تعد ملحمة كلكامش من الملاحم البطولية التي تكشف عن أمور مهمة تمثل مختلف المجالات، وعن شخصيات تاريخية واقعية وأخرى أسطورية خيالية ، مجدت مغامرات وبطولات الملك كلكامش خامس ملوك السلالة الأولى من (سلالات أوروك) وتضم الملحمة مجموعة من الأساطير السومرية والأكدية والفولكلور، يقصد العديد منها شرح عناصر متعددة في معتقدات وممارسات ارض الرافدين يكمن في أساس الملحمة بأسرها موضوع الموت وفقدان الخلود فهي ليست مادة لطرح المعتقدات الدينية والممارسات الاجتماعية التي كانت تمتاز بها شعوب ما بين النهرين، بل هي على درجة كبيرة من العمق الفكري والتربوي، اذ احتوت الكثير من الدلالات التاريخية والدينية، فضلاً عن مضامينها السياسية والاقتصادية والفلسفية ، فكانت الوعاء الذي وضع فيه الإنسان الرافديني خلاصة فكره، والوسيلة التي عبر بها عن هذا الفكر، وعن الأنشطة الإنسانية المختلفة التي مارسها، فهي ليست مجرد خيال كاتب أو مجموعة كتاب بل انها تراكم لنتاج الفكر الإنساني المبدع في نتاج الأدب، وهذا الشكل الفني لا ينفصل عن مضمونه الذي ينمو في غالب الأحيان ليكون تأملاً، فتأمل الكاتب يستند إلى مرجعيات فكرية أدبية تمثل جذور الملاحم والأساطير المتشعبة في الطقوس من خلال خلق تفسير أو تبرير لممارستها بعد أن طواها النسيان ونفت الحاجة إليها، فبعد مرور زمن على ممارسة طقس معين وفقدان الاتصال مع الأجيال التي أسسته يبدو الطقس خالياً من المعنى ومن السبب والغاية تخلق الحاجة لإعطاء تفسيراً له وتبريراً وهنا تأتي الملحمة لتكشف لنا عن عقائد أصحابها ومثلهم وعاداتهم وتتضح من خلال نظريتهم وفلسفتهم في الحياة، فملحمة كلكامش هي دراسة معرفية لجذور الفكر الإنساني، تتناقل بين الأجيال في أماكن وأزمان مختلفة وغير محدودة مدونة بأسلوب شعري قصصي بطولي مترابط . اذ تتألف ملحمة كلكامش من اثني عشر لوحاً ويرجع اكتشاف هذه الألواح إلى اهتمام المكتشفين والباحثين في الآثار في هذا النتاج الأدبي الخالد والمتميز بالانتقال عبر حدود المكان والزمان، وإمكاناتها على التكيف خارج الوطن بعيداً عن زمن ولادته ليظل عالقاً في ذاكرة الشعوب، حيث انتشرت الملحمة في أماكن جغرافية عديدة كان منها آشور (قلعة الشرقاط) و(الوركاء) و(تل حرمل) في بغداد و(تل اشجالي) في ديالى و (تبه) في جنوب تركيا والعاصمة الحثية (حاتوشاش) و(مجدو) في فلسطين و(اوغاريت القديمة) في سوريا و(نمرو) بالغرب من الموصل، فكان لهذا الانتشار اثره الكبير في استلهام موضوعاتها في اعمال فنية متعددة وولادة رغبة ملحة في ترجمتها لذا حظيت باهتمام المثقفين والمترجمين “فدونها السومريون والاكديون ثم البابليون بين الاعوام (1900-1600 ق.م) ليحتفظ بها في مكتبة الملك الاشوري (اشور بانيبل)، حيث ترجمت إلى “السامية وقد وجدت في محفوظات عاصمة الحثيين الإمبراطورية في بوغازكوي في الاناضول وترجمت إلى اللغة الحثية وهي لغة هندية اوربية والى اللغة الحورية، كما ترجمت إلى اللغة الانكليزية، الفرنسية، الالمانية، الجيكية، الروسية، الدنمركية، الفلندية، الجورجية، الايطالية ، الهولندية، العبرية والعربية, وانشغل أهل الفكر باختلاف ميادين عملهم ومجالات اختصاصهم بقراءة النص، فقد شكل النص منطقة من مناطق عمل الفكر لاستكشاف علاقتنا بالوجود، او الحقيقة والذات والمعنى والمؤلف والقارئ، وشهدت المعارف والأفكار ثورة في العقود الأخيرة فجرت أساليب جديدة في مجال نقد النص وتفكيك الخطاب، فكان مصطلح (الحوارية) عند الناقد الروسي ميخائيل باختين البذرة الاولى لإنبات مصطلح (التناص) على يد جوليا كرستيفا فأدخلته إلى رحاب المصطلحات غير المألوفة التي يحفل بها النقد الادبي، اثار هذا المصطلح جدلا نقديا شغل الباحثين بتعددية اتجاهاته الأدبية وتسمياته الاصطلاحية فهو حينا تداخلا نصيا وفي احيان اخرى تفاعلا نصيا وتعالقا وتشاكلا ونعت ايضا بالنصوص المهاجرة (والمهاجر اليها) وقيل عنه تغذية النصوص وعبر النصية والبينصية والنصوصية والتنصيص الى غير ذلك من المصطلحات التي تصب في مفهوم واحد هو التناص.وشهد هذا المفهوم خلطا وتداخلا واسعين بينه وبين بعض المفاهيم الاخرى مثل (الأدب المقارن) و(المثاقفة) و(دراسة المصادر) و(السرقات الأدبية) نتيجة لاقتراب هذا المفهوم وتلك المفاهيم فيما يخص الاتجاه العام بينها في التواصل والتأثير. الا ان التناص يختلف عن تلك المفاهيم في امتلاكه آليات خاصة وأشكال وفضاءات وأنظمة وأنواع نقدية حديثة تعمل على تفكيك الخطاب الأدبي لتكشف عن العلاقات التي تربطه ببقية الأعمال الأدبية الأخرى سواء كانت سابقة ام معاصرة, وقد استلهم الأديب جاسم محمد صالح موضوع مسرحيته (اطفال الغابة) من ملحمة كلكامش الخالدة فجعل موضوعات الملحمة ارضية واسعة لعمله الادبي المسرحي، اذ أبدع في صياغة شبكة من العلاقات بين نص الملحمة السابق ونصه المسرحي اللاحق بآليات متقنة خلقت نصا مسرحيا موجها للاطفال أمتاز ببساطة اللغة ووضوح الفكرة والحوارات الجميلة المنسابة بسياقات متناسقة على الرغم من صعوبة لغة الملحمة الشعرية وفلسفتها العالية وسياقاتها المتداخلة , وهذا يحسب لصالح المؤلف , ليبدو النص المسرحي صدى لنص الملحمة والى ما لا نهاية جدلية لنسيج الثقافة ذاتها كما اكد ميخائيل باختين فالتبادل الحواري بين النصين هو من يخلق النص الجديد من خلال صدى النصوص الاخرى التي تتشابك فيما بينها بعلاقات منتجة لذلك النص مصطبغة بالثقافة المعاصرة التي تمتلك سياقات تتداخل فيما بينها , اذ انتج المؤلف نصا جديدا كان صدى لموضوعة النص متجسدا فيما وقع على شعب اوروك من مظالم وخوف ورعب من الشر المحدق بهم مستخدما الاطفال بعلاقة تناصية مع الشعب حين استنجد بالالهة لتخلق له ندا لكلكامش اما في النص المسرحي فقد استنجد الاطفال بكلكامش ليقضي على الساحر وانكيدو المناصر له (الاطفال بصوت واحد: كلكامش كلكامش يا صديق الاطفال.. مرحبا يا صديقنا انت الذي تنقذنا لقد آذانا الساحر وأرعبنا وخدع أنكيدوا حتى صار ضدنا)، وقد اتبع المؤلف خطى رولان بارث في عدم اكتفائه بالتناص دون المتلقي فوجود التناص كان لديه مشروعا بوجود المتلقي او القارئ الذي يحيل النص الى مرجعيته للنصوص السابقة من خلال إدراك العلاقات النصية التي تجمع بينها،فخصص النص المسرحي لشريحة الاطفال وعمل على تحويل افكار النص الفلسفية الى افكار بسيطة تتلاءم والفئة العمرية للاطفال (المتلقين) مستخدما آلية التحويل والذهاب بمعنى النص السابق الى بعد جديد من خلال النص اللاحق، اذ حول جدلية الموت والحياة والخلود لملحمة كلكامش الى انتصار الخير على الشر بالتعاون والتعاضد بين الناس ضد القوة الغاشمة التي تسلبهم حقوقهم في وطنهم ليعم السلام.
انتج المؤلف علاقة تناصية بواسطة الصراع الذي دار بين قوتين مخيفتين هما كلكامش ملك اوروك وانكيدو ابن البراري والغابات (انكيدو: اتركنا لاتبق هنا ياكلكامش اما تخاف قوتي؟ اما تخاف سطوتي؟، اما تخاف قدرتي؟ انا انكيدو عشت مع الوحوش، لي قوة جبارة تفتت الحجارة)، ونص الملحمة حين يصف القوة المتماثلة بينهما (انه مثيل جلجامش في البنية ولكنه اقصر قامة وأقوى عظماً)، فضلا عن وصف الصراع بينهما في الملحمة الذي انتهى بانتصار كلكامش (أمسك أحدهما بالآخر وهما متمرسان بالصراع وتصارعا وخارا خوار ثورين وحشيين)، كما عبر عنه المؤلف في نصه المسرحي (كلكامش: ها قد هزمت يا انكيدو)، استخدم المؤلف آلية التضمين فاستوعب مضمون نص ملحمة كلكامش ودمجها في مضمون النص الجديد الذي يوحي الى المضمون الاصلي بطريقة مباشرة عن طريق تضمين المفردة كما ذكرنا مفردة كلكامش وانكيدو واضاف المؤلف تضمينا لمواصفاتهما وابعاد شخصيتهما التي امتازت بالقوة والضخامة فضلا عن حياة انكيدو في البراري , او الجملة كما في اسوار اوروك،( كلكامش: من ناداني انا كلكامش الذي يحب الاطفال ويزرع الخير في كل مكان، عدوي هو الشر واسحقه واحطمه وانثره في الهواء، لا احد يقف في وجهي انا ابن اوروك صديق الاطفال صديق الحب والخير والسعادة والسلام ) بينما كان نص الملحمة مغايرا تماما ا(لم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار لم يترك كلكامش عذراء طليقة لأمها ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل) اذ خرق المؤلف هنا على النص ببنائية شخصية كلكامش الظالمة التي استباحت الاعراض وقتلت النساء والاطفال وارتكبت ابشع الجرائم بحق الانسانية الى شخصية مسالمة محبة للخير والسلام مستخدما آلية الانقلاب، كما استخدم المؤلف التضمين غير المباشر في الفكرة او الموضوع اذ تميز المؤلف في عرض شخصية الالهة التي اتت بانكيدو للقضاء على كلكامش بشخصية الساحر الشرير التي اختلفت تماما عن الالهة في جميع ابعادها مستخدما بذلك آلية اخرى هي الخرق اذ انقلب على معنى النص من قدسية الالهة الى وضاعة الساحر من الضد الى الضد أي كسر الثوابت وتحطيم الصنم, من القوة الهائلة للالهة وقدرتها على الخلق وتغيير المصائر الى الضعف والخوف من الاطفال على الرغم من اتهم تلك المخلوقات البسيطة الملائكية التي لا قوة لها تضاهي الشر (الساحر الشرير: ياكلكامش لا تتحدى من هو اقوى منك، نحن الاقوى، اذهب اذهب لا تبقى انكيدو هو الاقوى)، كما عمل على اقتطاع اجزاء من نص الملحمة ومنتجتها للخروج بنص مسرحي يمتلك تقاطعات معها، فكان التناص لدى المؤلف جاسم محمد صالح عملية مونتاج وتجمع لتنظيم نصي معطى بالتعبير المتضمن فيه او الذي يحيل اليه وبذا يكون التناص هو ذلك التقاطع داخل النص لتعبير (قول) مأخوذ من نصوص اخرى انه النقل لتعبيرات سابقة او متزامنة والعمل التناصي هو “اقتطاع “و “تحويل كما اكدت جوليا كريستيفا , اذ اقتطع اسوار اوروك (اطفال يلعبون قرب اسوار اوروك، اشجار هنا وهناك ) وقد ذكرت اسوار اوروك في الملحمة على النحو التالي (لقد سلك طرقا بعيدة متقلبا مابين التعب والراحة فنقش في نصب الحجر كل ماعاناه وخبره بنى اسوار اوراك المحصنة وحرم (أي- انا) المقدس والمعبد الطاهر فأنظر الى سوره الخارجي تجد افاريزه تتألق كالنحاس)، وشخصية كلكامش(اصوات عالية وريح قوية وصراخ مرتفع يدخل كلكامش ويقفز هنا وهناك مثل الاسد) هذا وقد ظهرت مفردة كلكامش في الملحمة عدة مرات كان منها (دعا كلكامش الصناع والنحاسين والنحاتين وقال لهم اصنعو تمثالا لصديقي وصنع التمثال لصديقه) وشخصية انكيدو(انكيدو مستعرضا عضلاته : شربت الحليب مع الاسود وتسابقت مع النمور وصارعت الفيلة، تخاف مني الطيور في السماء انا انكيدو ابن الغابة المظلمة سيد الوحوش) وكان نص الملحمة على النحو التالي ((مع الظباء يأكل العشب ويتدافع مع الوحوش عند مساقي الماء) ليبدو الاقتطاع واضحا من نص الملحمة , وكما اكدت جوليا كريستيفا ان النص لا يمكن ان يكتفي بذاته ويستقر الا من خلال أرضية نصوص اخرى, فقد كانت ملحمة كلكامش ارضية مكتنزة للنص المسرحي (اطفال الغابة) الذي تشرب منها الاقتباسات المباشرة وغير المباشرة بآليات متباينة اتت عن خبرة ودراية نقدية ادبية للمؤلف نجح في تحويل نص ملحمة كلكامش الفلسفي الى نص مسرحي موجه للاطفال بواسطة انفاتحه على النص الملحمي ورفضه للانغلاق البنيوي في صناعة النص، ليكون مجموعة من الترسبات الثقافية التي صيغت بصورة جديدة تتناسق وثقافاتنا, وبذلك فقد نجح المؤلف جاسم محمد صالح في امتصاص نص ملحمة كلكامش وعرضه بحلة جديدة بالدراسة الواعية القصدية لنص الملحمة وامتصاص ما يدعم ويعضد النص المسرحي، بآليات متعددة على مستوى الشكل والمضمون حتى اضحى نص الملحمة بمثابة مواد خام لنص (اطفال الغابة) مما جعله يضفي بعداً ابداعيا لظاهرة لغوية معقدة تستعصي على الضبط والتقنين الا وهي التناص.
.