(جدارة)
كتاب الأستاذ جواد هاشم (مذكرات وزير عراقي ) جدير بالقراءة والمحاورة فهو يوّثق لثلث قرن ونيف،عراقي محتدم ، لكن على مستوى المفاهيم فأن العنوان الثاني/ التفسيري/ الذرائعي: (ذكريات في السياسة العراقية 1967- 200) يبث ُأشكالية مفهوم : هل الكتاب مذكرات؟ أم ذكريات؟ فالأستاذ من خلال كتابه رأيته علميا بدرجة إمتياز، فهو يعترض على التلاعب الثوروي في استعمال المفهوم وبشهادته الشخصية (مفهوم التنمية العلمية المتوازنة،أصبح ترافقه مفاهيم جديدة،لم أجد لها مقابلا في قواميس الاقتصاد.) ومن خلال تمهيده هذا يتناول الخطأ المفهومي (،،التنمية الانفجارية،، مفهوم جديد،بل عبارات غير مفهومة يرددها بعض أعضاء المجلس في خطبهم واجتماعاتهم، موجهين التهم للفنيين في وزراة التخطيط و،، المتعلمين في الخارج،، يدعون بأن هؤلاء يعرقلون مسيرة التنمية..التنمية الانفجارية /291)..من هذي المنصة ينطلق تساؤلي: هل الكتاب مذكرات؟ أم ذكريات؟ وكما لايخفى على الأستاذ جواد هاشم، أن المذكرات هي مدونات يومية، أم الذكريات فهي ما يتداعى من تذكارات في المخيلة الشخصية؟ لكن من خلال قراءتي أرى هذا الكتاب يمثله عنوانه الأول، بالنسبة عالية الجودة
(فخري قدوري)
الكتاب يتناول مزاجية السلطة منذ إنقلاب 1968 حتى سنوات تدهورها، وكيف تسيء السلطة ليس للشعب فقط، بل تشجع التناحرات بين رجال النظام نفسه، فالسلطة بسبب تخلفها الثقافي، ترى المثقف الأكاديمي عدوها وحتى تنجح في حذفه فهي تعتبره ضد مشروعها الوحدوي الجماهيري، ومن موقعه المميز يخبرنا الاستاذ جواد حازم عن جهالة طه ياسين الجزراوي (بلغ الحقد بالجزراوي على ذوي الشهادات، حدا دفعه إلى كتابة تقرير لرئيس الجمهورية، يتهم فيه وزير الاقتصاد الدكتور فخري قدوري وجميع المدراء العامين في وزارة الاقتصاد،بالرجعية والتآمر لعرقلة مسيرة،،النهضة،، الصناعية التي يحاول هو دفعها إلى الإمام../ 162) وحين يفنّد كلامه وزير الاقتصاد فخري قدوري، في اجتماع لرجال الدولة، ينفرد أحمد حسن البكر بالدكتور فخري قدوري ويقول له الكلام التالي (الجزراوي جاهل وغير مستوعب لأمور الدولة /165)!! وهنا يبدو أن السلطات العراقية دائما ستفضل ان يحكمونا الجهلة والقتلة !! وسيبقى الجزراوي وزيرا، وسيتم إعفاء وزير التخطيط جواد هاشم ووزير الاقتصاد فخري قدوري!! واعفاء الوزيرين سيكون إرضاءً للجزراوي، وبشهادة جواد هاشم (وهكذا وبهذه البساطة،الجزراوي يتهم.. والبكر يحتد.. ويعفي وزيرين على الفور/172) وفي 1974 وبحضور جواد هاشم في عيادة مدير مستشفى اليرموك، يتهجم خيرالله طلفاح على أعضاء مجلس قيادة الثورة ويؤكد على (إعادة تركيبة النظام العراقي ليماثل نظام الحكم في السعودية ../237)..
(فوضى)
ما نعانيه الآن من فوضى غير خلاقة، يبدو سمة من سمات الجهاز الإداري العراقي حيث دائما يجري(أزدواج بين المهام التشريعية والمهام التنفيذية لبعض أعضاء القيادتين، قد خلق بمرور الزمن أجواء بغيضة مليئة بالحساسيات والمناورات والتصرفات التي بدأت تنخر ببطء الكيان العام لمفهوم الدولة والحكم في العراق/ 112) والطريف فيما يذكر جواد هاشم أن وزارة التخطيط : ( منذ تأسيسها،كانت تقع ضمن الوزارات التي يكون وزيرها من أبناء الشيعة ..)
(جايجي)
في الاجتماع الأول لمجلس الوزراء، في 4آب 1968 حضر جميع الوزراء، ولم يحضر حردان التكريتي وعماش، انتبه أحمد حسن البكر لغيابهما فطلب من (الجايجي) الذي كان يقدم الشاي للحاضرين أن يستفسر عما حل بهما.. يعود الجايجي بعد بحثه عنهما ويخبر البكر : سيدي الفريق حردان مجتمع بطاهر يحيى رئيس الوزراء. فيضحك البكر ويقول للجايجي : أنت لاتعرف بأن طاهر يحيى موجود في السجن وهو ليس رئيس للوزراء الآن؟ فيفضل الجايجي الأنسحاب من القاعة خجلا، فينبري وزير الصحة عزت مصطفى ويوجه كلامه للبكر: هذا الجايجي غبي لابد من فصله فورا من الخدمة، لايصلح أن يتواجد غبي في هذا المبنى. فيرد عليه البكر: أليس الأفضل أن يكون الجايجي غبيا لايعرف من أمور الدنيا شيئا وبالتالي لايستطيع التآمر علينا .
(المغني عبد الصاحب شرّاد : من الممنوعات)
يصف لنا جواد هاشم الرئيس أحمد حسن البكر( ..بسيطا للغاية في مسكنه وملبسه وتصرفه مع عائلته. وفي شؤون الدولة الاقتصادية والمالية كانت بساطته تصل إلى حد السذاجة. وكان يتدخل في كل صغيرة وكبيرة،إلى حد الذي كنت أتساءل: كيف يستطيع هذا الرجل التفكير استراتيجيا؟ هل لديه الوقت للتفكير،إذاكان يتصرف بهذا الشكل غير المنتظم؟ فهو يسأل عن ترفيع هذا الموظف أو ذاك، حتى ولوكان شرطيا في إدارة المرور/361) وكان مرض السكري يتحكم بمزاجه، وبإصدار بعض القرارات، وحين يهدأ يلغي ذلك القرار الذي يراه جائرا، وكان البكر بلا أي هواية سوى الاستماع إلى الغناء الريفي مثل السويحلي والنايل والعتابة، ومطربه المفضل الملا ضيف الجبوري، الذي كان حارسا في أحدى محطات الكهرباء، ثم أصبح نجما إذاعيا وتلفزيونيا بسبب إعجاب البكر بطريقة غنائه، وفي أحدى الاجتماعات لمجلس قيادة الثورة لبحث شأن من شؤون الخطة الاقتصادية، كان التلفزيون مفتوحا وفجأة رفع البكر سماعة الهاتف واتصل بالمدير العام للأذاعة والتلفزيون وآنذاك محمد سعيد الصحاف، وبعصبية قال : من هو هذا المغني القبيح.. أبعده عن التلفزيون… ومنذ تلك الليلة لم يظهر عبد الصاحب شراد على الشاشة، ولم يسمع العراقيون غناءه إلاّ بعد وفاة البكر/362)
(حسينية)
حين تم تعيين هادي الجابر وهو من المذهب الشيعي بمنصب نائب رئيس شركة النفط الوطنية، ثم عيّن الدكتور سعدون حمادي رئيس للشركة ذاتها، صار الجميع يطلقون على شركة نفط العراق (حسينية)
(نهيق الدفاع)
بحضور وزير التخطيط جواد هاشم،الفريق حمادي شهاب وهو بمنصب وزير الدفاع، يخاطب عبد الستار الجواري وزير التربية )جميع سكان المنطقة التي تقع بين المحمودية وجنوب العراق هم عجم وانه لابد من التخلص منهم لتنقية الدم العربي العراقي.) هذا الكلام استفز الوزير الشيعي الكربلائي جواد هاشم، فخاطب وزير الدفاع حمادي شهاب قائلا: فريق حماد ..أنا من مدينة عين التمر، التابعة لكربلاء.. وحامد الجبوري من مدينة الحلة فهل يعني أننا عجم…أم أنك تقصد شيئا آخر..) ورغم محاولة عبد الستار الجواري في ترطيب الاجواء، فأن جواد هاشم يسحب ورقة ويكتب استقالته بها وحين يقرأ الاستقالة رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر، يبتسم ويمزق الاستقالة ويخاطب جواد هاشم :(ألا تعرف حماد شهاب..أنه رجل بسيط لايفهم في أمور السياسة شيئا) فيعقب جواد هاشم: (ولكنه ياسيادة الرئيس..عضو مجلس قيادة الثورة، ألا يعكس حماد شهاب اتجاها خطيرا لمسيرة الحكم ؟ فيضحك البكر ويقول: دكتور، حماد شهاب لايمثل أي اتجاه .. حماد حمار
(زيارة مذهبية)
في زيارتهما الى كربلاء :وزير التخطيط هاشم جواد، ووزير الاصلاح الزراعي جاسم العزاوي : ستكون قراءة الأدعية في زيارة الحسين قصيرة، وستكون قراءة الأدعية طويلة في زيارة الأمام العباس، وهنا يسأل جواد هاشم محافظ كربلاء عن
الفرق في طول الأدعية فيجيبه المحافظ (إن زيارة الحسين كانت خاصة بالمسلمين السنّة،لأننا كنا نظن بأن الوزير جاسم العزاوي سنيّا .وعندما قيل لنا بأنه مسلم شيعي،آثرنا جعل زيارتكم للأمام العباس زيارة كاملة، تتضمن كافة الأدعية والصلوت بدون اختصار!/127)
(القصر الجمهوري)
بعد إنقلاب 30تموز 1968 سيدخل جواد هاشم لأول مرة القصر الجمهوري، سيدخل (بناية بسيطة. خالية من الزخارف والأبواب الذهبية والقباب الفضية التي توصف بها في نشرات الأحزاب السرية ومنها حزب البعث نفسه)
(دم وزير خارجية فرنسا) /134
(منة الرئيس العربي)
في مصر يسأله عبد الناصر :ألم تكن وزيرا للداخلية عام 1963؟
يجيبه جواد هاشم (كلا ياسيدي الرئيس.. وزير الداخلية آنذاك كان حازم جواد..وأنا اسمى جواد هاشم ولأنني أصغر سناً من حازم،فهو حتما ليس أبني.لاعلاقة لي به من قريب أو بعيد..وهنا ألتفت عبد الناصر إلى وزير تخطيطه قائلاً : أن الأجهزة الخاصة (ويقصد المخابرات) قد أعطته معلومات خاطئة.. وفهمت من كلامه بأن مخابراته قدمت له تقريرا عن حازم جواد الشخص الذي سيقابله.. وأن المخابرات المصرية قد ألتبس عليها الأمر فخلطت بين جازم جواد ..وجواد هاشم. ضحكنا لهذا الالتباس الذي أوقعته فيه مخابراته.وقال عبد الناصر معلقا : ان المخابرات في تقريرها لم تصدق في الوصف إلا من حيث،،النظارة،،.(أي ان كلانا حازم جواد وأنا نلبس نظارات../ 145- 146)
(أبتسامتان)
نوعان من الابتسامة رافقت قراءتي الأولى والثانية لهذا الكتاب الضروري جدا فهو من الكتب النادرة التي تناولت آليات السلطة من الداخل، بعيدا عن برودة التنظير وسخونة الشتائم، أبتسامتي الأولي للطرائف التي يوردها المؤلف بذوقه الفطن، أما أبتسامتي الثانية فكانت تهكمية، للمهزلة التي كلفت شعبنا ثلث قرن من حكم الرعاة
وهيأت الأجواء – بفضل السيدة أمريكا – لمهزلة ما بعد سقوط الطاغية!!
كأنما لايكفي ما لحقنا من ذل وجوع وإبادات جماعية، لتأتي سلطة لم توفر للمواطن سوى العطالة والقتل والأستشهاد وغياب الأمان وتطويقنا بجور دول الجوار..
*جواد هاشم/ مذكرات وزير عراقي/ دار المدى / بغداد/ ط2/ 2017