انطفأ شاعر «شرارة تونس الربيع العربي»، ولد في 4 نيسان 1955 وتوفي في 5 نيسان 2016م (محمّد الصغيّر أولاد أحمد) في المشفى العسكري بتونس العاصمة. آخر ملفوظه: «مادام الشعب العربي لم يتعلّم بعدُ التكثيف في ملفوظه ومكتوبه فإن العالَم لن يفهمه، بل ولن يحترمه». أحب أدبَ القِلّةِ: درويش، ناظم حكمت، غرامشي، نيتشة، عزرا باوند، وكره قلّةَ أدبِ الكُتّابِ ويقول: «أنا مولودٌ عامَ 1955، وبناء عليه يمكنني القولُ: إن تونــسَ أمِّــي و الدولةَ أختي الصغرى، ومن حقّي أن أشاركَ في تنشئتها وجماعةُ المناصب كلِّهم أقصرُ منّي… والذين لا يُحسنون إمضاءَ القصائد والنصوص، يُجيدون إمضاءَ العرائض وأكثرُ شيء يُنغّصُ عليّ حياتي هو الحديثُ عن الوطنية في حالات السلم، إذا كان بعضُ الكُتّابِ يستطيعون الكتابةَ، فأنا أستطيعُ أن لا أكتُبَ».
عام 1978م تخرّج في المدرسة العليا لأطر الشباب، عمل منشِّطًا ثقافيا، ثم ملحقا بوزارة الثقافة، وكاتبا بعدة صحف تونسية وعربية. مطلع العقد الأخير للقرن الماضي أسّس «بيت الشعر التونسي» وترأسه حتى عام 1997م.
باكورته «نشيد الأيام الستة» نقلة تونسية، ابتكر استعارات لغة تؤلف العامي فصيح التكثيف. صادرته سلطة أول رئيس تونسي متنور مناصر للمرأة السافرة «الحبيب بورقيبة» حتى انقلب فيها خؤونها ضابط أمنها الفار «زين العابدين بن علي» عام 1988م. عشق أولاد أحمد تونس الخضراء، وأنشد لها: «وطني دقيقٌ مثل ساعةْ * الكلُّ فيهِ عقاربُ * والفردُ ينتخبُ الجماعةْ».
حبس بثورة الخبز عام 1985م ودافع عنه الاتحاد العام التونسي للشغل، كان يعادي السلطة والإسلاميين وحركات اليسار!. طرد من العمل وتشرّد في مقاهي العاصمة وشوارعها وكتب أولاد أحمد قصيدة «نحبّ البلاد» يقول فيها: «نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد، صباحا مساء، وقبل الصباح وبعد المساء، ويوم الأحد.. ولو قتّلونا كما قتّلونا، ولو شرّدونا كما شرّدونا، لعدنا غزاة لهذا البلد».
بعد «نشيد الأيّام الستة» نشر مجموعة: «ليس لي مشكلة» و«تفاصيل» و«حالات الطريق» و«جنوب الماء» و«الوصيّة».
وبعد ثورة الياسمين نشر: «القيادة الشعرية للثورة التونسية» و«كتاب التوانسة».
حاول انقلاب بن علي استمالة أولاد أحمد عبر بعض الإغراءات الوظيفية والمادية والرمزية من قبيل منحه وسام الاستحقاق الثقافي عام 1993م، إلا أنه رفضه.
وكتب في اعتصام الرحيل بضاحية «Bardo» رسالة ممضاة باسم « القيادة الشعرية للثورة التونسية» وجّهها إلى رؤساء وملوك العالم جاء فيها: « نحنُ نتحدث عن الدولة المدنية وهم يتحدثون عن دولة الخلافة. نحن نتحدث عن دولة القانون وهم يتحدثون عن دولة الشريعة. نحن نتحدث عن التداول السلمي على السلطة وهم يتحدثون عن التمكين الإلهي. نحن نتحدث عن الديمقراطية وهم يتحدثون عن الشورى. نحن نحلم ببناء وطن للمواطنين وهم بصدد بناء إسطبل للرعية. نحن نؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة وهم يعتبرون أن المرأة ناقصة عقلا ودينا. نحن نتعرف إلى النساء من وجوههن وهم يتعرفون إلى النساء من شواهد القبور، نحن نؤمن بالتنمية البشرية وهم يعملون على قتل الثلث لإصلاح الثلثين. نحن نسمي الخروج عن الحاكم ثورة شعبية وهم يؤمنون أن الخروج عن الحاكم حرام شرعا. نحن في يوم الثلاثاء 06 أوت 2013 وهم في يوم 28 رمضان 1434 هجري. نحن نصنع الأقلام والكمنجات وهم يصنعون السيوف والمتفجرات. نحن نعيش على هضاب البحر الأبيض المتوسط شمالي إفريقيا وهم يعيشون في الربع الخالي وفي صحاري القارة الأسيوية. نحن نرفع راية حمراء وبيضاء وهم يرفعون راية سوداء يتوسطها سيف قاطع. نحن نحدد تاريخ تونس بخمسة آلاف سنة على الأقل… وهم يحددون تاريخها ب 13 قرنا، أي منذ غزو عقبة بن نافع للقيروان».
ونصّ كتبه بالمستشفى العسكري بتاريخ 4-4-2016 بعنوان «تونس» فيه يقول: «سلّمتُ في الدُّنيا… وقلتُ: أكونُها: شعرًا ونثرًا ناقدًا ومُبشّرًا… طولَ الفصولِ الأربعهْ أنْثَى وأمّي ليس لي …. قبْرٌ في المــَا- بعْدُ (في الأُخْرى) سوى هذي الحُروفِ الأربعهْ».
كتب الجامعي الإعلامي عبدالحليم المسعود: « وداعا!… أيها الطيفُ النحيلُ، أيها الطويلُ، العليلُ بحُبّها، المتيمُ بقضاء حوائجها العاطفية. وداعا أيها المذيّلُ بالفهارس في العشق الغامض، المرصّعُ بالتفاسير الطِوال في العشق الواضحِ كالسُّكر، المدجّج بالخراطيش القصائد القصار، نارٌ تنهدت حدّ التفحّم في حجة الشّعر على كلام الكهنوت. وداعا أيها الماموت الأخير في الفصاحة الجارحة».
وقال فيه الشاعر المغربي عبداللطيف الوراري: «مات أولاد أحمد، وولّت معه مرحلة مُهمّة وصاخبة بقضّها وبقضيضها. لكن تاريخ الشعر المعاصر في تونس لن ينساه، وأما منزلته بعد ثورتها المشهودة فزادت اعتبارًا وقيمة. لم يكن أولاد أحمد شاعرًا وحسب، بل مثقّفًا يساريًّا حقيقيًّا ومُجاهرًا بصوته وأفكاره في ثقة وثبات حينًا، وغضب وانفعال حينًا آخر. ولهذا، من الصعب أن نفصل بين الشعري والسياسي في قصيدته، وبين الأخلاقيات والحداثة في ما كان يكتبه ويحرص على إيصاله إلى جمهور القراء الذي التقط إشاراته منذ الأول. بالنسبة إليّ، فإني اكتشفت قصيدته التفعيليّة المختلفة في بدايات التسعينات من خلال ما كانت تنشره بعض الملاحق الثقافية المغربية، أو تعيد نشره؛ إذ وجدْتُها، وأنا بعدُ لا أزال أفرك عينيّ وأتمتم بأوّل كلماتي، بسيطةً وساخرةً وغضبى ومُجدِّفةً بعالمٍ عربيٍّ ينحدر إلى الهاوية. كان يقتصد في لغة القصيدة، ويتقشّف من جهة بلاغيّتها، لكن كان ينحت لها عُمْقًا يتأتّى مما فيها من صدق وطراوة. ورُبّما زدنا على ذلك بالقول إن قصيدة أولاد أحمد كانت تودّع مرحلة ظــــافــــرة بمنجزها، وتستقبل أخرى تخلّلتْها الميتات المتقاربة لجيل الشعراء الرواد، وشهدت سجالًا من نوع آخر، شكليًّا وطوائفيًّا، على أرض ملغومة. مات أحمد، ولكن بقي أولاده يُتمّمون ما بدأه وآمن به، في تونس وغير تونس».
الكاتب التونسي محمّد جابلي من رابطة الكتاب الأحرار قال: «لا شيء يرشح في بركة الحزن المستقر غير رحيل شاعرنا محمّد الصغيّر أولاد أحمد، يغادر صخبنا وضجيجنا اليومي بشجاعة نادرة، شجاعة التحدي والمقاومة، لا شيء يهزم الموت غير الكلمة التي ظلت إلى آخر لحظات شاعرنا عنوانا وطليعة لكيان صاخب زاده الحب والفكر والحرية، يختفي شاعرنا جسدا لكنه سيظل معنا ومع الأجيال القادمة روحا معتقة كروح الكرم والعنب وتربة هذه الأرض وملحها أيضا… لا شيء نملك غير الوقوف طويلا أمام ذات متميزة ونص متوهج وعزاؤنا أن اختفاء شاعرنا هو لحظة صمت يعقبها ضجيج الأفكار والكلمات ونواقيس الحلم والحياة».
الشاعرالتونسي منصف الوهايبي: الآن وقد رحل محمّد الصغيّر، هكذا كنت أناديه. وكان يضحك ويقول لي: «أنت تناديني باسمي، كما كانت أمّي تفعل. الآخرون كلّهم ينادونني بـ«أولاد أحمد» حتّى زهور زوجتي». الآن أقول هو شاعر شجن معقود على نفسه حتى الضنى، ولغة لا تتحالف إلاّ مع نفسها، ولكنّها تأخذ من الأشياء وتتورّط فيها، ولا تميّز بين «الأنا» والـ«هو» في تراسل أو تجاوب بين العالم والذات، بين الداخل والخارج؛ كما لو أنّ كلّ الأشياء تتلاقى فيه. ربّما هي طريقة في أن نَرى، في الآن ذاته الذي نُرى فيه. شاعر يلحِم ُبالكلمات جرحا لا يندمل، واعيا أن الشعر تعويض عمّا لا يمكن تعويضه.
سعدي يوسف: إلى محمّد الصغيّر أولاد أحمد
لم تَعُدْ، يا محمّدُ، ذاكَ الصغيّرَ..
الجنوبُ اختفى منذ أن رحلَ الزَّينُ.
صارتْ لديكَ ابنةٌ أنتَ سمَيتَها كَـلِماتٍ..
أُحِبُّ البلادَ..
كما لم يحبّ البلادَ أحدْ؟
لندن في 26.06.2015
—