أنجب فتال وديزي طفلة اطلقا عليها اسم تسيونيت ولدت في اسرائيل عام 1964 بعد ان هاجر ابويها من بغداد قسرا ، رغم هجرتهم الا انهم حافظوا على لهجة اليهود البغدادية كما حافظوا على تقاليدهم وعاداتهم التي ورثوها عن العراق. درست تسيونيت وحملت اللقب الاول باللغة والادب العربي وتاريخ الشرق الاوسط كاتبة وباحثة وروائية وقاصة ، كان لرحيل والديها الاثر البالغ في حياتها والدافع الفذ للحفر في التاريخ عن حياتهما السابقة في مدينة بغداد التي عرفتها تسيونيت بالصور والذكريات والخيال المليء سعادة وحزن ، فسارعت في جمع المصادر والمعلومات والخرائط وصور الامكنة لبغداد لتكتب رواية عن احياء بغداد اليهودية، بيوت حي اليهود الصغيرة المرقعة بالخشب والصفيح الصدىء بشكلها المتلاصق دون نظام او شكل والشناشيل الجميلة مع ساحات داخلية خفية شبه مكشوفة وسطوح مشتركة ، تخت ومناضد خشبية والدرج والسرداب وساحة البيت والجلالة (الارجوحة)، والازقة الضيقة وبيوت حي الاثرياء بقصوره الكبيرة المصنوعة من الخشب المزخرف بالنحاس والشبابيك الكبيرة بشرفاتها الفارهة ، وسوق حنوني والمدرسة الدينية زلخة ومدرسة أليشيبا والكنيس الكبيري، لغتهم البغدادية اليهودية وطريقة ارتداء ملابسهم وعاداتهم وتقاليدهم فضلا عن اهم اعيادهم وطقوسهم الدينية لتخلق منها لوحة فسيفسائية كبطاقة اعتذار لكل يهودي عراقي سلبت منه هويته وهجر قسرا من بلده العراق تمثلت بروايتها باللغة العبرية بعنوان “صور على الحائط” التي ترجمها للغة العربية عمرو زكريا خليل ،تحدثت تسيونيت فتال في روايتها عن حجب المرأة في السياقات الثقافية ونفيها في النصف الاول من القرن الماضي ، فاضحت الذات النسوية شكلا فرعيا بل ثانويا للذكر وبطريقة باهتة انتجت صورة مشوهة او ناقصة للنساء ، فكانت المراة شكلا قابعا تحت الهرم الذكوري الامر الذي اكسبه سطوة ألقت بظلالها على الثقافة الشعبية والفلسفية بل حتى الاقتصادية للمجتمع، اوضحت ذلك تسيونيت فتال بعلاقات شخصياتها المتضاربة والمتضادة التي تتأرجح بين الخنوع والتمرد لتبرز لنا نتاجا متمردا قويا متفردا في ملامحه الشخصية متوالدا في صيرورة وجودية لن تتوقف الامر الذي تمثل في شخصية ( نورية ) الابنة الصغرى ل ( نزيمة ) التي انجبت ( مريم ) خليفة خالتها (وحيدة ) في القساوة والاذى و ( نعيمة ) المنهارة والمنصاعة لاوامر (وحيدة ) المراة المتجبرة التي تتعامل بالسحر الاسود المحرم في الديانة اليهودية والذي تحكم في مصائر بعض ابطال الرواية خوفا منهم وايمانا بمضرته على مر الاحداث في الرواية ، فكانت ( نورية ) اول من يكسر قوانين (البيت الازرق) بحاكمته ( وحيدة ) ليعلو صوتها مزمجرا رافضا حكمها عليها بالزواج من ابن الخالة وحيدة المريض بعد ان تزوجتا اختيها من اولاد الخالة ذاتها المصابين بالامراض كذلك ، اتى رفض ( نورية ) واختيارها عريسا غريبا عن البيت الازرق كصاعقة نزلت على راس خالتها وجميع افراد البيت ، اذ انهم اعتادوا على كلمة نعم ولا وجود للرفض في قاموس حياتهم ، انها المرة الاولى التي تخرج بها ( نورية ) عن لعبة الخنوع والخشوع لاوامرهم لتصدح احلامها وتلعو امنيانها في سماء الحرية ، فواصلت نضالها جاهدة في تحقيق هذه الاحلام وفعلا تزوجت من (ادور ) الشاب الذي خلصها من ايدي بعض المراهقين المسلمين الذين تعرضوا لها ، وبذلك تخلصت من تجبر اخيها ( يعقوب ) الذي كان يجبرها على غسل قدميه بصورة مهينة ويأمرها بنتظيف حذائه وغسل ملابسه الى غير ذلك من الممارسات الذكورية المهينة، برزتها تسيونيت فتال بصور شتى تمس الوجود النسوي والذات الانثوية رغم تغير الظروف السياسية والاجتماعية الا ان النظرة الفوقية المتعالية عن وجود المراة لم يتغير بصورة ( ادور ) وحياتها الجديدة معه بعد ان ظنت انها ستبدا حياة جديدة ملؤها الحب والاحترام وتقدير الذات الا انها فوجأت بتعامله الفض معها وقساوته واهانته لها المستمرة بل حتى ضربه لها ، فتعود من جديد لحياتها المهينة السابقة بيد ان تسونيت فتال حبكت شخصية ( نورية ) بفتيل القوة والارادة ، فلم تنصاع للضعف ورفضت نقوده التي يقدمها لها على طبق من المنية والتكبر والوعيد وقررت النزول للشارع والعمل لحياة كريمة ، تعرفت الى صديقتها اليهودية ( زيزي) المقنعة بقناع الاسلام امام مجتمع ظالم سلب منها ابنها وحياتها مع زوجها بسبب رجل لا يتسم بشيء من الرجولة ، هنا يعود الذكر ليحطم ويسلب وجود المراة وهذه صورة من صور الاذى الواقع على المراة ، اثقلت ( نورية ) حالها حال اي امراة ترفض المهانة بواجبات شتى فهي تعمل في البيت وخارجه وتربي الاولاد وتعلمهم وتعد لهم الطعام وتهتم بالزوج ورغباته رغم ارهاقها ولا تنال منه الا المهانة والضرب والسخرية، فضلا عن تحملها جفاء والديه ، مع كل ذلك كان تردد دوما ( لا يجوز الخوف من الرجل بل الانتصار عليه بهدوء المراة ) ، اوضحت تسيونيت فتال صورا اخرى من تضعيف المراة وتهميشها من خلال التفرقة في معاملة الابناء عن البنات في البيت كذلك في الاعياد والاحتفالات فلم يكن للفتاة نصيب من الاحتفال الا بالخلاص من مصاريفها ومسؤوليتها ورمي ذلك على زوجها بعدها كائن لا يجلب لاهله سوى المصائب ، على العكس من الفتى الذي يتم الاحتفال بمولده ، والاحتفال به في ( الختان) ثم احتافئهم بوصوله لسن التكليف في عمر ( 13 سنة ) ومن ثم طقس ( النضوج ) وبعدها احتفال ( الزواج ) ، و(نورية ) حالها كحال اي امراة نالت مانالته من مجتمع ذكوري الا انها كانت تتمتع بقوة خلاقة للحياة وللوجود فبعد ان فقدت اولادها في عام واحد لم تيأس وجاهدت في خلق حياة جديدة بمولد ابنها ( ناحوم ) الذي كان رمزا للخلاص من الاذى رغم انها لم تتمكن من ارضاعه بحجة انها ذات فأل سيء على اولادها وهي صورة اخرى من الظلم الذي احاق بها من اهلها وزوجها الا انها قاومت الالم النفسي والجسدي وبقيت تحيطه بالعناية والتعليم فبعد ان عملت في حياتها السبقة بجهد على تثقيف اولادها حرصت على تثقيف ( ناحوم ) عز طريق ابنة اخيها ( حنيني ) التي طالما ساندتها في محنها الجمة والتي عانت من ظلم ابيها ( يعقوب ) في القضاء على احلامها ومستقبلها ، وبذلك تستمر تسيونيت فتال في عرض الشخصيات المتقاتلة والتي خلقت صراعات عدة ادهشت المتلقي في سلاستها رغم صراعاتها اللامتناهية لتنتج احداثا ذات طابع فجائي ينزل كالصاعقة على فكر المتلقي لتوصله الى حقائق جديدة في كل حادثة ، فرغم خنوع النساء الثلاث ( نعيمة وابنتها دوريس وهيله زوجة يعقوب ) الا انهن قررن الهروب بعد ان اجبرتهن( مريم ) على تجهيز الفتاة دوريس للزواج برجل كبير في البصرة بمساعدة ( زيزي) تلك المراة التي ترمز للمساندة وقضاء حاجات الفقراء رغم انها راقصة وتعمل في الملهى ، لتتحرر قوة النساء من دواخلهن رغم خوفهن من المصير المشؤوم لكل من يكسر القيود ويغادر البيت الازرق فشخصية نورية اصابها الالم والاذى وابنها ( مئير) فقد حياته حين قرر ترك زوجته ( مريم ) ومغادرة البيت وابنها ( حييم ) حين تمرد على اوامر البيت الازرق وتطوع للدفاع عن العراق ففقد خطيبته ( حنيني) واحلامه وحياته وابنها الثالث ( يوسف ) الذي لقد حياته في البيت الازرق بعد ان رفض الزواج بزوجة اخيه المرحوم لان ديانة اليهود تحرم الزواج بزوجة الاخ التي لديها ذرية ، لم يبق لنورية سوى سور اولادها المعلقة على الحائط وذكرياتهم واصواتهم التي لم تفارق منزلها ، الا ( ناحوم ) حين غادر البيت الازرق تحرر من جهله ومن الاذى الذي احيق به من ضرب واهانة .
تخرج تسونيت فتال من عالم المراة الى عالم اخر نثرته بطريقة انيقة بين احداث روايتها الا وهو الثقافة الشعبية ليهود بغداد انذاك اذ مررتها بصيغ سلسة متناسقة لم تثقل بها كاهل المتلقي رغم كثافتها ، فطرحت عادات يهود بغداد في رش الملح امام باب الدار والخروج بالقدم اليمنى جلبا للرزق، ولمس الحجر المقدس الموضوع في باب الكنسية وتقبيل اصابعهم جلبا للابناء والعمر المديد ، كذلك طلاء البيوت باللون الازرق ظنا منهم ان ذلك يطرد الجن والارواح الشريرة لاعتقادهم بقوى السحر الاسود ، فضلا عن طقوس التحلل من النذور التي كانت تقام عشية رأس السنة ، الا ان تسيونيت فتال عرضت اهمية الرقم سبعة في حياة اليهود وطقوسهم فالمرور فوق اناء البخور ( سبع ) مرات لتحاشي الحسد ، وتمشيط الشعر وجدله ( سبع) جدائل لتحاشي اذى السحر ، واقامة الحداد ( سبعة ) ايام حزنا على الميت ، ودحرجة التابوت ( سبع ) مرات وقلبه على عقبيه لابعاد الموت عن اهل الميت وغيرها من التقاليد والافكار والفلسفات التي حرصت على تسيونيت فتال على ابرازها في سياق الرواية ، وكأن الكاتبة حرصت على ان تعطينا درسا في تأريخ اليهود العراقيين وابرز معتقداتهم وعاداتهم الاجتماعية وطقوسهم واهتماماتهم التي ولدت ونمت في بلاد الرافدين ، كأنها تدق اجراس النسيان فينا وتوقظ الذكريات السليبة لاناس ولدوا في هذا الوطن واحبوه ودافعوا عنه واصبحوا حزءا من شعبه وحضارته وثقافته ، ورغم سبك احداث الرواية وقفزاتها الزمنية الانيقة وقوة رسم شخصياتها وتضاد علاقاتها وصراعاتها المتأججة الا انها بدت كسجل تأريخي توثيقي للانسان اليهودي العراقي وثقت فيه الكاتبة الاماكن والاحداث السياسية بتقانة عالية ، اذ كان حي اليهود يضم الكنائس والمدارس الدينية اليهودية باسمائها الحقيقية وجدت بالرواية فضلا عن رحلة المنفى لليهود من اورشليم الى بابل وملكهم ( يهويا خين ) قبل 2500 سنة بعد سبيهم من قبل الملك نبوخذنصر ، كما حرصت تسيونيت فتال على تضمين روايتها وثائق سياسية منها حكم الملك فيصل العادل بين جميع الطوائف في العراق ونبذ الفرقة بينهم ، كذلك الملك غازي الذي سار على نهجه وتتويج الملك عبد الاله بعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني الامر الذي اثار سخط بعض المسلمين في بغداد والمندسين من قبل النازيين للقضاء على الوجود اليهودي في بغداد ، وكان من نتاجاته قسر اليهود عن بيوتهم ونهبها والنداء بقتل لليهود وبقر بطون الحوامل وتهجيرهم خارج البلاد ، وظلم الاتراك لفقراء العراق الذي تمثل في شخصية الاخرس ( عبد الله ) الذي قتل الاتراك والده واعتصبوا امه امام عينيه ، كما انهم قاموا بسرقة الشباب لاجبارهم على قتال البريطانيين، كما وثقت حرب ( بريطانيا وفرنسا وروسيا ) ضد الاتراك وكيف تم جلائهم من العراق بعد خسارات باهضة دفع ثمنها العراقيون من كافة الطوائف، لم تكتفي تسونيت فتال بتوثيقاتها السياسية والاجتماعية بل تعدت ذلك الى الثقافية لتكتمل طرحها للثقافة اليهودية بسورة اكثر اتقانا ، فذكرت مجموعة من الصحف اليهودية انذاك ومنها صحيفة ( المصباح ) التي ااظهرت مجموعة من مثقفي اليهود العراقيين الذين حرصوا على ولائهم لوطنهم والتي يمتلكها ( سلمان شينا) وصحيفة ( الحاصد ) لجده ( هرمان روزنفليد ) كما برزت صحفا عراقية كانت تبث ثقافة الكراهية لليهود باسناد النازية وبرئاسة الدكتور ( فريتنس جروبا) وصحيفة ( العالم العربي ) فضلا عن ظهور الحركة الصهيونية التي اطلقت على العراق ( بلد القيمر والسيلان ) وتعني بلد الشتات ، كل هذه التصعيدات السياسية والاجتماعية كذلك الثقافية وباسناد من النازية عملت على نشر ثقافة الكراهية ضد الشعب العراقي اليهودي واوقعت عليه الظلم حتى تم تهجيره وسلب هويته ،رحلة كشفت لنا قوة وصيرورة المراة العراقية اليهودية لتطرح فلسفات عدة منها ان التدخل في القدر حرام لانه تحد لله ، وان الانسان يجلب لنفسه الاذى بذنوبه لذلك عليه الرضا بصمت وخنوع ، وان الانسان ضعيف العقل وليس بمقدوره ان يفهم اعمال الله والحكم عليها واسلم طريقة هي الدعاء ، كما طرحت افكارا عدة في ازدواجية الرجل للحفاظ على نساء بيته والتعرض السيء للاخريات ، ونشر ثقافة العيب في مجتمع مغلق يقمع الاحلام والامنيات للنسوة والفتيات ، كتبت تسيونيت فتال رواية الصور على الحائط التي انزلها ( ناحوم ) من على الحائط بكل ماتحمله من ذكريات جميلة ومؤلمة وخيبات وفراق ودموع وضحكات ليأخذها معه سائرا خارج بلده بلا هوية حاملا معه امه المريضة التي عانت من الاضطهاد والظلم لسنوات راحلا عن تراب وطنه مغتربا هناك في ارض المجهول ، اتت الرواية كوقفة اعتذار لهذا الشعب المخلص لوطنه البار بارضه المحب لشعبه بكل طوائفه ، وقفة حب واحتضان واعلان هوية ، مثلت الرواية رحلة غائرة في عالم تم التستر عليه واخفاء معالمه واثاره قابلنا فيها اناس يمتلكون ثقافة وحضارة ، عادات وتقاليد وطقوس دينية واجتماعية لتؤكد للعالم انهم شعب يستحق العيش في وطنه ، يستحق الاعتذار عن ما سبب له من اذى .