لم نكن نتوقع وفاته العاجلة في 13 حزيران 2000 في أحد مستشفيات باريس. فقد كان لا يزال على أعتاب سن الرجولة، وكنت قد تركته قبل رحيله بأسابيع قليلة في سهرة مع صديق مشترك .
الفقيد علي باباخان كان باحثا أكاديميا متمرسا، وخصوصا في الشؤون الكردية، وعلى الأخص قضية الأقلية الكردية الفيلية، التي كان هو من بين نخبتها المثقفة اللامعة. وقد كان من المناضلين الصلبين ضد نظام صدام، ومن عائلة تعرضت لحملات التهجير الظالمة، التي تعرض لها، وخصوصا في عشية الحرب العراقية – الإيرانية، حوالي أكثر من 400 ألف فيلي وعشرات الآلاف من الشيعة العرب. وقد شردوا الفقيد مع عائلته في تلك الموجة العنصرية، الطائفية، الفاشية من تهجير المواطنين العراقيين بتهمة “التبعية” لإيران. وهذه مأساة كبرى من جرائم صدام وصفحاتها الدامية وهي معروفة للعالم.
استطاع علي باباخان الاستقرار في باريس، وأكمل في جامعاتها تحصيله العالي. فنال شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون. وقد كتبت في الذكرى السنوية الثانية لرحيله كلمة لصحيفة “نداء الكرد”، التي كانت تصدر من لندن، ورد فيها:
“انصرف الدكتور الفقيد إلى البحث والكتابة، والمشاركة في العشرات من الندوات دفاعا عن قضية الكورد والشعب العراقي، داعيا في جميع كتاباته وندواته لإزاحة النظام الفاشي في العراق، ولقيام نظام ديمقراطي وفيدرالي وتعددي في العراق. وكان يؤكد أن الديمقراطية الحقيقية هي التي تضمن الفيدرالية لكردستان العراق، وتطلق حريات الشعب العراقي وقواه الوطنية، وتضمن الحقوق الثقافية والقومية والدينية لكل الأطياف العراقية. وإن الديمقراطية هي التي تعيد المهجرين إلى مدنهم وبيوتهم، وتعوضهم عما سلبه منهم زبانية النظام، وتطلق سراح أبنائنا المحتجزين، وتسن دستورا عصريا إنسانيا يضمن حقوق الإنسان ويساوي بين العراقيين.”
تعرفت على الدكتور علي في منتصف التسعينات بواسطة الأستاذ الدكتور قيس العزاوي، السفير حاليا، والذي كان من لوالب تجميع العراقيين في فرنسا. وأتذكر أن لقاءنا الأول كان انفراديا في مقهى باريسي، وكان للتعرف الواحد على الآخر، بعد فترة طويلة من الحساسيات بسبب عزلتي عن الجالية العراقية في فرنسا خلال عملي في اليونسكو. وتعددت لقاءاتنا، معا، أو مع أصدقاء آخرين، حتى جاءني يوما، وقال إن الأستاذ جلال طالباني في باريس، ومن اللائق زيارته. وكان آخر لقاء لي مع مام جلال عام 1965 في سهرة بمدينة براغ، على ما أتذكر. ولكن السياسة سرعان ما فرقتنا، وأي فراق، كما حال السياسة في بلادنا، حيث تطغي الخلافات السياسية على العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ولحد أن تتحول الصداقة أحيانا إلى كراهية وعداء.
لا أكتم أنني كنت متوجسا من اللقاء بعد انقطاع سنوات جفاء حاد. وقد ذهبت مع علي باباخان إلى مقر حزب طالباني في ضواحي باريس، فاستقبلنا ببشاشته المعروفة وكأننا كنا قد افترقنا صديقين كما كنا، لا افتراق خصام.
وقد انغمرت في الحديث وكثرت أسئلتي عن الوضع العراقي، واستمر اللقاء حوالي الساعتين. ثم غادرنا مقر الحزب، وما أن نزلنا لمحطة المترو، حتى نظر إلي علي باباخان نظرة عتاب شديد، وقال: “لقد احتكرت أنت الحديث بينما كنت أريد أن أجرى مع مام جلال حوارا للصحف.” فاعتذرت، وقلت إنه كان عليه إعلامي مسبقا برغبته تلك لكي أهي الفرصة الكافية للحوار.
ألف الفقيد مرجعين هامين: أحدهما بعنوان ” العراق: 1970 – 1990 ، تهجير الشيعة”. والثاني كتابه الصادر بالفرنسية عام 1994 بعنوان “أكراد العراق وتهجيرهم على أيدي نظام صدام حسين.” والكتاب الثاني يتناول تفصيلا جرائم النظام في أحداث حلبجة وحروب الأنفال وتهجير الكورد الفيليين. وقد عالج المؤلف موضوعه بالاستناد إلى العشرات من الوثائق واللقاءات والشهادات الشخصية. كما نشر الدكتور باباخان عشرات من المقالات والأبحاث في الصحف والمجلات العربية. وشغل مركز نائب رئيس قسم العلوم الاجتماعية في المعهد الكردي في باريس، وأدار مجلة “دراسات كردية”، التي كانت تصدر من العاصمة الفرنسية. وفي بحث له في مجلة “الملف” فضح مدى الإنفاق العسكري للنظام المنهار. ففي 1998، كان النظام في المرتبة الأولى عربيا من حيث النفقات العسكرية، وفي المرتبة الثالثة دوليا- حيث بلغت نسبة 15 بالمائة من مجموع الناتج الوطني، وكان ترتيبه بعد كوريا الشمالية ونظام ميلوسوفيتش.
رحل تلك الشخصية المثقفة، والمهذبة، والمرحة فجأة في 13 حزيران 2000، ودفن في 16 منه في مقبرة كبار شهداء النضال الثوري الفرنسي والعالمي، وحل قريبا من مثوى المناضل الكردي الكبير عبد الرحمن قاسملو. وقد ذهبت لتشييعه للمقبرة مع قيس العزاوي، وكان هناك عدد كبير من الشخصيات العراقية، والكردية، ومنهم من قدموا من خارج فرنسا. ومن بين من التقيت بهم الدكتور عادل عبد المهدي، الذي جاءني بعد الدفن، وقامت بيننا بعده علاقة صداقة ومراسلات ونداءات هاتفية حتى ذهابه لبغداد. كما شاركت مع أصدقاء آخرين في مراسيم أربعينية الفقيد في مسجد باريس الكبير، وعزيت السيدة زوجته. وفي تلك المناسبة، تعرفت على عدد من الشخصيات الكردية الفيلية الذين جاؤوا من دول غربية أخرى.
كان رحيل الدكتور علي باباخان خسارة كبيرة للعراق وللشعب الكردي، والبحث الأكاديمي، وكان ضربة موجعة لعائلته وكل محبيه. ولا تزال صورته ماثلة أمامي حين سهرنا ذات مساء مع شخصية كردية من السليمانية، وكان يتحفنا خلال السهرة بمزاحه ومرحه وقيامه وقعوده بقامته الفارعة. ولحد اليوم، لا أستطيع تصديق أنه تركنا هكذا بسرعة وقبل الأوان. فلتبق ذكراه حية في قلوب جميع من عرفوه وأحبوه. ومع أن الفقيد رحل عن مرض، فإن كتابتي عنه تقترن بذكرى الشهيد الفيلي – وكم للفيلية من شهداء! فعلي باباخان، لم يقصّر في التذكير بمحنة أهله، وطرح قضيتهم كقضية عراقية وإنسانية. فمجدا ليوم الشهيد الفيلي! ومجدا لعلي باباخان!
الفقيد علي باباخان كان باحثا أكاديميا متمرسا، وخصوصا في الشؤون الكردية، وعلى الأخص قضية الأقلية الكردية الفيلية، التي كان هو من بين نخبتها المثقفة اللامعة. وقد كان من المناضلين الصلبين ضد نظام صدام، ومن عائلة تعرضت لحملات التهجير الظالمة، التي تعرض لها، وخصوصا في عشية الحرب العراقية – الإيرانية، حوالي أكثر من 400 ألف فيلي وعشرات الآلاف من الشيعة العرب. وقد شردوا الفقيد مع عائلته في تلك الموجة العنصرية، الطائفية، الفاشية من تهجير المواطنين العراقيين بتهمة “التبعية” لإيران. وهذه مأساة كبرى من جرائم صدام وصفحاتها الدامية وهي معروفة للعالم.
استطاع علي باباخان الاستقرار في باريس، وأكمل في جامعاتها تحصيله العالي. فنال شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون. وقد كتبت في الذكرى السنوية الثانية لرحيله كلمة لصحيفة “نداء الكرد”، التي كانت تصدر من لندن، ورد فيها:
“انصرف الدكتور الفقيد إلى البحث والكتابة، والمشاركة في العشرات من الندوات دفاعا عن قضية الكورد والشعب العراقي، داعيا في جميع كتاباته وندواته لإزاحة النظام الفاشي في العراق، ولقيام نظام ديمقراطي وفيدرالي وتعددي في العراق. وكان يؤكد أن الديمقراطية الحقيقية هي التي تضمن الفيدرالية لكردستان العراق، وتطلق حريات الشعب العراقي وقواه الوطنية، وتضمن الحقوق الثقافية والقومية والدينية لكل الأطياف العراقية. وإن الديمقراطية هي التي تعيد المهجرين إلى مدنهم وبيوتهم، وتعوضهم عما سلبه منهم زبانية النظام، وتطلق سراح أبنائنا المحتجزين، وتسن دستورا عصريا إنسانيا يضمن حقوق الإنسان ويساوي بين العراقيين.”
تعرفت على الدكتور علي في منتصف التسعينات بواسطة الأستاذ الدكتور قيس العزاوي، السفير حاليا، والذي كان من لوالب تجميع العراقيين في فرنسا. وأتذكر أن لقاءنا الأول كان انفراديا في مقهى باريسي، وكان للتعرف الواحد على الآخر، بعد فترة طويلة من الحساسيات بسبب عزلتي عن الجالية العراقية في فرنسا خلال عملي في اليونسكو. وتعددت لقاءاتنا، معا، أو مع أصدقاء آخرين، حتى جاءني يوما، وقال إن الأستاذ جلال طالباني في باريس، ومن اللائق زيارته. وكان آخر لقاء لي مع مام جلال عام 1965 في سهرة بمدينة براغ، على ما أتذكر. ولكن السياسة سرعان ما فرقتنا، وأي فراق، كما حال السياسة في بلادنا، حيث تطغي الخلافات السياسية على العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ولحد أن تتحول الصداقة أحيانا إلى كراهية وعداء.
لا أكتم أنني كنت متوجسا من اللقاء بعد انقطاع سنوات جفاء حاد. وقد ذهبت مع علي باباخان إلى مقر حزب طالباني في ضواحي باريس، فاستقبلنا ببشاشته المعروفة وكأننا كنا قد افترقنا صديقين كما كنا، لا افتراق خصام.
وقد انغمرت في الحديث وكثرت أسئلتي عن الوضع العراقي، واستمر اللقاء حوالي الساعتين. ثم غادرنا مقر الحزب، وما أن نزلنا لمحطة المترو، حتى نظر إلي علي باباخان نظرة عتاب شديد، وقال: “لقد احتكرت أنت الحديث بينما كنت أريد أن أجرى مع مام جلال حوارا للصحف.” فاعتذرت، وقلت إنه كان عليه إعلامي مسبقا برغبته تلك لكي أهي الفرصة الكافية للحوار.
ألف الفقيد مرجعين هامين: أحدهما بعنوان ” العراق: 1970 – 1990 ، تهجير الشيعة”. والثاني كتابه الصادر بالفرنسية عام 1994 بعنوان “أكراد العراق وتهجيرهم على أيدي نظام صدام حسين.” والكتاب الثاني يتناول تفصيلا جرائم النظام في أحداث حلبجة وحروب الأنفال وتهجير الكورد الفيليين. وقد عالج المؤلف موضوعه بالاستناد إلى العشرات من الوثائق واللقاءات والشهادات الشخصية. كما نشر الدكتور باباخان عشرات من المقالات والأبحاث في الصحف والمجلات العربية. وشغل مركز نائب رئيس قسم العلوم الاجتماعية في المعهد الكردي في باريس، وأدار مجلة “دراسات كردية”، التي كانت تصدر من العاصمة الفرنسية. وفي بحث له في مجلة “الملف” فضح مدى الإنفاق العسكري للنظام المنهار. ففي 1998، كان النظام في المرتبة الأولى عربيا من حيث النفقات العسكرية، وفي المرتبة الثالثة دوليا- حيث بلغت نسبة 15 بالمائة من مجموع الناتج الوطني، وكان ترتيبه بعد كوريا الشمالية ونظام ميلوسوفيتش.
رحل تلك الشخصية المثقفة، والمهذبة، والمرحة فجأة في 13 حزيران 2000، ودفن في 16 منه في مقبرة كبار شهداء النضال الثوري الفرنسي والعالمي، وحل قريبا من مثوى المناضل الكردي الكبير عبد الرحمن قاسملو. وقد ذهبت لتشييعه للمقبرة مع قيس العزاوي، وكان هناك عدد كبير من الشخصيات العراقية، والكردية، ومنهم من قدموا من خارج فرنسا. ومن بين من التقيت بهم الدكتور عادل عبد المهدي، الذي جاءني بعد الدفن، وقامت بيننا بعده علاقة صداقة ومراسلات ونداءات هاتفية حتى ذهابه لبغداد. كما شاركت مع أصدقاء آخرين في مراسيم أربعينية الفقيد في مسجد باريس الكبير، وعزيت السيدة زوجته. وفي تلك المناسبة، تعرفت على عدد من الشخصيات الكردية الفيلية الذين جاؤوا من دول غربية أخرى.
كان رحيل الدكتور علي باباخان خسارة كبيرة للعراق وللشعب الكردي، والبحث الأكاديمي، وكان ضربة موجعة لعائلته وكل محبيه. ولا تزال صورته ماثلة أمامي حين سهرنا ذات مساء مع شخصية كردية من السليمانية، وكان يتحفنا خلال السهرة بمزاحه ومرحه وقيامه وقعوده بقامته الفارعة. ولحد اليوم، لا أستطيع تصديق أنه تركنا هكذا بسرعة وقبل الأوان. فلتبق ذكراه حية في قلوب جميع من عرفوه وأحبوه. ومع أن الفقيد رحل عن مرض، فإن كتابتي عنه تقترن بذكرى الشهيد الفيلي – وكم للفيلية من شهداء! فعلي باباخان، لم يقصّر في التذكير بمحنة أهله، وطرح قضيتهم كقضية عراقية وإنسانية. فمجدا ليوم الشهيد الفيلي! ومجدا لعلي باباخان!