هذه الرواية ..أشهد أنها مرحلة روائية جديدة ليست فقط ضمن مراحل التجاوز الإبداعي للروائي إسماعيل .ف. إسماعيل ،بل هي مرحلة ذات قوس روائي جديد يشهر الروائي إسماعيل ..وهذا الجهد يقتنص قارئاً بمنزلة نوعية أعلى من التي أمتازت به رواياته بتجربتها الخلاّقة ..أيها القارىء تخلى عن كل وقت وأرتدي عدة الغوص وأهبط في تماوجات هذا الفضاء الروائي الغميق ..لن تحصل على لؤلؤة أو لؤلؤتين ..ستلتقط سيدة اللؤلؤة : الدانة وفي لحظة إنبثاقك من العمق ستتدلى من عنقك : قلادة من الدانات .. يالهذه القراءة التي تهبني ثراءً يغمرني بسعادات مبللة بطراوة الضحى الأنيق ..
(*)
هي رواية صوتية مشروطة بغياب الصوت الحواري / الديالوج ، والغياب مشروط بتوقيت معلن في الصفحات الأخيرة من الرواية (أنت مُنذ كاتم الصوت صرت بلا صوت../ 158).. مابين القوسين هو الخلية السردية الرئيسة / الموقتة في الرواية . والمسرود من الصفحة الأولى في الرواية حتى الصفحة الأخيرة هي فاعلية تقويل الصامت ، عبر ذلك الكائن الإفتراضي أعني حنظلة الذي يشغل وظيفة: القرين / الرابط التفاعلي / الشطر المتمم للذات بل الأكثر بقاءً منها
كما يخاطبه ناجي العلي ..(أنت فكرة ، والأفكار لاتموت بموت أصحابها../ 126)
وهذه الكائنية الإفتراضية لها مبررها السردي ..(أن تقضي زمنك السريري تتبادل حديثك مع كائن افتراضي .ليس تذمرا بمعناه لكنّه التكرار في لامعقوليته ../147)
(*)
مثنوية المطبوع
قبل دخول إلى كل نص من نصوص الرواية يستقبلنا نص لمحمود درويش
ومن خلال هذا الهدب النصي نأخذ شهيقا عميقا لنستأنف الغوص بعدها، في الفصل المعلّم ترقيميا، الهدب النصي الدرويشي هو خارج نص الروائي ..ربما بوظيفة حاشية ..وهذا الهدب يحيلني لدرويش مرة (2) وأخرى لكتاب (رسومات ناجي العلي الإنسان والثائر)(3)
(*)
مثنوية التشكيل الروائي تتوزع بين ثلاث رجال
*إسماعيل .ف . إسماعيل
*محمود درويش
*ناجي
العتبة النصية / الإهداء ينتقل من العام المثنوي : المرأة – الحياة …
إلى الخاص المسمّى : هدى المقاطع ..
العام :إلى المرأة من موقع الحياة
غرف الفصول أبوابها درويشية الصناعة بنكهة خطوط ناجي العلي
(*)
تنصيص من العنقاء والخل الوفي ../ 17
(*)
تشتغل سيرورة الرواية بتوقيت ماتبقى من رمق ناجي العلي في لحظاته الأخيرة التي أمتدت حسب ص55 وبشهادة زوجته وداد ..(ياناجي ..اليوم هو الثالث والثلاثون لك منذ ..).. ولحظة الرواية مرتهنة بين قوسيّ ناجي العلي ومايتموضع بينهما (ذاكرة وقتية ذات ارتباط بمكان محدد /42) وبقية حياة بين (بين النوم وغياب الوعي ../42)..
(*)
خلية السرد الموقوته هي الوحدة السردية التالية وبشهادة بقية ناجي العلي نفسه
(كيف لي أن أشغلني عن التسليم لقوة قاهرة بقدر ماهي غامضة ، ها أنا أعاني نوعا من ثقل نوعي يجرنيّ نحو العمق منيّ، أمر وحيد عَلِق بوعيي قبل غيابي
تمثل بسماعي صوت تصفح أوراق كتاب ../ 68)..
هنا يتضح تصارع القوتين في بقية ناجي العلي :
*هيمنة القوة الضاغطة التي تشفطه بإندراج بطيء نحو العالم السفلي ، وصعوبة التملص / الصعود ..إلى ما يجاور السطح ..(الأمر الذي يزعجني يتمثّل بعودتي منبثقا نقطة صفر وسط محيط لاحدود له، ولافرق إن كان ذاك المحيط أسود َ، رماديا، حليبيا. يزعجني أكثر إحساسي بغربتي تجاهي ، أنفق ردحا من زمن لا أدرك كنهه محاولا معرفة كيف حدث ، لماذا هنا../ 41- 42)..
*إنجاذبية حيوية الفني التي تغمره بحفيف أجنحة الحياة : سماعي تصفح أوراق كتاب .
(*)
المقبوس من ص 68 ..أعني مابين القوسين ، هو ذرة الرواية التي يطحنها الروائي إسماعيل ..ثم يبرمها حبلا رشيقا ليعلق عليه : أزمنة وأمكنة وينتقي شخوصا وحالات ..بحيث أشعر أنا قارىء الرواية مقداد مسعود أنني جالس في الغرفة التي يتمدد فيها ناجي العلي .. وهي الغرفة / التابوت بطبعته الأولى وهي غرفة السكون الثقيل الذي تهدر في طبقاته السفلى حركية جوانية بين :
الواحد / المثنوي : ناجي / حنظلة ..(تبادلنا حنظلة وأنا حديثنا المطوّل تسبب لي بنوع من إرهاق غير محسوب..أخذني عميقا قاطعا اتصالي بي ../41)
:(حنظلة هو مَن يوجّه سؤاله لي ../44)..
:(تدريني لاأفكّر إلاّ من خلالك ، لاأدعي معرفة أكثر مما تعرف /47)
علي كقارى منتج أنا مقداد مسعود : مغادرة الفضاء الروائي لإسماعيل فهد إسماعيل والبحث عن وجيز سيرة قناع ناجي العلي : أعلن (حنظلة عن نفسه في بيانه الشهير عام 1969 فقد أحتفظ بوعي طفولي حافظ عليه وصار حارسه ُ حتى آخر لحظة …مما سمح له بالدور الذي لعب على سطح مالايقل عن أربعين ألف رسم نشرها ناجي في صحف مختلفة . حنظلة ضمير متقد وشاهد لايغيب عن صغيرة أو كبيرة../ 10- رسومات ناجي العلي / الإنسان والثائر)..
(*)
مَن قتل َ ناجي العلي ..؟ سيكون الجواب الأعلامي : أعداء الثورة الفلسطينية ؟ وهذا الجواب لايخلو من كوميديا رثة !! لأنه العباءة التي توسق القاتل الحقيقي ..
تختلف عن قاتل حسين مروّة ..تختلف عن قاتل مهدي عامل وكذلك عن قاتل صبحي صالح ..
ناجي العلي وبشهادة مسؤول فصيل نضالي فلسطيني (صداع نصفي يؤرق كل من يتعاطى الشأن الفلسطيني ../ 72)..مسؤول فلسطيني أكبر منزلة شبه يرى: (هذا الرسام دمّل مُحرج ينبغي التخلص منه ُ جراحيا ..)
أن قاتل ناجي العلي : هو فن المساومات السياسية والتناقضات الثانوية ضمن النسيج الواحد ..وبشهادة أحد المقربين من القيادة الفلسطينية وهو يخاطب ناجي أثناء زيارة للكويت ..(ياناجي مع كل الإعجاب والتقدير لفنّك من جانب كوادرنا كافة إلاّ أنك تتجاوز خطوطا حمراء أحيانا…أنت في بعض رسوماتك تُلمّح بالنقد لجهات فلسطينية عليا../68- 69)..وبشهادة الشاعر توفيق زياد ..(الأسرائيلون لايهدفون لخلق أبطال ملحميين من بين الفلسطينيين .قالها في سياق حديث عن اغتيال غسان كنفاني../69).. وبشهادة محمود درويش ،عن سنوات ناجي الأخيرة ..(جميع الذين عملوا معه كانوا يقولون إنه أصبح جامحاً وأن النار المشتعلة فيه تلتهم كل شيء، لأن قلبه على ريشته ، ولأن ريشته سريعة الانفعال والاشتعال لاتعرف لأي شيء حساباً../ 62- لا كاتم الصوت ) ولنستمع لشهادة ناجي العالي عن نفسه ..(أنا شخصيا منحازا لطبقتي ، منحاز للفقراء، وأنا لاأغالط روحي ولاأتملق أحدا، والقضية واضحة ولا تتحمل الاجتهاد ..الفقراء هم الذين يموتون، وهم الذين يسجنون ، وهم الذين يعانون معاناة حقيقية ../ 7- رسومات ناجي العلي / الإنسان والثائر ..)..
*إسماعيل ف إسماعيل/ مخطوطة رواية / على عهدة حنظلة
* سمير الزين / محمود درويش يكسر إطار الصورة ويذهب / داركنعان / دمشق / ط1/ 2014
* رسومات ناجي / المؤسسة الفلسطينية للنشر والتوزيع / فلسطين / رام الله / 2005
(2)
هذه الرواية مغامرة في تلافيف ماتبقى من نظام فسلجي لرجل مهيأ للموت أكثر من العودة للحياة منذ 22 تموز 1987 حتى 29 آب 1987 حيث ودّع ناجي العلي موته السريري ..وفي مثل هذه الحالة فأن ..(الموتى سريريا لايعرفون النوم بصيغته المعتادة بل يتلاشون في الضد من وعيهم ../75).. وهنا المخيال ليس هلوسة ولاحالة ذهانية وإنما حقيقية فسيولوجية فكائنبة حنظلة التشكيلية / الكاريكاتيرية من خلال التعايش السلمي بين الوجه والقناع منذ 1969 ،جعلته في حضور ٍ تام لدى ناجي العلي ..ربما حنظلة بمثابة المعادل الموضوعي بالنسبة لناجي العلي فقد حل فيه منذ 1969 حتى 22 تموز 1987وهي مسافة زمنية ليست قصيرة ..إذن حنظلة (احتاج الدماغ إلى يبقى نشيطا باستمرار، وإذا لم يحصل على تنبيهه المعتاد، سواء أكان سمعياً أو بصريا، فسينشىء تنبيهه الخاص ..يرتبط بنشاط لافت في عدّة أجزاء من الدماغ، الفصيّن الصدغين والفصيّن الجبهيين والعقدة القاعدية ، والمخيخ ../ 76- 77- أوليفر ساكس )…وإذا كنا قد إستعنا بتحليل فسلجي لما يجري من خارج النص ، فسوف نستعين على النص من داخل النص وبشهادة ناجي العلي بتوقيت موته السريري ..(لم أخف ِ استنكاري ، كيف لكائن افتراضي أن يكون ذا حضور مسموع ، لكنّي بمرور الوقت اعتدت سماع صوته ، فإن توارى افتقدته ../ 75).. وبين حنظلة وناجي مشروطية التراسل المرآوي الدائم فحين يبادر ناجي قائلاً ..(ليتك تبقى معي ../ 76) لم تتأخر استجابة حنظلة ..(أمري مرهون بك ..) ..
(*)
حنظلة عراقية الجنسية ..عريق في عراقيته جذوره في أمبرطورية أوروك العظيمة..(تذكرنا معا منذ فجر يوم عراقي ، لم نكن بعيدين عن موقع أسوار مدينة أورك العتيدة حيث معبد عشتار ، لست تنسى لمّا انحنيت عليك ، حضنتك من فوق الرمل قبل أن أقطفك إلي ،كنت مرّا بما يوازي مرارة التوزع على مساحة الكرة الأرضية بعد فقدان الوطن ../ 77)..
(*)
هل أمتصت جذور حنظلة موهبتها من إنهيدوانا أول شاعرة في العالم ؟ بشهادة (بَتي د يشونك ميدر ) ، إنهيدوانا ابنة سرجون الأكدي ؟ ومن جراء ذلك صار حنظلة وبشهادة ناجي العلي ..( .. شريكي في تحديد مواضيع الرسمات ، لتبدأ من جانبك تصنع لنفسك اسمك إلى جانب حضورك المفارق أحيانا المشاكس غالبا ،لن تصدقني لو قلت لك عشت داخل رأسي، طفقت أتصوّرك صعلوكاً بالمعنى الفروسي للكلمة ، آلت حالي معك أشبه بمن يعاني ازدواج الشخصية ،كنت قبل أن أضع الكلام على لسانك أسمعك تهمسه لي داخل أذني ، بمرور الوقت تماهينا ببعضنا صرنا عقلاً واحداً../78).. لكن بين حنظلة وناجي تفارق في السن ، فالسنوات تطحن سنوات ناجي العلي ،كما تطحن أعمارنا..لكن الأمر يختلف مع حنظلة فقد مكث في العقد الأول من عمره ولم يغادره والغريب أن حنظلة جاء للدنيا وهو ابن العاشرة !! هذا المثنوي الغرائبي هو الذي يجعل ناجي يسأل لا أحد ..(في لحظة تأمل سألتني لماذا وُلد حنظلة وهو في العاشرة من عمره ، لحقه سؤال من صلبه لماذا بقي في عاشرته…78).. سيفكك المونولوغ السردي هذه الغرائبية ، فالسنوات العشر هي سنوات فلسطينية محض تعود ملكيتها لناجي بتوقيت ذلك أغتصاب جغرافية فلسطين ..( تفاجأت بالإجابة تنبثق داخل رأسي، لأني رُحلّت من قريتي الشجرة مصحوبا بأهلي وأنا ابن العاشرة منطويا على أمل العودة مع الانتصار العربي خلال أشهر معدودة/ )…
(*)
يأخذ الحوار الروائي جهوية جديدة أعني لاحوار حقيقي بل هو حوار في إطار المتخيل بتوقيت موت مقطر تراسل صوتي مرآوي : ناجي / حنظلة ّ..(لو كنت ُ أملك صوتا مسموعا لغيرك / 91 ) لكن قوة التشغيل مبثوثة من ناجي ، لا مِن حنظلة ، حسب حنظلة نفسه ..(تعلم جيدا أنا لا أملك حضوراً أو صوتاً إلاّ بك ../ 97) ..أما مسؤولية ناجي العلي عن تصرفات حنظلة ..فهي بشهادة ناجي (بقدر مسؤولية النائم تجاه كوابيسه ../111).. لكن حنظلة ليس محض مستقِبل لمرسلات ناجي ، كما المحاورة الوامضة بينهما . وعذراً للنص سنعمد على جعلها خارج النص ضمن مشرحة قراءتي المنتجة : أنا مقداد مسعود:
.(وداد : كل الذين يعرفونك يجمعون على تحليّك بإرادة جبارة تؤهّلك لجتياز محنتك.
حنظلة : يجدر بك أن لاتخذل أقرب الناس إليك
ناجي العلي يطمأنه : لن أكف عن المحاولة
حنظلة : عِدني أنّك لن تستّلم لأي من غيبوباتك .
ناجي العلي :سأفعل مادمت ُ حاضر الوعي .
حنظلة : هل يكفيك هذا
ناجي : يكفيني وجودك معي حتى أرذل العمر. أنت في العاشرة وستبقى كذلك
إلاّ إذا عاد الفلسطينيون لفلسطينهم..
حنظلة : غلبتني. لكننا وحال فرقتنا قائمة إلى أمد غير معلوم سنبقى مغلوبين على وطننا
ناجي : لاتكون مغموما دائما. أنت تطلب الكثير../ 100)
وحياة ناجي لم يمكث منها سوى الأوشال أو بقية فتيت .. والصوت هنا يقترض من اليد وسيلة وبشهادة حنظلة بتوقيت زيارة غانم النجار :(لامسك صوت حنظلة ../86)..(بادر غانم حضن كفك ..).. (توجّهت باهتمامك كلّه لكفّك ..)…وبشهادة ناجي العلي أثناء ذلك ..(لوكان حنظلة يمتلك لسانا لأوكلت إليه مهمّة الرد نيابة عنك )….في حالة ناجي العلي حيث (حيث الأحساس الغالب بالتلاشي ، شيء يشبه الغياب بغتة ، انسحاب وعيك بعيداً باتجاه مالايُدرك، تغوص عميقاً حيث الإحاطة بالسواد تزامناً مع فقدان كلي لاطاقة لدفعه ../87) في هذه الحالةوبتوقيت النسبي ..(مُذ بدأت أعي ماحولي نسبيا يراودني طموح سماع أصوات أولادي../88 ).. لكن الأولاد قيد التهديد ..وسينبهه قيادي فلسطيني حول القيد
( لاتذهب بعيدا باستفزازاتك .إذا كنت حريصا على أن لايتيتّم أولادك/ 108) القيد يستهد الطرفين : الأب / الأبناء ..شرط اليتم : حذف الأب من الأنوجاد ..
(*)
من أجل تخليص الرواية من المراوحة في حيزها الضيق كفضاء نصي ، عمد السارد لتوسيع الفضاء وتمطيطه من خلال شخوص ألقت أبعادا مضافة لشخصية ناجي العلي
*غانم النجار
*أميل حبيبي
*سعد الله ونوس
*نور الشريف
كما استعمل السارد شخوصا بلا اسماء من الجانب الفلسطيني
من خلال تداعيات التذكر لدى ناجي العلي ..وهي شخوض مطوقة ..أعني استهدفت تطويق ناجي العلي ..بل هناك من سوف يسعى بتسليمه للجلجلة بلا فضة
*إسماعيل فهد إسماعيل / على عهدة حنظلة / دار العين / القاهرة/ ط1/ 2017
—