باتت مجمل النماذج الانسانية في الازمنة المعاصرة متفرجة لما يجري غير فاعلة وان تفاعلت فانها تتفاعل سلبا لتمثل دور الضحية المهمشة ، الامر الذي يشعر الذات الانسانية بعزلتها وهامشيتها ، فكانت مادة سائغة ومضمونا تعيسا خائبا لنتجات ادبية مختلفة ، اذ يعكس الادب الروائي الذات الانسانية بصورتها المهمشة كرواية ( اللص والكلاب ) للكاتب المصري نجيب محفوظ عن روايته اذ تحول الانسان المهمش فيها الى مجرم وانتهازي تحت وطأة المطاردة والألم ، ورواية ( بيت من لحم ) للكاتب يوسف ادريس تحول فيها الناس الى هامش في متصفحات الحياة ليس لهم اي تأثير يذكر ، فضلا عن الكاتب محمد حسنين هيكل بروايته ( زينب) وطه حسين بروايته ( دعاء الكروان ) اللذان دعيا الى الصعود الاجتماعي والتخلص من الاجواء المتسلطة الطاغية للانسان الصرخة المهمش في المجتمع ، اما محمد السيوطي فقد انفتح في رواية ( جوع) على جو عائلي موسوم بالفقر والحاجة ، وقد رصد الروائي المغربي العالم السفلي للمهمشين في طنجة اذ وصف الواقع القاسي والمؤلم وصفا دقيقا في ثلاثيته ( الخبز الحافي ) ، ( وجوه) و( الشطار) ، اما الروائي التونسي الطيب الطويل فقد رصد تزايد مساحة المهمشين المحرومين من خيرات الوطن بسبب الفساد والمحسوبيات والحرمان والفقر ، كما حرص الكاتب السعودي يوسف المحميد على اظهار شخوص يعيشون على هامش الحياة بتفاصيل مفجعة ، ويأتي الكاتب احمد الحلي ليلقي الضوء على الشخصيات المهمشة في الواقع العراقي الحلي بكل ماتحمله من اثقال الفقر والحاجة والحرمان في مرويات ( عطر الامكنة ) ، اذ طرحت المرويات شخوص واقعية محاطة بهالة من خيال الكاتب المكتنز بجمالية الحضور وبساطته وعمقه في ذات الوقت ، فقدم انا اساءة الحالات الاجتماعية القاسية في تهميش الانسان وتسلط القوى لازاحته عن متن الحياة ، كما حت مروياته نتاجات الحروب في جعل الانسان مجرد رقم يمكن محوه بكل سهولة ، فضلا هن تهميش الانسان لذاته هربا من ضغوطات الاوضاع الراهنة وسحقا لأنسانيته ، اذ شكل خطابه الروائي من ادراك واع وصلب امتاز برؤية ذات شمول حي لجوهر الوجود الانساني ، فاظهرصورا عديدة من القمع الممارس بصورة سادية وبدرجات متفاوتة لانظمة وموسسات الحكم للانسان الصرخة الذي يعبر عن معاناته بالصراخ ألما او احتجاجا لتبيان مؤشرات وجوده رافضا تعرضه للتهميش ، متجسدا في شخصية طحلب الذي تعرض للضرب المبرح حين دفعه الجوع الى احدى الولائم التي اقامها رجال الدين الموسرين اذ كانت وليمة باذخة مقصورة على الوجهاء وذوي الرتب العالية فكان صراخه هو صوت احتجاجه على تهميشه وعده من الرتب السفلى ، كما طرح الكاتب الصرخة برداء مختلف فجاءت في شخصية عبد بربن بهيئة ضحكات عالية ومدوية امتاز بها رغم الفقر والحاجة لتاتي بمعنى مغاير تماما لضحكات الفرح ، كانه يصرخ بوجه العالم الجائر والظروف الصعبة ، فضلا عن قطع السنة ثلاث من شبان المدينة واخراسهم للابد كاهانة للوجود الأنساني باسكات افواههم عن الاساءة لشخص الرئيس انذاك والصراخ بوجه الظالم للتعبير عن الوجع الذي يصيبهم جراء الظلم والاستبداد ، فضلا عن مشهد الطفل الفار من فرقة الاعدام وهو معصوب العينين ليس له وسيلة سوى الصراخ متخبطا هنا وهناك وضحكات الدوري تتخبط كذلك في الاجواء المفتوحة لملعب البصرة لعمليات الاعدام الجماعي لتاتي المفارقة في ان الصرخة لاتاتي احتجاجا بل خوفا والما ليقررها الجسد المعذب وليس الفكر والارادة ، مهما حاولت لغة الجسد الصراخ او الايحاء فانها تبقى قاصرة امام اللسان وطاقته الصوتية التي تسلبها الانظمة ، لتكون الصرخة دلالة الصوت العنيف او الاشارة الصوتية العنيفة بسبب غياب الجانب العقلي ودوره في كبت ذلك العنف وترويضه فيكون اقرب الى الحيوان ، او الى انسان مهمش مؤجل عن تحقيق ذاته بسبب انشغاله في تحقيق ذات السلطة القمعية التي تحكمهوتشغله بذاتها الطاغية وتستهلك سنوات عديدة من حياة الانسامن حياة جيل باكمله ، فيبقى مؤجلا عن تحقيق وجوده الخاص ومغيبا بنحو مقصود مستسلما لوضع مصنوع بالايدي الخفية او المعلنة للسلطة فيركن الى الياس ، تجسد ذلك في شخصية هادي جابك وعلاء عبيد حين اطاع نداء الخمرة وبقي اسيرا لها اذ اجل تحقيق ذاته في غيبوبة العقل والخدر المطبق والراحة المؤجلة ، وهاشم ابو الدهين الذي حوله الفقر الى عربة ايضا ، وشخصية رشيد الذي ابعد عن وظيفته عنوة وبات يجوب الشوارع يسب ويلعن ، كما ان الجنود في جبهات القتال لثلاث او اربع او حتى عشر سنوات اجلوا امنياتهم واحلامهم وغاصوا في عقوبات صارمة تصل للموت بحجة انه وطنهم لابد من الدفاع عنه والتضحية من اجله ، فعليه ان يؤجل اهدافه واحلامه وربما حياته برمتها من اجل مصلحة عامة مزيفة تنسب للوطن لتكون الحرب افضل وسيلة بيد السلطة القمعية للضغط على الانسان كي يؤجل تحقيق وجوده الخاص مقابل اجباره على تحقيق الوجود البهي للوطن المزعوم ، فالوجود الانساني لا يكتسب شرعيته ما لم يتحررمن طغيان السلطة واستعبادها ، والا فأن المعاني الانسانية داخله ستبقى عرضة للشك وخوفه من الاقتراب وملامسة الحقيقة للحياة الانسانية ، فيفضل عن الحياة برمتها ليسعى ان يكون مهمشا بمليء ارادته رافضا الانغماس في العلاقات الحياتية اليومية ، فلا يقوى على صنع سياق خاص به وبحياته الفردية ويبحث عن عناصر اخرى يتوحد معها او تعادله رمزيا في صفة التهميش التي اختارها مع الايحاء بوجود قوة خفية قاسية دفعته الى هذا الخيار ، اذ توحدت شخصية جويد مع الكحول والقمار توحدا داخليا ( كأسي يا كأسي لا تفرغ يا كأسي .. من غيرك ينسيني رأسي ) مؤمنا بقدرتها على اخفائه من قساوة وظلم الحياة بل قد يتعداه الى الحياة برمتها كما فعل نائب العريف حميد الذي اصيب بالكآبة السوداوية حتى ساءت حالته ومات في احدى المستشفيات ، كما تجسد ذلك في انتحار الجنود في جبهات القتال ليتم تعويضهم بأرقام اخرى فيتحول الانسان الى رقم يمكن محوه في اية لحظة ، فالترقيم يمهد لتهميشه ويجعله مضطرا للاحتكاك بالاخرين الذين ينظر اليهم على انهم مزبلة بشرية لا ينكر تلوثه بهم ، فالجندي في نهر جاسم يعد رقما من الارقام الكثيرة كلما سقط احدهم قتيلا في المعركة تم محو اسمه من السجلات وتعويضه بجنود مشاة رغما عنهم ، فالانخراط في السلك الوظيفي برضاهم او رغما عنهم يجعلهم رقما مصطبغا بشيء من الصرامة والبرود في التعامل والآلية التي تمحو الخصوصية الكامنة فيه لا سيما الجوانب النفسية الجامحة والروحية التي تستعصي على الترقيم فشخصية حاكم حسن ابو حذام الذي قضى حياته في تعليم تلامذته سجن وعذب على يد رجال الامن وتم اعفائه من مهنته وسلبت هويته بتحويله الى رقم خارج سجلات مؤسسته ، وشخصية رشيد الذي امتاز بحرصه على طلبته تم فصله من وظيفته وتحويله كرقم من سجل التدريس الى سجل السجناء، فالانسان المتعثر بالمقاييس وبالمواضعات التي تفرضها عليه الحياة الاجتماعية والسياسية تمنعه من رؤية قسوة العالم والوجود لايكون حرا بل اسيرا لتهميش الحياة ، تشظت شخصيات المهمش في مرويات عطر الامكنة بعناوين عدة امتلكت ابعادا ايحائية استلها الكاتب احمد الحلي من الواقع البائس بصورة مختلفة تماما عما سبقه من الكتاب الذين طرحوا شخصية المهمش بضعفه وجهله ، اذ طرح الكاتب شخصياته بشيء من القوة وحب الحياة والتمرد على التهميش والثقافة الواسعة الافق بأنسانية لا حدود لها ، كأنه صنع نصبا لقاماتهم المهمشة ..