرد ومنطِقِه ، فتبدأ كما تبدأ القصة التقليدية وتنتهي كما تنتهي .
وفي نماذج كثيرة من شعر أمل دُنقُل نجده يتخذ من الأداء الحواري معبراً شعرياً مهماً لينقل إلينا همه الشعري الإنساني بلغة لا تبتعد عن لغة الأداء اليومي لكنها تدخر عمقاً تعبيرياً يتجلى من خلاله ذلك الهم الإنساني الجمعي . من ذلك قوله في المقطع الثاني من قصيدته (( ميتة عصرية / ديوانه ، مكتبة مدبولي ،ط2، 2005: ص217)) وهي محاورة بين رجل ذي سلطان وتابع له يمشي معه على نهر النيل . والشاعر أمل دنقل ضمّن هذه القصيدة شكلاً فنياً هو أقرب إلى الحكاية عن طريق حوارية تجعل من النص الشعري يسير على وفق طريقة أو نهج واحد – يتمثل هنا بالسؤال والجواب – من خلاله تحددت لنا ملامح الشخصيتين المتحاورتين ومواقفهما الشعورية والفكرية وإحساساتهما الداخلية ومن ثم كشف الحوار عن موقف كل من الشخصيتين من قيمة كبرى لدى الشاعر هي النيل بحقيقته أو بكل رموزه الأخرى التي تجعل منه معادلاً موضوعياً للوطن أو الشعب .
لقد كان صوت السلطان وموقفه هو المحرك الأول للنص والمهيمن منذ البدء حتى النهاية ، فهو يبدأ بلغة الاستغراب والاستعلاء المنطوية على التهكم والسخرية والاستخفاف إذ يقول :
– مَنْ ذلك الهائمُ في البرية ؟
ينامُ تحت الشجر الملتفِّ والقناطر الخيرية ؟
فيأتي الجواب بنبرة خفيضة انطوت على كل ما يمثله النيل بالنسبة لهذا التابع من انتماء ومن قيمة أطلقها وهو يحاول جر سيده ذي السلطان لتذكر ذلك ، لكن دون جدوى إذ ظل هذا السيد ينظر من ثقب الأبهة والجاه والتنصل متناسياً كل ما يربطه بماضيه الإنساني الصادق البسيط .
– مولاي : هذا النيلُ..
نيلُنا القديم !
– أين تُرى يعملُ .. أو يُقيم ؟
– مولاي :
كُنّا صبية نَنْدسُّ في ثيابه الصيفية
فكيف لا تذكُرُه ؟
وهو الذي يُذكر في المذياعِ والقصائد الشعرية ؟.
– هل كان قائداً ؟
– مولاي : ليس قائداً .
لكنما السيّاحُ في الشتاء ذي الأقمصة
القصيرة الأكمام
يأتون كي يروه ..
فيرد صاحب السلطان بلغة النفور والخوف على جاهه وسلطانه بقوله :
– آهٍ .. ويصورونه .. بوجهه الباكي
وكوفيته القطنية
لكي يشهروا بنا
بالنظم الثورية ..
تعال كي نودِعه في ملجأ الأيتام .
– مولاي :
هكذا تحبه الصبايا .. والرعاةُ .. والأغنامْ
وأمُّ كلثومٍ تغني له ..
في وصلتها الشهرية !
– النيلُ !
أين تُرى سمعتُ عنه قبلَ اليوم ؟!
أليس ذلك الذي ..
كان يضاجعُ العذارى !؟
ويحب الدمْ !؟
– مولاي : قد تساقطت أسنانه في الفمْ
ولم يعُد يقوى على الحبِّ . أو الفروسية
– لابد أن يبرز لي أوراقَه الشخصية
فهو صموتْ!
يصادقُ الرعاعَ ..
يهبطُ القرى ..
ويدخلُ البيوت ..
ويحمل العشاق في الزوارق الليلية
– مولاي ؟ هذا النيل .. !!
– لا شأن لي بنيلك المشرد المجهول
أريدُ أن يُبرزَ لي أوراقه الرسمية :
شهادة الميلاد .. والتطعيم .. والتأجيل
والموطن الأصليِّ .. والجنسية
.. حتى يمارس الحريَّة !
يمكن أن تُخلصنا هذه القصيدة الحوارية إلى نقاط تجليها التي تجسد الصراع بين هذين الصوتين المتحاورين : الرجل ذي السلطان ، المتعالي ، المتنكر لماضيه وكل ما يربطه بأهله وانتمائه ، وزهده بقيمه وسخريته منها وتنكره لها ؛ وصوت الرجل التابع ، ذلك الصوت الخفيض الذي لا يملك غير الرجاء في أن يعي سيده قيمة النيل بكل مرموزاته ودلالاته القيمة الأخرى التي وردت في حواره وقد اختزلها بلفظة ( النيل ) التي ترد على لسان هذا الرجل التابع وهو يقول : ( مولاي : هذا النيل .. ) محملة بكل دلالاتها العميقة.
إن الحوارية التي تقدمها القصيدة هنا تطرح تعارضاً بين الشخصيتين يعود إلى تعارض رؤاهما ومواقفهما، وهذا التعارض يولد بطبيعة الحال صراعاً هو في جوهره صراع للرؤى في بنية الخطاب. ومن خلال هذا الصراع يتبين الموقف الفكري والشعوري لكل طرف في الحوار بالصورة التي يريد لها الشاعر أن تكون ليقدم من خلال ذلك رؤيته الشعرية فيعبر عما يريد التعبير عنه وقد ظفر بكلا الحسنيين : الفن والتأثير .
وإذا كانت تلك الرؤى والمواقف قد أنتجت صراعاً لتباينها فإنها أفرزت لنا مراكز استقطاب دلالي مؤثرة وفاعلة في بنية الحدث الحواري – إن صح القول – ، ويقصد بمراكز الاستقطاب ( إنتاج سيل متواصل من الدلالات بوساطة رؤى الشخصيات ) ، وقد تجلى ذلك بطرائق التعبير التي تعتمدها كل من الشخصيتين المتحاورتين في طرح رؤيتها وتوجيهها مغلفة بجوها الفكري والشعوري الخاص. ومن هنا أحرز الحوار مضمونين سارا متصارعين : الأول مثلته أقوال صاحب السلطان ورؤاه وتساؤلاته التي قدمته شخصية مستبدة متعالية متحكمة حتى كان صوته المستبد هو الذي يسود جو الحوار ويختمه ، إذ تنتهي القصيدة بلفتة مهمة هي الذروة التي يبلغها الحوار ويريد الشاعر تسجيلها ، وتتمثل هذه الذروة بتحكم هذا السيد بالحرية فهو وحده الذي يهبها لمن يشاء وكيف يشاء ، وهذا يحيلنا إلى عنوان القصيدة ( ميتة عصرية ) ، فالتحكم بالحريات أو مصادرتها واحدة من الميتات التي تشهدها الشعوب على أيدي الحكام المستبدين .
أما المضمون الثاني فمثله موقف الرجل التابع الذي تجلت من خلال صوته صورة النيل بكل بهائها وعفويتها وأصالتها وعبقها فجعلته مركزاً لإنتاج الدلالات الإنسانية العميقة ، ومن ثم كان صوت هذا الرجل التابع بقدر ما كان ضعيفاً إزاء استبداد سيده وتسلطه ، كان يمثل نقطة استقطاب إقناعي وشعوري مهم تجذب المتلقي وتؤثر فيه ، وتتوجه بالوقت ذاته إلى تقبيح صورة صاحب السلطان وفعله ، وتفند رؤاه وتهدمها .
لقد نجح الشاعر أمل دنقل إلى حد بعيد في توظيف الحوار بلغته البسيطة التي لا تبتعد كثيراً عن لغة الحوار اليومي المعتاد وطابعه التقريري المبسط ، لكن أمل في هذا النص الشعري كما هو الشأن في غيره من النصوص لم يسمح للتقرير أن يمتص الشعر من قصيدته بل هو الذي يبث في التقرير روح الشعر وإمكاناته المؤثرة والفاعلة ، ومن ثم فهو يحفظ لنصوصه شعريتها كما يحفظ لتقنياته التعبيرية شعريتها وفاعليتها.
—