(( تكون القراءة نشطة ومنتجة حين يكون بمقدور القارئ أن يفهم النصّ ويفسّره فيناقشه أو يُحاوره : يقبل ما يقوله النصّ أو يرفضه ، يعرف كيف يصغي إليه فيسأله ، ويقرأ أسئلته فيرى إلى احتمال الأجوبة )) د. يمنى العيد
( 1 )
من يتعرّف على الروائيّة والشاعرة بلقيس خالد ـــ مؤسّسة ورئيسة منتدى أديبات البصرة ـــ من خلال ما انجزته من مجموعات شعرية سابقة ( امرأة من رمل ، وبقيّة شمعة : قمري ، وسماوات السيسم ) ، يشعر وبلا صعوبة تُذكر أنّه يقف أمام شاعرة مسكونة بالهم الوجوديّ للإنسان العراقي ، وأنّه يقرأ لكاتبة شاهدة على وطن مثخن بالجراح ، فقصائدها لم تكن مجموعة كلمات فقط ، بل صوت ناي يطلق زفرات أوجاعه فتنساب رويدًا رويدًا إلى العقول والقلوب ، بلغة شفّافة كالماء ، ومضيئة كشعاع بلا شوائب ورموز مطلسمة .
ومن يقرأ نتاج بلقيس خالد الشعري الجديد (( دقيقتان … ودقيقة واحدة / هايكو عراقي )) يكتشف من خلال قصائد المجموعة الـ ( 23 ) أنّها قصائد تدعو إلى التأمّل ، وتبعث على التفكر والبحث ، ومنذ مفتتح المجموعة الشعريّة كانت الدمعة والذكرى الحزينة والانتظار حاضرة وبقوّة ، حضور متّشح بالحزن :
مزجتْ ملامح وجهك
بملامحي : دمعة
ساحتْ
على زجاجِ
صورتك
( 2 )
وعلى الرغم من أنّ الصلة بين ( الزمن والذاكرة ) تبقى صفة مخصوصة بالجنس البشري ، الذي يمتلك وحده ملكات خاصة بالترميز والاتصال ، إلا أنّ شاعرتنا ، ولأسباب دلاليّة وجماليّة ، أنسنتْ كثيرًا من الأشياء والموجودات والكائنات المحيطة بالإنسان ، فجعلتها تتقاسم مع الجنس البشري خاصيّة التذكّر ونسج الحكايات ، فللحجر حكايات ، وللبساتين حكايات ، وكذلك للصحراء ، وظلال الأشجار ، وضفاف الأنهار :
الحجرُ حكاياته بيوتٌ
يروي أهلها سرّه الدفين
في زينة النساء ( ص9 )
……….
كم من الحكايا
في ذاكرة ضفةٍ
تركها النهر ( ص11 )
……….
أسطورةٌ أخرى
للعشق
تحكيها
ظلالُ شجرةٍ ( ص12 )
إنّ الكتابة بهذه الطريقة منحت الشاعرة في كتابة الهايكو ـــ الياباني الأصل والموطن ـــ سمة تجديديّة ابداعيّة ، إذ أنّها ـــ من حيث الموضوع ـــ مزجت بين نوعين من الشعر الياباني وهما ( الهايكو ) و ( السنريو ) توأم الهايكو الذي يرتبط اسمه بالشاعر الياباني سنريو كاراي ، وذلك عن طريق مزج الطبيعة بالإنسان وهمومه وتقلّباته ، فبعد أن كانت تقاليد قصيدة الهايكو التقليدي تجبر الشاعر على أن تكون الطبيعة بفصولها الأربعة فقط ، هي الموضوع الوحيد والرئيس في قصائده الهايكويّة ، أدخلت شاعرتنا مفردات أخرى من الأشياء والموجودات والمخلوقات ، لتتقاسم مع الطبيعة هذه المركزيّة ، وهذا مؤشّر قوي على غنى نص الشاعرة بلقيس خالد .
( 3 )
ولممارستها الكتابة في أكثر من جنس أدبي كالرواية والشعر والمقالة ، فقد انتقلت شاعرتنا وبرشاقة غير مربكة إلى وظيفة السرد ، لتتحوّل إلى ( سارد عليم ) على أحداث مدينتها وعصرها ، بلغة بالغة الإيجاز والكثافة ، بعيدة عن الاستطرادات والتفاصيل التفسيريّة ، كما أنّها تنقّلت بين كونها الذات الفاعلة في الحدث ، أو المشاركة بصنعه ، أو الذات الشاهدة على الأحداث .
ولعلّ أول الهواجس حضورًا في قصائد مجموعتها الأخيرة (( دقيقتان … ودقيقة واحدة )) هو ما دلّ على الغربة والاغتراب النفسي والفكري والظلام الذي خيّم على أكثر الأشياء التي من حولها، لكنه انهزم أمام فكر شاعرتنا ووعيها ونفاذ بصيرتها:
تعودُ أنتَ .. وأظلّ حائرةً
لماذا لا أراها
: عودتي لذاتي ؟ ( ص22 )
…………
لم تكن بيضاء
الورقة التي حملت
أقدارنا ( ص84 )
………..
أتحرّكُ كثيرًا
كي لا أضيّع في فوضى
الظلال الغريبة
: ظلّي ( 95 )
…………
قمرٌ
يتأمّل ظلمةَ الأشياء
: حيرتي ( ص97 )
…………
لا أحد يراها
أقراط أرتديها للزينة
تحت حجاب ( 96 )
………..
وللدلالة على أحداث بعينها ، أو أمكنة معيّنة ، نلحظ أنّها تجيء بها معرّفة بأل أو معرّفة بالإضافة ، كتعيين نحويّ ، وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلُّ على واقعيّة هذه الأمكنة والأحداث وأنّها ذات أبعاد وظيفيّة ونفسيّة ، فهواجس الحروب ولعلعة السلاح بسبب وبدون سبب ، وما جرته من قتل وتدمير وويلات وانكسارات وانتكاسات ، على ذات الشاعرة وعلى الآخرين لم تفارق مخيّلتها أبدًا :
من العزاء تعود إلى بيتها ، تتفقّد خزانة الأدوية
: المرأة الوحيدة ( ص17 )
………..
: جدّتي ..
كم عمرك الآن ؟
سكتت ..
لتعدّ جبهات القتال ( ص19 )
………..
مع أبنائها تحترق
وهي
تركض
حافية معنا ( ص113 )
………..
( 4 )
وإذا قيل بأنّ (( الصورة خير من ألف كلمة )) ، فقد أضافت بلقيس خالد من خلال قدرتها المتميّزة على اتقان فن تصوير اللقطات في قصائدها ، بصمة تشكيليّة رائعة لمنجزها الشعري الجديد ، إذ نقلت لنا الواقع بلغة فائقة الروعة والتعبير ، جامعة بين الشعر الذي يُعدّ خطابًا سمعيًّا ، وفن التصوير الذي يُعدّ خطابًا بصريًّا ، ممّا يدفع القارئ إلى التأمّل وليس فقط الإعجاب بما كتبت ، فكان الشعر عندها بحقّ (( رسم ناطق )) كما يقول سيمونيدز ، مشيرًا إلى فنيّة وجماليّة تداخل فن التصوير مع القصيدة الحديثة ، وهذا ما يلمسه القارئ في هذه المقاطع الآتية :
نظرة حائرة
كلّ ما تركه المُهاجر
لأمّهِ ( ص18 )
………..
آلام كثيرة في
هذا الوطن
ولا صرخة ولادة ( ص19 )
…………
كلّما لويتها
بكتْ
ثياب بلّلها المطر ( ص33 )
…………
يبحثُ النهرُ عن وليمةٍ
طفلٌ عارٍ ، ركضَ خلف بطّةٍ
شاءت أن تستحمّ ( ص70 )
…………
تأوّهتْ ثمّ انصرفتْ
فكرةٌ
لم أدوّنها ( ص109 )
…………
إنّ هذا التداخل بين النصّ الشعري والفنون التشكيليّة ، لم يكن جديدًا على شاعرتنا ، فقد سبق لها أن وظّفت فن الرسم في أعمالها السابقة وذلك بتحويل المجرد إلى ملموس عن طريق تفكيك كلمة ما من الكلمات إلى شكل يوحي بمعنى هذه الكلمة ، كما في قولها في مجموعتها : (( بقيّة شمعة : قمري )) :
الليل : جدار
ي
ت
س
ل
قه
النهار ( ص70 )
إذ رسمت كلمة ( يتسلقه ) كالسلّم لكي يتسلق النهار، فكانت محاولة ناجحة لخلق بلاغة صوريّة ضمن لغة النص، لتوجيه منازع التلقّي حسيًّا.
( 5 )
ولاعتقادها الراسخ بأنّ (( الإنسان أغلى رأس مال في الكون ))، وإنّه هو المقياس ، انتقت الشاعرة لقطات من عالم الفقراء والمهمّشين والمسحوقين ، لإبراز التناقضات الصارخة الموجودة في مجتمعنا:
من الطابق الثاني تهاوت
طاسة الإسمنت .. اختفى عاملٌ
الأسطة حائر : العدد لم يكتمل ( ص60 )
فبإيجاز رائع أضمر هذا المقطع الذي تتكوّن بنيته من جملة شعريّة تتوزّع على ثلاثة أسطر ، ايحاءً بأنّ هناك دلالة محذوفة تقوم لغتها على مفارقة تشير إلى هوان إنساننا المعاصر، فالدال الأول هو تهاوي طاسة الإسمنت واختفاء عامل ، وهي حادثة تحدث في أيّ زمان ومكان ، لكن الصدمة تكون في الدال الثاني التي قصدته الشاعرة وهي الإشارة إلى عدم مبالاة ( الأسطة ) بموت العامل ، بقدر حيرته بأنّ (( العدد لم يكتمل )) .
وفي مقطع آخر تقوم لغته المكثّفة والموجزة على المقابلة بين الحياة والموت ، والنعمة والنقمة ، إشارة إلى ضجيج الموت الذي ملأ كلّ زوايا حياتنا ، كتبت شاعرتنا مصوّرة الدوامة التي يعيشها أحد المنكوبين بفقدان مكان سكنه وأسرته ، بعيدًا عن أسئلة المسؤولين والمتنفذين :
على حجرٍ من ركام البيت
قبالة جثث أسرته
جلس يفكّر : النعمة ؟
أو النقمة .. أنقذته ؟ ( ص101 )
( 6 )
أخيرًا ، فإنّ القارئ للمجموعة الشعريّة (( دقيقتان … ودقيقة واحدة )) للشاعرة بلقيس خالد ، من اصدارات دار المكتبة الأهليّة في البصرة لسنة 2019 ، يشعر أنّه يقف أمام شاعرة تبحث عمّا يميّزها عن بقيّة الشعراء ، وأنّها تحمل بين جوانحها وفي ذهنها مشروعًا شعريًّا منفتحًا على الطبيعة والإنسان بكلّ يوميّاته وتفاصيله وهمومه ، ارجو أن توفّق في انجازه .
وبما أنّ البحث عن مقاصد الشاعر ونواياه ليس من غايات الناقد ـــ كما يرى الدكتور صالح هويدي في كتابه مقاربات نقديّة في الثقافة والتراث ص126 ـــ لأن القراءة النقديّة في أحسن صورها هي (( محصّلة قراءتنا وتحليلنا لطبقات نسيج النصّ وكشفنا لطرق اشتغاله وأساليب تعبيره واستراتيجيات تشكيله للرموز والدلالات )) ، فإنّ هذه المقالة ما هي إلا قراءة نشطة ومنتجة ، ومحاولة لاستنطاق قصائد هذه المجموعة، وما تنتجه حركة العلاقات بين عناصر بنيتها من دلالات .