تعد ثنائية الحضور والغياب بمثابة الموجه لمسار النص المسرحي، تمده بالوظيفة الثقافية والاجتماعية فضلاً عن إظهاره إلى الوجود ،على اعتبار إن الحضور يمثل التشكيل والغياب يمثل الدلالة، فعندما تصاغ هذه القضية الثنائية يترتب التمييز بين نوعين من العلاقات التي من الممكن تشخيصها في العمل الأدبي المسرحي، علاقات تقوم بها العناصر الحاضرة وأخرى تقوم بها العناصر الغائبة, هذه الثنائية هي ثنائية الشكل والمضمون، فتارةً يأخذ هذا العلو وتارةً يأخذ الآخر الصدارة، وقد نبه ( سوسير) إلى هذه القضية معتبراً إن الدال يمثل حضوراً “الحضور المادي “والمدلول يمثل غياباً ” غياب مادي “ولكنه حضور معنوي” , كما عرض ( تودوروف )هذه الثنائية في العمل الأدبي بالقول ” علاقات الغياب هي علاقات المعنى والترميز وعلاقات الحضور هي العلاقات الشكلية أو البناء ” , هناك عناصر غائبة في النص لكنها حاضرة في الذاكرة إلى درجة يمكن عدّها حاضرة ،فهي وسيلة أوجدها المؤلف لينزل المجهول مرتبة المعلوم وينتصر على السر في ذاته وهنا يكون الغياب هو الرمز ممثلاً الحاضر في أثناء غيابه وينوب عنه، فالمبدأ الأساس في الثنائية هو التبادل التناغمي بين التعبير مباشرة ” الحضور ” وبين الرمز ” الغياب” وهكذا تتكون الصورة التي لها فضاء محدد وتكون بدايته الحضور ونهايته الغياب وبين هذين القطبين يتكون فضاء درامي يترأوح بين الحس والمعنى بين الخفي والجلي ، ومن خلال هذه الثنائية يكتسب النص بكل قوته، فعملية التواصل تفترض مرسلاً ومستقبلاً للرسالة ، وحضور أو غياب أحد هذه العناصر هو الذي يحدد أنماط التواصل الخاصة وحضور الشخصية أو غيابها هو عملية حمل الرسالة , الثنائية كما عرفها (ميرلوبونتي)” هي تصور يرتكز على مفهوم حضور الجسد ، مستبدلة أحدهما بالآخر بشكل عضوي لا مكان معه للفصل بينهما ” , ووردت عند ( رولان بارت) على إنها ” إنتاج شبكات وحزم من الصور تتقاطع حيناً وتقترب حيناً “, إذن الثنائية تعمل على الجمع والتوحيد ، وفي الآن ذاته على الفعل والبعثرة آخذةً مسارات متعددة ، متراوحة بين الانكفاء في حدود ضيقة إلى حد الانتظام في شكل لفظة ، والتمدد والانتشار المصاحبين بانقطاعات وفجوات وتحويلات تسهم في تحجيم المعنى, وهناك ثلاثة أنواع من الثنائيات العلاقاتية , علاقة نفي سلبي تضاد مثل الثنائية في التراث العربي من خلال ثنائية الأنا / الآخر ، الداخل / الخارج ، التحت / الفوق, وعلاقة توسط تهدف إلى إعادة الخلق عبر التحول والتحويل مثل الثنائية السياسية , وعلاقة تكامل وتناغم و أغناء .
يشكل الحضور الطريق في الوصول إلى مرحلة الكشف والتكشف من خلال التوحد بالنص ، فيها تتحول الشخصية الحاضرة إلى قارئة ومقروءة في آن واحد ، تقرأ كلامها وكلام الآخر ، وتصغي لكلامها وكلام الآخر ، كما يتكامل ظاهرها المتمثل في الأنا الخارجية الواعية التي يتمثل صوتها صوت الآخر بظاهر النص، ويتكامل الباطن الأنا الداخلية اللاواعية بباطن النص أو ما يتكلمه النص داخلياً وهنا يقدم كل منهما الآخر ، فضلاً عن تقدم الظاهر بالباطن والباطن بالظاهر، وهو حضور من أجل استنطاق السر النصي فهو حضور في مقام شهود المتخلف أو المتحول عن المؤلف, أما علاقات الحضور أو الشخصيات الحاضرة فهي علاقات تصوير وتكوين، حيث ترى الأحداث وتشكل الشخصيات فيما بينها مجموعات متقابلة متدرجة لا رموزا وتتألف الكلمات داخل علاقة دلالية بقوة البنية لا بالإيحاء فهو كما أشار إليه (هيدجر) ” انتشار للكينونة له معنى الديمومة ” , هناك ثمة مجموعة من العلاقات الأولية والنهائية واكتشاف العلاقات والوسائل التي تمثل الحلقات الوسيطة للدلالة التي تمس محتواه ومضمونه ثم تحديد مصطلحاته وأحداثه انطلاقاً من نقطة تكثيف المعنى والتي تؤدي إلى انفجار النص عن طريق معانيه المتعددة , أما الشخصية الغائبة ، هي ليست غائبة في الحقيقة ، ولكن الكاتب صيرها هكذا لمنح الإرادة الواعية ، دافعية خلاقة من أجل التواصل مع الآخر، إن ما يعنيه الكاتب ليس ما يقوله ويقصد به مباشرة ، بل ما يعنيه ويقصد به في العمق ، ما وراء العمق وما وراء المعنى الظاهري من نصه ، فالشخصية الغائبة التي أخرجت بأكثر من معنى ، هي في الحقيقة حاضرة فنياً ، فالغياب لا يعني العدم إنما يعني في حقيقته الحضور الذي كان، أو الحضور الكائن بمعنى ما ، وفيها يصبح الغياب حضوراً وهذه هي متعة الغياب , والعلاقات أو الشخصيات الغائبة هي قائمة على المعنى والرمز ، فهذا الدال يدل على المدلول ، وهذه الحقيقة تقتضي أخرى ، وهذه الحادثة ترمز لفكرة ، وتلك الفكرة توضح وتشير إلى تلك الشخصيات الغائبة , أن الشخصية الغائبة يخلقها المؤلف المسرحي من مخيلة رحبة بإبعادها الرمزية وخلفيتها الثقافية، وبدلالاتها التاريخية فهي تفصح عن مدى رحابة رؤية الكاتب وكيف يمارس دوره في الحياة وفي التاريخ من خلال جعل الشخصية الغائبة حقيقة موجهة .