يُعدّ أبرز إنجاز لمدرسة النّقد الإنجيلي الحديث، التي انطلقت مع ريتشارد سيمون (1638-1712م)، وهـرمان صامويل ريماروس (1694-1768)، ويوهان دافيد ميخائيليس (1717-1791)، كشْف الإسهام البشري في صياغة الأناجيل والرسائل ونزْع الطابع القداسي الوهمي عنهما. ولكن ينبغي أن نعي أن ما أثبته العلماء، عبر التمحيص والتدقيق والمراجعة، ليس ما تقرّ به الكنيسة، وهو ما خلّف تضاربا بين المنظور العلمي والمنظور الكنسي. كتاب “إنجيل الطفولة السرياني” الذي نتناوله بالعرض، والذي يُرجَّح أن أصله يعود إلى القرنين السادس والسابع، نسخته المعروفة هي النسخة العربية المنقولة عن أصول سريانية دُوِّنت في أواخر القرن الثاني عشر، وقد تم اكتشافها خلال العام 1967 من قِبل المستشرق الألماني هنري سيك. لذلك عادة ما يسمى هذا الإنجيل بـ”إنجيل الطفولة السرياني” أو “إنجيل الطفولة العربي”. الكتاب الذي يعالج هذا السفر يتناول مسألة إشكالية في الدراسات النقدية الإنجيلية، تتمثل في دواعي إضفاء المشروعية على بعض الأسفار وسحبها من غيرها. حيث يعيدنا الكتاب الصادر بالإيطالية خلال العام المنقضي، مع صغر حجمه، إلى اللحظات التأسيسية المبكرة في الدين المسيحي، وإلى الأوضاع الحرجة بشأن مزاعم اكتمال سلسلة الأسفار المكونة للعهد الجديد وعددها الحالي 27 سِفرا، والمروَّجة من قِبل مجامع الكنيسة وبابواتها. فهل الأسفار المعتمَدة اليوم هي بالفعل متضمِّنة لتعاليم المسيح (عليه السلام) أم هي رواية من جملة روايات عدة أملتها خيارات لاهوتية ودواع ثقافية وإملاءات سياسية؟
يتوزع المؤلَّف الإيطالي الذي أعده جوفاني سانتامبروجيو على قسمين: القسم الأول يعرض فيه رأيه في الكتابات “الأبوكريفية/المنحولة” والثاني يتناول فيه فحوى إنجيل الطفولة من حيث مدى توافقه مع الأناجيل السائدة أو تعارضه. وفي القسم الأول الذي يحوز الجانب الأكبر من الكتاب يستعيد جوفاني سانتامبروجيو نقاطا رئيسة في تشكّل الديانة المسيحية، فالإنجيل الذي أتى به المسيح (ع) لم يُدوَّن في عهده، وقد شهد كغيره من الأسفار المقدسة السالفة رحلةً شفويةً ليست بالقصيرة، مثّلت المعين للأناجيل الأربعة السائدة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) فضلا عمّا نُسب لمن أُطلق عليهم الرّسل من أعمال ورسائل، وإن لم يرَ أصحابها المسيح (ع) ولم يجايلوه. وبين رحيل النبيّ وتدوين نصّه متّسَع من الزمن، قد يطول ويقصر بحسب الظروف. إذ يذهب الدارسون إلى أن إنجيل مرقس قد دُوِّن بين عامي 65 و 70 م، وإنجيل متّى ما بين 70 و 80 م، وإنجيل لوقا بين 80 و 85، أما إنجيل يوحنّا فقد تم الفراغ من تدوينه حوالي سنة 100 م.
ما يُثبِت أن التدوين قد انطلق مع الجيلين الثاني والثالث من أتباع المسيح، وألا وجود لشهود عيان بين من كتبوا الأناجيل الشائعة اليوم، كما أن كتبتَها لا يرتقون إلى درجة الحواريين ولا إلى مصاف الأتباع، وأقصى ما يمكن نعتهم به أتباع التابعين. في ظرف بدا فيه التحول بالنص المقدس من الشّفوي إلى المدوّن تعبيرا عن مسعى للتحوّل من مشاعية الإرث الكتابي إلى توكيل صفوة بأمره، تحتكر رمزيته. وقد خلّف ذلك المسار، من الشفوي إلى المدوّن، تراثا إنجيلياً متنوعا عُرف بالأدب الإنجيلي: قسْمٌ فيه حظي بـ”صفة القانونية”، أي المشروعية، وقسمٌ وُسم بـ”سمة الانتحال” أي الوضع، خضعت فيهما عملية التصنيف إلى عوامل عقدية وثقافية وإيديولوجية متداخلة. وللتوضيح عبارة “المنحولة” هي اللفظة العربية المستعمَلة مقابل اللفظة اللاتينية “أبوكريفية” (apokryphos) في نعت الأسفار غير المعترف بها، والتي تعني في الأصل “المخفية” وليس “المنتحَلة” أو “المنحولة”. إذ عادة ما حامت ثلاثة شكوك حول هذا الصنف من الأدب: الجهل بالمؤلف والجهل بتاريخ التدوين والجهل بمكان التدوين.
يبيّن مُعدّ الكتاب جوفاني سانتامبروجيو أن جذور أزمة “القانوني” و”المنتحَل”، أو إضفاء المشروعية من عدمها، هي عائدة بالأساس إلى تأخر التدوين. فكان من الطبيعي أن يتداخل الإلهي بالبشري في الذاكرة الجماعية، وأن تتمازج الأخيولة والأمثولة والأرجوزة بالمأثور النبويّ والوحي الإلهي. وقد وصف إسرائيل ولفنسون (أبو ذؤيب) هذه الحالة التي ألمّت بالعهدين، القديم والجديد، قائلا: كانت العقلية السّامية منذ سالف أزمنتها تميل إلى قول الحِكم وإرسال الأمثال، لأنها تمتاز في كلّ أطوارها بالذّكاء والفطنة. وقد كانت هذه الحِكم تجري بين طبقات الشّعب وتنتقل بين أفراده يسمعها الصغير من الكبير، ويتعلّمها الأبناء من أفواه الآباء، إلى أن جُمع عدد وافر منها في الأسفار المقدسة. (تاريخ اللّغات السامية، 1929)
من جانب آخر يستعرض جوفاني سانتامبروجيو الأسفار “المنحولة”، مثل الإنجيل بحسب العبرانيين، وإنجيل المصريين، وإنجيل بطرس، وإنجيل مرقيون، وإنجيل توما، وإنجيل الطفولة لتوما، وقصة يوسف النجار، وإنجيل برنابا، ناهيك عن أسفار أخرى مثل أعمال بطرس، وأعمال أندراوس، وأعمال توما، وإنجيل الطفولة العربي، مبرزا مدى قربها من مضامين الأناجيل “القانونية” التي حظيت بقبول المؤسسة الدينية. ولمتسائل أن يسأل ما السر وراء هذه الكثرة في الأسفار المقدسة قبل أن ينزل قرار الفرز؟
البيّن أن تقليد الكتابة الروحية خلال القرون المسيحية الأولى قد شاع في فلسطين وما جاورها، وقد تميّز بطابع تعليمي عرفاني ما زال البحث التاريخي الراهن يميط اللثام عن خباياه من حين إلى آخر، أبرز ذلك اكتشاف 52 مخطوطة محفوظة في جرار، خلال العام 1945، في نجع حمادي بمصر، ضمّت وثائق تعود إلى بداية القرن الرابع الميلادي، من بينها إنجيل توما وإنجيل فيليبس. وكذلك اكتشاف لفائف البحر الميت التي تعود إلى الحقبة المتراوحة بين القرن الثاني قبل الميلاد ومنتصف القرن الأول الميلادي، فضلا عن الإنجيل المنسوب للحواري يهوذا سمعان الإسخريوطي (خائن المسيح كما يُعرف في الأوساط المسيحية) المكتشَف أخيرا وقد عُثر عليه شظايا ببني مزار بالمنيا بمصر عام 1970، تولى دراستها فريق مكون من تيم جول وماس سبيكترو وستيفن إيـمِل. حيث يشير تحليل البرديات المدوّن عليها بلغة قبطية أخميمية وبأحرف لاتينية، أن تاريخ التدوين يتراوح بين 220 و 340 م.
وعلى العموم يأتي ذلك التواري للأسفار المنعوتة بالمنحولة ضمن حملة إخفاء منظَّمة من الساهرين على الجماعة المسيحية الناشئة، أو جراء قسوة المطاردة الرومانية لأتباع المسيح، وما صاحبَها من تستر وتقيّة. فقد كانت حقبة القرون الأولى حرجة على أتباع السيد المسيح، إلى حدّ أنها عُرفت في التاريخ المسيحي بـ”عصر الشهداء”.
يبيّن جوفاني سانتامبروجيو أن تعاليم المسيح في مرحلة الكنيسة البدئية كانت تراثا شائعا بين الجميع، وإنجيل الطفولة إحداها، إلى أن بادر رهط بتدوين تلك المأثورات كلّ حسب هواه، تحت مسوغات التبشير والتعليم، فكانت بمثابة المدونات الشخصية. وما كان لأيّ من هؤلاء المدوِّنين أن يدّعي فرادة نصه أو أصالة جمعه بما يفوق غيره؛ لكن هذا الوضع ما كان ليُرضي كوكبة المتنفّذين لاسيما مع بوادر تشكّلِ المؤسسة التي ترعى الدين وتصون الإيمان، وكان لابد من إقرار أسفار معتمَدة بين الجماعة الأولى.
يُبرِز مؤلف الكتاب ألاّ فرق، من منظور تاريخي أدبي، بين نصوص العهد الجديد القانونية والنصوص الأبوكريفية، ولكن ما يميز النوعين أن صنفا “غدا مقبولا” وآخر “غدا مرفوضا” بموجب أجواء التلقي التي أحاطت بالنصوص داخل المؤسسة بعد أن هجرت الجماعة المسيحية الأولى وضع النحلة إلى وضع الكنيسة، التي باتت تضفي الشرعية على النص أو تنزعها عنه وذلك منذ فجر القرن الثاني للميلاد. ففي الوقت الذي مثّلت فيه النصوص الشرعية السند للتعليم والتربية المسيحيين لم تحظ الثانية المستبعدة بذلك، وبقيت خارج المدوَّنة التعليمية المعتمَدة.
فمنذ البدء، أدرك آباء الكنيسة خطورة تعدّد الأناجيل، ممّا أملى محاولات للخروج من المأزق، طورا بإضفاء صدقية على بعض النصوص ونزعها عن غيرها، وآخر بمحاولة صياغة أسفار موحَّدة مستخلَصة من النصوص الحائزة على شرعية، كالذي قام به السوري ططيانس حوالي العام 175 م، مع ما عُرف بسفر الدياتسرون –Diatessaron-، أي “الرباعية”، بحسب المدلول الأصلي للكلمة، وهو أول ملخص قَدّم فيه صاحبه الأناجيل الأربعة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) ضمن رواية جامعة غير مجزأة. فمنذ تحول الإنجيل إلى أناجيل، وما رافقه من تقلّص آمال العثور على إنجيل المسيح الحقيقي الكامن خلف الأناجيل، دخلت المسيحية في مأزق، بشأن مشروعية النص المقدّس وصدقيته، فأي الأسفار يحوز تلك الأصالة؟
فكما يورد الكتاب يُنسب إلى البابا جلاسيوس (القرن الخامس) ضبط قائمة الـ59 عنوانا التي أمر بتجنّبها بوصفها نصوص هرطقة. مع ذلك بقيت تلك النصوص متداوَلة بين شرائح واسعة لما تلبّيه من شغف لدى الناس. كما يُنسب لمايكل نيادر سورافينانسيس أول تجميع للأعمال الأبوكريفية في بازل (سنة 1564)، تبعته محاولة أخرى أكثر انتظاما ليوهان ألبار فابريسيوس بعنوان: “Codex apocryphus Novi Testamenti“. والمتمعن في مختلف الأناجيل، “القانونية” منها و”المنحولة”، يلحظ تمحورها في مضامينها حول شخص المسيح (ع)، لذلك تميز جلها بالإجابة عن سؤاليْ من المسيح ومن أين جاء؟ مع ذلك بقيت منطقة ظلّ أو فراغات بارزة في تلك الأناجيل تمتد على مرحلة الطفولة المبكرة لعيسى (ع)، كان إنجيل الطفولة أبرز المنشغلين بها، حيث تدور أحداث الإصحاحات الأولى في هذا الإنجيل حول المغارة لتتحول الإصحاحات اللاحقة إلى كشف للقدرات الخارقة للمسيح وهو في المهد. كما نلحظ تركيزا في النص على سيكولوجية العذراء مبرزا مدوِّن السفر السمو الروحي لمريم، ولعل ذلك ما مهّد للانحراف نحو ما يعرف بالطقس المريمي في المسيحية الراهنة. فضلا عن أن الأناجيل الأبوكريفية تفوق القانونية في توضيح بعض النقاط الغامضة أو الواردة في القانونية مقتضبة. كما ساهمت الأبوكريفية، وإنجيل الطفولة السرياني إحداها، في ترسيخ معتقدات على غرار طقس عبادة العذراء مريم، منذ القرن الخامس الميلادي، في حين لم تقر الكنيسة الكاثوليكية ذلك سوى مع العام 1950.
استقرّ الحال في الرواية الكنسية الرائجة على الاعتقاد أن العهد الجديد وما تضمنه من أناجيل ورسائل، كتبها الله عبر كتبة بشر. لذلك يسود اعتقاد أن النص مشترك البناء، بين ملهَم إلهي ومحرَّر بشري، توسط بينهما الروح القدس، صاغه المدوِّن بأسلوبه ولغته وتعبيره. وقلَّ من المسيحيين من يعتقد أن النص موحى مبنى ومعنى، إلا بعض النِّحل الأصولية البروتستانتية المغالية في أمريكا. فقد صار ذلك من الخرافات التي لا يصدقها طالب مبتدئ في الدراسات الدينية المقارنة.
كان القديس أوغسطين (354-430 م) قد أشار في مؤلفه: “ De consensu evangelistarum“ (400 م)، إلى أن صياغة الأناجيل تعكس في مجملها ذكريات عامة، أكثر من كونها نظاما تاريخيا متناسقا وصارما، وأنّ أقوال المسيح ليست منقولة حرفيا دائما، بل صيغت بعناية لحفظ المعنى لا غير. وما تعود إليه الكنيسة اليوم من نص مقدس، فهو ترجمة يونانية أُثبِتت قانونيتها بعد مداولات جرت عقب المئوية الثالثة بعد الميلاد، وأن الترجمات الحديثة المتداوَلة بين الناس متحدرة من النص اليوناني وليس لها صلة بلسان المسيح وكلامه.
صحيح أن العهد الجديد هو مدوّنَة من جملة مدونات إنجيلية عديدة، مرّ بعديد التطورات تعلقت بمتنه، ولم يرس على شكل قار سوى في مجمع ترنت 1545 م، حيث حدّدت الكنيسة الكاثوليكية جردا نهائيا للكتب المقبولة من المرفوضة وأطلقت عليها اسم القانونية. لكن اليوم تحوم ريبة حول مقول المؤسسة وما أقرته، ومن هذا الباب جاء رد الاعتبار للمهمَّش، وجدَ دافعا في النزوع إلى ما هو غرائبي والميل إلى ما هو غنوصي. وأكثر ما يقلق “الأرثوذكسية” التي دعمت النص المشروع، هو عودة ما طمسته الرقابة وإثارة تساؤلات حول النصوص القانونية، من حيث روايتها للحدث المسيحي المبكر. فقد كان الغنوصيون والنِّحليون معروفين فقط من روايات خصومهم، ولكن بعد اكتشافات مدونات نجع حمادي، ولفائف البحر الميت، ووثائق المنيا، بدأت المسائل تُطرَح بشكل مغاير.
في خضم الجدل المتجدد في المسيحية بشأن “القانوني” و”المنحول”، يبقى الغائب الأبرز في تاريخ التدوين الكتابي هو إنجيل المسيح (ع).
نبذة عن معدّ الكتاب: جوفاني سانتامبروجيو هو كاتب وأستاذ جامعي إيطالي. أصدر مجموعة من الأعمال حول الفن المسيحي والأيقونات، منها: “بهجة الفصح“، “صورٌ مقدسة“، “الجنة والجحيم“.
الكتاب: إنجيل الطفولة العربي.
إعداد: جوفاني سانتامبروجيو.
الناشر: منشورات مارييتي (جنوة-إيطاليا) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2019.
عدد الصفحات: 78ص.