استطاعت الرواية أن تضطلع بكوكبة من العوالم المتناقضة، وأن تعتنق جملة من الإيديولوجيات التي تمررها عبر طائفة من الشخصيات المتصارعة ومتوادة، مشكلة فضاءات اجتماعية متخيلة، تزخر بالعديد من الدلالات المحملة عبر الفسيفساء النصية.
ولعل أهم ما ساسته الرواية في الواقع الفعلي هو أزمة الإنسان الجديد، حيث شيدت معماريتها من خلاله ونفخت روحها، واستحالت هي متنفسا له، ولكن الأمر لم يتعلق باجترار الواقع وإعادة تكريره فالرواية تزيد من تعميق الأزمة التي ترتشفها من محلها(أو تهتك الستر عنها على الأقل)لجعل المشهد المراد تمريره أشد مأساوية، ذلك لإسعاف الأثر في نفس المتلقي ليكون أكثر تجاوبا معها وبما أن الرواية لسان حال المجتمع فقد سعت لدحض ما دأبت عليه الأعراف لتطبية المشاكل الشائكة التي يعاني منها المجتمع.
وشمت التغيرات الاقتصادية والسياسية..أثلاما على جباه المجتمعات الغافلة، وتركت أفرادها يرزحون في ظلام الغربة الدامس؛ فالنقلات السريعة التي شهدتها(في بنياتها المختلفة) في زمن العولمة، والمد الثقافي للإثنيات النازحة الذي رحبته المجتمعات الكوزموبوليتانية، جعلت الفرد مشدوها من سيرورة الأحداث الجارية، التي لم تترك له فرصة للتأمل أو لاستيعاب تقلباتها المتلاحقة، ذلك ليمد الاغتراب بمجساته فينال من صلب النفسيات المرهقة.
يتشظى الاغتراب إلى عدة مستويات متكاملة متداخلة، تنضوي جميعا تحت عباءة الذوات المأزومة:
أولا: الاغتراب الاجتماعي
الانتماء الاجتماعي هو«اتجاه يستشعر من خلاله الفرد توحده بالجماعة، وبكونه جزءا مقبولا منها، ويستحوذ على مكانة متميزة في الوسط الاجتماعي الذي يعش فيه» أما الاغتراب الاجتماعي فهو على النقيض من ذلك، وهو هنا في هذه المدونة يتخذ عدة وجوه؛ إما التطرف والخروج عن نواميس المجتمع، أو الخضوع التام له، أو الانعزال بشكل قصي عنه، وهي الأشكال التي ساقتها الرواية في عدة شخصيات:
تطرف ميرلا:
ميرلا شخصية سيكوباتية؛ مضادة للمجتمع، زوجة البطل”هوزيه” وابنة خالته”أيدا” ولدت من علاقة سفاح من رجل إسباني محتل«لا أنظر في هذا الجمال سوى علامة[…]تذكرني بماضي أمي وظروف ولادتي لديك أوروبي حقير» فشكل هذا الماضي على الرغم من أنها لم تشارك فيه، حفرة غائرة في ذاتها، ظلت تتجرع مرارته في حنق؛ حيث عانت بسبب مجهولية نسبها خللا في علاقاتها الاجتماعية، وكان سببا في تطرفها، فقاسمت الجنس الآخر عداوة لا نظير لها«الذين لا يستطيعون الاضطلاع بتنوعهم الخاص يجدون أنفسهم أحيانا بين أشد القتلة على الهوية فتكا يهاجمون الذين يمثلون ذلك الجزء الذي يريدون طمسه من أنفسهم، إنه”كره الذات”» .
أصيبت ميرلا بالذهول بعد أن علمت بحقيقة أمها، فكان ذلك بداية الصدمة، التي جعلتها تعيش حالة اغتراب اجتماعي؛ فأعلنت كرهها لأسرتها، كرهها للعالم من حولها، والرجال بشكل مبالغ فيه، إلى درجة تبنيها للنزعة السادية ضدهم«أتسلى بخضوعهم[…]لا أرى في انحنائهم أمامي سوى دجاجات ضعيفة[…]شعور بالرضى يملؤني» ثم كرهها لنفسها لأنها جزء من هذا الكل.
مرت ميرلا خلال مراحل بحثها عن ذاتها بأزمات متعددة«إثنان وعشرون عاما لم أعثر فيها على نفسي. لا زلت أبحث عني ولم أجدني» أزمة الهوية الفردية والاغتراب هي أهم الأزمات التي تخبطت فيها«هل تعلم أنني تغلبت على كل شيء إلا داخلي الذي أجهله» فبقيت هويتها معلقة تبحث في شتى السبل حتى السالبة منها، لإيجاد حالة من التوازن. أعلنت وكنتيجة لكل ذلك ورغبة في الانتقام من الوجود خروجها عن المألوف، ولأنها في مرحلة البحث عن ملامح للذات فقد أعلنت مثليتها وتمردها عن الأخلاق«ميلها لجنسها» حيث جعلت هذه الانفلاتة تتسم «بانعدام المعايير[…]أو اللامعيارية، حيث التوقع المرتفع بأن تكون الوسائل غير المقبولة اجتماعيا ضرورية للوصول إلى الأهداف المرجوة، والشعور بعدم الاتزان بالمبادئ والمعايير الاجتماعية للسلوك وتناقضها وغلبة الأهداف الشخصية، والسعي إلى تحقيق أساليب مرفوضة اجتماعيا. وتحدث حالة انعدام المعايير نتيجة للانهيار في البناء الاجتماعي واضطراب أهداف المجتمع، وعجز الأفراد عن الوصول إلى هذه الأهداف» .
تتخبط ميرلا في رحلة بحثها عن استقرار للهوية بكل السبل المتاحة سواء وافقت المجتمع أم خالفته فرغبة من الانتقام لأمها ومنها عارمة أدت بها لكره كل من حولها، الأمر الذي أحدث في داخلها شعور بالمرارة حيث«تؤدي عدم القدرة على تكوين علاقات ودية بآخرين إلى الشعور بالخواء الاجتماعي والعزلة» ولعل فلسفة اللامبالاة التي انتخبتها أرادت بها تهشيم ماضي الخطيئة الذي ولدت من صلبه، وحاضرها الذي يعيدها إليه كلما تفحصت ملامحها، ليقذف بها نهاية المطاف إلى شعور قوامه اللامعنى واللاجدوى «يعاني كثير من المراهقين من صراع العصر، ويخبرون إحساسا عميقا بالتفاهة، وبعدم التنظيم الشخصي، وبعدم وجود هدف لحياتهم، إنهم يشعرون بالقصور والغربة، وأحيانا يبحثون عن هوية سلبية، هوية مضادة للهوية التي حدد خطوطها الوالدان أو جماعة الأتراب، ويفسر البعض السلوك الجانح بهذه الطريقة» فشعورها بالفقد الذاتي واللاجدوى دفع بها للتفكير في التخلص من كيانها بالانتحار«أتمنى أن أنهي حياتي قفزا من هذا الجسر» وهو نتيجة حتمية للضياع الذي عاشته بقرف، والخدر العاطفي الذي سكن قلبها المتمردة، بسبب عدم قدرتها على التكيف مع محيطها وحقيقة ذاتها، الأمر الذي رسى بها إلى حالة من الكآبة واضطرابات في التفكير، إضافة إلى ما جره عليها تعاطيها للمارجوانا التي تهالكت عليها رغبة في تناسي مأساتها وهروبا من الواقع المرير؛ فأصبحت أحاديثها غير مترابطة وتفكيرها مشتتا «رسائلها الإلكترونية تشي باضطراب نفسية تمر بها ابنة خالتي. أزعجتني الرسائل التي لم أتمكن من فهم محتواها فهي أقرب إلى الهلوسة» .
لكن اليد التي امتدت لها من الرجل الوحيد الذي تألفه«أنت الرجل الوحيد الذي لا أحمل تجاهه شعورا عدائيا» أعطاها أملا جديدا في الحياة، وأخرجها من الذهول الذي ظلت تعيشه فترة مراهقتها في سفه وطيش«يرى أركسون أن الإحساس الخلقي يتطور مع إدراك الفرد لقيمة التزامه بصداقات باقية ومسؤوليات اجتماعية» ففي مرحلة الرشد المبكرة من حياتها؛ أي في سن العشرين المرحلة –كما يعتقد أركسون-التي يبحث فيها الفرد عن الاستقرار في شخص يقاسمه الحياة ويستكن له، وهي مرحلة حاسمة في حياة الفرد لتكوين علاقات اجتماعية راسخة«حاجتي لرجل أرفضه تخنقني» .
خضوع راشد:
راشد هو أب البطل هوزيه الذي لم يتمكن من إثبات وجوده عن طريق رسم طريقه الخاص بنفسه بل كان المجتمع ومن خلفه والدته يحددون مصيره دون أن يحرك ساكنا«ليس بيده القرار لان مجتمعا كاملا يقف ورائه» وهو شعور بالاستلاب صاحبه إلى وفاته، والملفوظات الحكائية تعبر عن حالة التبلد والخضوع للمجتمع في استسلام تام، يبرره ضعف شخصيته التي ربما بشكل ما أورثها لابنه فيما بعد. ولم يكن قراره من الزواج بالخادمة أو تمسكه بابنه إنبجاسا للمكبوت أو تحطيما للقيود الاجتماعية التي ضاقت نفسه بها أو انحلالا من السلطة التوتاليتارية لأمه، ولكنها رغبة في التنفيس؛ فهو لم يكن يرغب فعلا بها حيث تخلى عنها مباشرة بعد الزواج دون وجود تبريرات لهذا التصرف، ولعل إبقائه على ذلك الزواج سرا دليل على ذلك، وحتى تمسكه بابنه ومواجهته لأمه شابه ضعف كبير ورغبة متواصلة في التراجع لكن عندما علم أن ميلاد ابنه لن يعيده لحضن أمه، تخلى “أوديب” عن مسؤولياته وأذعن من جديد تحت جناح أمه في استسلام تام«لن استمر في لعبة لست اعرف قوانينها» فظل خاضعا حتى الممات لإرادة الآخرين، ولم يورد السرد تحقيقه أو استمراره في طريق انتخبه بنفسه، حتى روايته تلك التي هم بكتابتها مات قبل أن ينهيها، وربما تعمد عدم إكمالها تجنبا للويل الذي كان ليحل به بسبب النقد اللاذع الذي حمله فيها.
عزلة غسان:
غسان هو شخصية”البدون”التي تم تناول مأساتها في الفصل السابق، وقد عانى بسبب تلك الصفة اللصيقة ويلات الغربة داخل الوطن التي دفعه إليها النظام الاجتماعي دفعا، وجعلته يشعر معها بحالة من العجز وعدم القدرة على تحقيق الذات في واقع يرفضه، وينخر ذاته ويحطمها في لجة الوجود وصخبه، فينتبذ لنفسه مكانا قصيا وينعزل فيه عن الناس، يتجرع مرارة غربته وينحت ألمه فيها«لو سألت يوما كيف يبدو الحزن؟ سأجيب:”وجه غسان”» لم يكن باستطاعته أن يشعر بتقدير لذاته ما دام المحيط يهمشه ويقصيه خارج إطار الجماعة، ولعله «يندر أن يوجد بين الناس من يستطيع مواصلة الحياة السوية دون الدخول في النحن أو الشعور بالـنحن، و الذي يعتبر مظهرا جوهريا للتعامل الاجتماعي بين أعضاء أي جماعة. فالشخص داخل النحن يشعر ويفكر ويعمل باعتباره أنا في مقابل أنوات أخرى بل كعضو في جماعة» فرفض النحن له جعله يشعر بعزلته في فضائهم، وجعل وجوده مسطحا بلاقيمة، ما أدى به رغم حبه الشديد لوطنه للتصريح«أنا لست كويتيا» فالوطن الذي حارب من أجله لم يعد يستوعبه، فهو لم يتنصل من انتمائه إنما انتمائه تنصل منه، ليتركه من دون هوية وطنية ثم من دون هوية جماعية ثم من دون هوية ذاتية.
غنيمة ورهاب المستقبل:
غنيمة جدة هوزيه لأبيه، العجوز التي ظل المجتمع يسير حركاته، وعلى أساسه وبمنطقه أحكمت قبضتها على نواصي أبنائها، فلم تسمح لهم بانتخاب سبلهم بل كانت هي صاحبة القرارات إذ رفضت أن يتزوج ابنها بمن يحب، ثم رفضت حفيدها كونه من نسب وضيع، ثم رفضت أن تبني ابنتها حياتها مع شخص مهمش، فكانت المسيطرة على مقاليد الأمور.
لكن رغم ذلك كان أكبر همها وهاجسها الأسمى المستقبل وما يحمله، فصارت كل الحوادث بالنسبة لها إشارات لشيء ما، فاعتقدت بكل شيء، حتى أتفه الأشياء كانت توجسها وتثير حفيظتها«كانت متطيرة، تؤمن بما تراه في أحلامها[…]وتنظر إلى أي شيء[…]على أنه إشارة» لكن ذلك لم يجر لا عليها ولا على أسرتها إلا الويلات، حتى أنها ظلت تنتظر تحقق تنبؤاتها، وبذلك ظلمت كل من حولها من بينهم جوزافين التي اعتبرت مجيئها رسالة شئم«وصلت أمي إلى الكويت في وقت حرج. وقد تشاءمت جدتي كثيرا لقدومها» ذلك أن حلولها بالكويت تزامن مع تفجير الموكب الأميري، ومنها تنتقل اللعنة إلى ابنها.
ولعل ما يفسر قلقها من المستقبل، وكما يرى فرويد أن«التشاؤم لا يقع في حياة الفرد إلا إذا تكونت لديه عقدة نفسية[…]تجاه موضوع ما» فخوفها من انقطاع سلالة الطاروف هو الدافع وراء تطيرها«تخشى جدتك على ولدها كثيرا، فهو ليس ابنها الوحيد فحسب، بل إنه آخر الرجال في العائلة. اختفى الذكور من أسلافه مع سفنهم الشراعية» لكن خوفها لم يمنع ذلك، فكانت غنيمة «تتمنى أن ترى ذرية راشد، الذكور تحديدا، أولائك الذين من شأنهم أن يضمنوا استمرار لقب الطاروف[…]أما وقد استشهد أبي أثناء الاحتلال دون أن ينجب ذكرا، على اعتبار أنني مجرد”شيء”[…]فقد أصبح استمرار لقب الطاروف أمرا مستحيلا» .
ثانيا: الاغتراب النفسي
مفهوم الاغتراب من مدلوله النفسي ملتبس إلى حد بعيد، فكثيرا ما ينظر إليه على أنه مجموع العمليات النفسية، التي تجر الفرد غالبا للانكفاء على ذاته واعتزال المجتمع، ولكنه أقسى وأعمق مما يعتقدون«إنه انفصام الذات عن ذاتها لتغترب عنها كآخر[…]فالشيزوفرينيا هي أم الاغتراب» .
ويجسد هذه الحالة داخل المنجز شخصية”مندوزا”، وهي شخصية غير سوية، تعاني اضطرابا ذهانيا حادا، وذلك إثر ما عانته من أزمات في حياتها، وإن أعرض السرد عن إيراد تفاصيلها«مر بظروف قاسية في شبابه» فهذه الأزمات التي تكبدها جعلت قلبه يتصلب وتفاعله مع محيطه الأسري ينحسر، ولعل من كبرى أزماته مجهولية نسبيه، لذلك كره من حوله وكره حفيديه؛ إذ ظل يكرر في نوبات هذيانه«أكره مجهولي الآباء» ينضاف إلى ذلك الأزمة التي أطاحت بكيانه نهائيا في حرب الفيتنام«في جبال فيتنام، سلب الثوار الموالين للشمال إنسانية أبي[…]لابد أنه مر بما لا يمكن وصفه، ليعود[…]بهذه الصورة التي تراها» .
فاستئناس مندوزا لمصارعة الديوك وتبديد أمواله فيها، ما هو إلا رغبة في التنفيس عن الضغوطات التي ظلت تستبد وتفتك بأعماقه«وما إدمانه على مراهنات مصارعة الديوك هذه إلا شكل من أشكال التنفيس عن الغضب» فالعنف والعصبية التي يلجأ إليها الفرد هي وسيلة للانتقام من واقع غير منصف، وهي حيلة دفاعية يثيرها اللاشعور حتى لا يتعرض الفرد للتضرر من جديد، وذلك بترهيب كل من حوله، وكأنه يسقطهم في مواقف الماضي التي تسببت له بالصدمة النفسية، فلعله يلوم كل من حوله على مصابه«يكمن الاغتراب في أصل العنف ويكمن العنف في أصل الاغتراب» فإن حالة الاغتراب عمن حوله جعلت إنسانيته تغيب في غمرة مأساته، لتهمد مشاعره الأبوية؛ إذ دفع ابنته لبراثم الخطيئة التي عرضتها للإكراهات وللعنف الجندري، دون أن يتحرك إحساسه الأبوي مستغلا خضوعها ومستثمرا جسدها من أجل المال وحده«لا ينظر الأبوان إلى وجه ابنتهما، فنظرهما لا يتجاوز خاصرتها حيث حقيبتها. وتعود أحيانا بشفة متورمة أو أنف دام أو بكدمة زرقاء داكنة في فكها» .
إن حالة الذهول التي أصيب بها مندوزا إثر ما مر به في حرب الفيتنام جعل شخصيته تنهار وتتقهقر«كان يبكي بكاء مكتوما[…]”أنا ضعيف..أنا وحيد..”» لذلك سعى لإخفاء هذا الضعف في ثنايا شخصيات أخرى، اصطنعتها ذاته من أجل التأقلم مع الواقع« التعامل مع مندوزا يعني التعامل مع رجال عدة، لكل منهم أسلوبه وذوقه بل وحتى تفكيره» حيث أصيب”مندوزا”بانفصام متعدد في الشخصية.
كانت تصيبه بين الحين والآخر نوبات هلع حادة أفقدته عقله نهاية المطاف، ضف إلى ذلك ما جره عليه إدمانه “للتوبا”والتي أسهمت هي الأخرى في تشتيت شخصيته وفصمها، وسحبته نحو الاغتراب.
ثالثا: الاغتراب الديني
يجسد هذا النوع من الاغتراب شخصية البطل”هوزيه”، الذي رسم رحلة بحثه عن دين حقيقي عندما وجد نفسه معلقا بين دينين لا يعرف عنهما سوى الاسم؛ المسيحية والإسلام«يصبح عقل المراهق عقلا إيديولوجيا يبحث عن الأفكار الملهمة والموحدة» لذلك راح يبحث عن هويته الدينية، في غمرت الأديان التي ثقفها، لكن المؤسسة الدينية«حين تخفق[…]في توفير مغزى واضح وملموس، تفقد كثيرا من معناها بالنسبة له وقد يتحول عنها إلى غيرها» هكذا بقي يتخبط بين أديان شتى، ذلك أن أيا منها لم يحقق في داخله التوازن الذي يرجوه، ولعل ذلك بسبب الفهم المنقوص لأصحاب الديانة، فتجده يخفق في كل مرة في إيجاد طريقه بسبب إخفاق الإيديولوجيات المحيطة، وكذلك عدم اهتمام والديه بتلقينه تعاليم دين معين«أهملت والدتي تربيتي دينيا، على يقين أن الإسلام ينتظرني مستقبلا في بلاد أبي» لكنه حين وصل لبلاد أبيه لم يلق منهم القبول، الذي يدفعهم للاهتمام بما يؤمن به، بل كان اهتمامهم مرتكزا لحمله على الرحيل.
ومن صور الاغتراب التي عاشتها الشخصية، جهلها بالشعار الدينية الصحيحة، فتراه يصلي في المعبد بطقوس مسيحية، ويصلي في المسجد بطقوس خاصة به«تنصيب نفسي نبيا لدين لا يخص أحدا سواي» ولعل دينه الخاص مستوحى من مجمل الديانات أو من أفضل ما حوته الديانات «في أذني اليمنى صوت الأذان يرتفع. في أذني اليسرى قرع أجراس الكنيسة. في أنفي رائحة بخور المعابد البوذية يستقر. انصرفت عن الأصوات والرائحة، والتفت إلى نبضات قلبي المطمئنة، فعرفت أن الله ..هنا» لأنه حينما كان يمارس الطقوس الدينية يعترف بعدم اسوعابه لمنطق بعض الشعائر الغريبة وذلك يخلخل الإيمان بداخله«الأديان أعظم من معتنقيها» لكنه يسلم بها حذو من حوله حتى لا يفقدوا إيمانهم به أو يستنكروا فعله فيحدث ذلك شرخا وفجا في العلاقات التي تجمعه بهم«نتظاهر بالإيمان، ونمارس طقوسا لا نفهمها، خوفا من خسارة شيء نؤمن به» .
ومن المفارقات الدينية تسمية”عيسى”، ولعل صاحب البامبو انتخب لبطله ذاك الاسم موازاة لاسم المسيح، الذي جر ليدفع حياته-كما في الاعتقاد المسيحي- ليكفر عن أخطاء غيره، وبالفعل ما حصل لهوزيه الذي دُفع إلى أتون الغربة ليكفر عن أخطاء والديه، في خضم رحلة حياة سيزيفية استنزفت هويته.
رابعا: الاغتراب الأسري واللغوي
شخصية خولة:
ظلت خولة تعاني من اغتراب مزدوج، فرغم حب أهلها لها، إلا أن ذلك الحب لم يستطع منحها الاستقرار النفسي الذي تحتاجه، فقد ظل الفج الذي يبعدها عنهم في الاتساع«هي وحيدة بالرغم من أنها محاطة بجدتي وعماتي» يدفعها ذلك لتحذو حذو أبيها؛ وتحاول إكمال حلمه لا حلمها لأن المراكز الاجتماعية منعتهم حتى الحلم«قبل أن تقع في الحب[…]يجب أن تختار الفتاة التي سوف تحبها» هذه إجابة الجدة لابنها لما أعرب عن رغبته في الزواج من فتاة أحبها من طبقة دون طبقتهم، فالمشاعر والأحلام ترهن في صدوع تلك المراكز، ليكبل المجتمع عواطفهم ويوجه أحلامهم، وكثيرا ما يجهضها إن بدت له دون المستوى. لذلك بقيت تعاني الوحدة، تلك التي تدفع الفرد كما يرى العديد من علماء النفس في أحسن الأحوال إما إلى ممارسة نوع من الفنون كالنحت أو الرسم..أو إما إلى أحلام اليقظة، أو إما إلى معاقرة القراءة كما حصل مع خولة وأبيها اللذين انتخبا الكتاب مؤنسا«كلما شعرت بالحاجة إلى شخص يحدثني..فتحت كتابا» أما إن شعرت بحاجة لشخص تحدثه هي وتفضي له«عزيزة..خير من ينصت إلي» وعزيزة هي السلحفاة التي اتخذتها خولة هي الأخرى خليلة بدلا من البشر.
أما عن الاغتراب اللغوي الذي لم يحظ بالكثير من الاهتمام من طرف السارد، لذلك ورد معالجته لهذا الموضوع مقتضبة، فخولة أعربت عن عدم رغبتها بالتواصل بلغتها القومية، وذلك راجع لمواكبة المد العولمي للعديد من الشباب؛ هذا المد الذي وكثيرا ما حاول محو اللغة القومية وفرض اللغة الانجليزية، على اعتبار أنها لغة الأقوى، لذا فهي الوحيدة القادرة –بمنطقهم- على إحداث اللحمة الكونية. أما الروائي فقد بدا رافض لهذا التوجه، فاختار مقولة للكاتب القومي”خوسيه ريزال” لتعبر عن توجهه، جاء فيها«إن الذي لا يحب لغته الأم هو أسوأ من سمكة نتنة» .
شخصية هوزيه:
أما شخصية”هوزيه” رغم جهلها التام باللغة العربية«كم كنت أحتاج إلى العربية» كونها لغة التواصل اليومي الرسمية في المجتمع الذي حل به(مجتمع أبيه)، إلا أنه لم يحاول جاهدا رغم السنتين التي قضاهما هناك تعلمها، لكنه رغم ذلك أعرب في العديد من المناسبات عن حاجته إليها لفهم غيره«كأنني أشاهد فلما بلغة أجهلها، من دون ترجمة» لكن السرد يبرر ذلك بقول الكاتب على لسان بطله«الكلمات الطيبة لا تحتاج إلى ترجمة، يكفيك أن تنظر إلى وجه قائلها لتفهم مشاعره» لأن الشحنة التي تبثها الدفقات العاطفية للنفس في شكل موجات، سواء أكانت موجبة أو سالبة، يستوعبها الآخر، إذ هي ليست بحاجة إلى لغة تفسرها فهي لغة في حد ذاتها.
ويكشف الخطاب عن صورتين متوازيتين لنفس القيمة الأسرية؛ حيث أن أسرته في الفلبين كانت تستغل وجوده على أرض الكويت لتحسين أوضاعها المادية، غير عابئة بما يمر به من قهر، في المقابل أسرته الكويتية التي حاولت استرقاقه خوفا من اهتزاز المكانة الاجتماعية، ورغبة في تشويش الواقع، وتعمية الحقيقة عن طريق تغليف كيان الذات، جسده الاعتراف المنقوص المهتز، والعلاقة الأسرية المهترئة التي كانت تدفع به في كل مرة نحو الحضيض«إذا ما سألك أحد[…]أنت الطباخ الجديد» وكما يقول نزار قباني:”نحن أقوام لبست قشرة الحضارة وارتشفت روح الجاهلية” فبلاده رغم أنها شرعت ذراعيها واسعة لاستقبال موجات الحضارة والعولمة، إلا أنها لم تستطع التخلي عن ذهنية القبيلة التي تدين بالتعصب والتمركز وتسيج تخومها الإثنية، ليثكل أبنائها لرجعية التفكير، مدانين بجرم وقع عليهم.
خامسا: اغتراب الأمكنة وارتداد الذاكرة
على الرغم من أن أرض الكويت تشكل جزءا من ذات الشخصية البطلة”هوزيه”، فهي أرض أبيه التي نبذ منها طفلا، إلا أن وجدانه لم يحفل بأي مشاعر تجاهها، فقد نشأ حتى مرحلة متأخرة من حياته في أرض الفلبين، التي حوت أحلامه وشكلت ذاكرته الأولى، وعلى الرغم من أن الأنا الأعلى يظل يعانده ليزرع في دواخله حب الوطن الأول«كنت لا أتصور نفسي في مكان غير أرض جدي[…]ولكن، ومع صعوبة الحياة والصورة التي كانت ترسمها لي أمي[…]أقنعتني[…]أننا نعيش في الجحيم، وأن الكويت هي الجنة التي أستحق» حيث ترتسم الأنا المثالية في حلم مرتقب، لكن الخبرات الواقعية التي عايشها في الكويت تولد صدام بين الواقع والحلم، فيتكون الصراع الداخلي الذي يوحي لانتكاسة الذات، ليحضره الوطن المنشأ في شكل فلاش باك، ويظل يفرض نفسه بقوة ويبث في خلجاته موجات الحنين، التي راحت تشده إليها شدا«في عزلتي هذه وجدتني اشتاق إلى عائلتي هناك بشكل مرضي» .
تتوزع أحداث الرواية عبر فضائين:
1- الهنا(الكويت)وقبل أن تكون”هنا”كانت تشكل الأمل والخلاص والنعيم المؤجل، ولكن عند الاتصال المادي بها، والاصطدام بالواقع، حدث شرخ في المكنونات الوجدانية للشخصية؛ إذ خاب أفق انتظاره، وحل محل العاطفة المشحونة بالحنين شعورا بالاغتراب.
2- الهناك(الفلبين)وقبل أن تكون”هناك”كانت تجسد الجحيم والعجز والفقر المادي والعاطفي، أما عند الانفصال المادي وتحولها إلى”هناك”، حدث اتصال عاطفي إذ وعت الشخصية مدى الدفء الذي كان يحتويها هناك«فالماضي يبرز بقوة بعد أن يتعثر الحاضر وتبطل آمال المستقبل» لذا تفضل الذات العودة بذاكرتها إلى الوراء إلى الهناك رفضا للواقع الصادم، وحنينا لماض أكثر حميمية.
صارت الكويت تشكل فضاء للاستذكار، بفعل الجواء العاطفي الذي ما فتئت تصرفه بسخاء لصالح شخصياتها، ما أحدث في دواخلهم شعورا بالاغتراب مصحوبا بموجات نوستاليجيا للعرين المنشأ، ففي كل مرة تحرك ذكراه أحداث طارئة ترتد به إلى وطن أمه«في وجبة الغداء الأولى مع جدتي وعمتي وأختي[…]سرحت أفكر في ماما أيدا وأمي وأدريان» فجلوسه قبالة العائلة التي ترفضه حرك حنينه إلى عائلة أمه التي تحبه. فتنبت في نفسه ومضات في الذاكرة تعيده إلى أرض مندوزا«مالي لا أسعد بهدايا عائلتي الكويتية كسعادة خالي بيدرو بقداحة السجائر التي لا تتعدى قيمتها المئة فلس» .
إن وجوده في أرض أبيه وبعد عدة مقارنات تتضح له الفوارق التي أحدثها المد الحضاري والترف المادي في صلب النفوس المجهدة، وشكل الفراق المنعرج الحاسم الذي استطاعت من خلاله الذات إدراك الآخر الفلبيني ومدى عمق ووطادة العلاقة الجامعة بينه وبينهم«وجودي في الكويت جعلني أتعرف على الفلبينيين بشكل أوضح» .
ولعل الاغتراب الذي عانى منه كل واحد منهم مؤداه الظروف التي عاناها على غرار الآخرين، فكل واحد منهم حتى وإن كانت تضمهم أسرة واحدة، ومنشأهم منزل واحد، فإن الظروف من المؤكد أن تختلف، حتى التفاصيل الصغيرة لابد في النهاية أن تحدث فرقا، وهو ما وضحته النماذج السالفة الذكر.
—