يرى الشاعر الفرنسي باتريس دولاتور أن الأسطورة ( تُعدُّ في المنظور الشعري دفئاَ للعقل والجسد ، فالشعبُ الذي لا أساطير له يموت من البرد ) ، إذ أن الأسطورة تحمل بين طياتها كماً هائلاً من الخزين الذي يمكن توظيفه في خلق أشتغالات نصية لاسيما في المسرح ، لقراءة العديد من الموضوعات الحياتية ، القابلة لتعدد الدلالات في تأويلاتها الكلية ، وقد نشأ هذا التوظيف وبحسب العديد من الدراسات في المسرح منذ الإغريق وحتى اللحظة الراهنة ، في صياغة نصوص مسرحية تتأطرُ بالمثيولوجيا لتكشف حيثيات مرحلة ما أو واقع ما ، كما أن القارئ من خلالها يمكنه أن يصل إلى الاستدلالات ليكشف ماهية الحادثة المؤطرة بصبغة المثيولوجيا ، والتي تنفتح علينا ببوابات دلالية تهيمن على خيوط اللعبة ، وتعيد المعنى المتجلي لتضعه في خاناته الجديدة ، كي تؤسس لها منظومةً علاماتية قادرة على أن تتحملَ العديد من الاشتغالات النصية المبطنة أو الظاهرة ، وهذا ما ساقته لنا الكاتبة الدكتورة إيمان الكبيسي في مجموعتها المسرحية ّ( قالت لي العرافة ) الصادرة عن دار لارسا للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة في بغداد لعام 2018 ، ويمكن لنا التجوال في محطات هذه المسرحيات وبشكل موجز وعلى النحو الآتي :
في مسرحية ( رياح شرقية ) استطاعت الكاتبة أن تستنطقَ المسكوت عنه ، عبر امتطاء المثيولوجيا ، لإنشاء متن حكائي يقرأ الراهن من خلال أسطرة الواقعة والبحثُ عن تجلياتها ، لخلق ثيم متوازية في انشائيات دراماتيكية مميزة ، لقد جسدت الكاتبة عبر عناصر النص الدرامي المعروفة ، منظومة علاماتية اختزلت ثيمة الاستبداد والقهر الاجتماعي ، المبنية على مهيمنات حاولت الكاتبة أن تستبطنها بغية السيطرة على حيثيات الواقع المعاش . . لقد استبشرنا خيراً برسم شخصية فارس بوصفه المخلص ، إلا انه للأسف لم تحاول الكاتبة أن تمنحه مساحة مناسبة لمعالجة الحطام الذي هيمن على القرية وشخوصها وجعلها في دوامة الزيف والانبطاح والاستبداد ، بوصفها قدرية حتمية لا علاج لها .
أما نص ( قالت لي العرافة ) فهو نص ذو دلالة إيحائية ذلك لأنه يعد ثابتاً بالنسبة إلى متن آخر للمعنى على حد تعبير الدنماركي ( هيلمسليف ) ، بمعنى إزاحة المعنى جاءت من النسق اللغوي الذي أعطى نسقاً محايثاً بفعل التأويل للنص الدرامي ، سلمى بشخصيتها وأبعادها المميزة ، وعلاقتها بالشخوص الأخرى ، وفق دائرة البوح الإنساني ، وما تحمله من دلالات بوصفها البؤرة المركزية للأحداث ، كشفت خارطة الوجع العراقي ، من خلال بث ثلاثة مستويات في نسق المدونة ، وهي بتقديرنا بانوراما للواقعة ، حيث تماهت تلك المستويات لتكشف ثنائية ( الحاكم والمحكوم ، انشطار الشخصية المركزية ، بيان موقف شرائح المجتمع من أعمال الحاكم ، دخول المنقذ الذي لم تتشبث به سوى سلمى ثم محاولتها للارتقاء إلى سلم الصعود ) كل هذا المعطى منح النص دفعةً درامية وعلاماتية ، لخلق نص محايث بالمعنى عن النص الأصلي ..
على الرغم من استعاضة ( جوردن كريج ) عن الممثل الحي بالدمى المتحركة لاعتقاده بأنها أكثر صدقاً ومطواعية ، فأن حال الكبيسي هنا وتحديداً في نص ( تويتر نسائي ) جاء مختلفاً تماماً في استخدامها للدمى ، إذ الاستخدام جاء هنا لخوض اللعبة الافتراضية القائمة على محاكاة اللعبة الحياتية ، والتي يقودها لاعبان بشريان حقيقيان . إن توليد عدد من التتبعات بتسلسلها الإجمالي من خلال الفعل والشخصيات والفكرة ، بحسب ( فريدمان ) أنتج لنا عقدة النص ، والتي كستها الكاتبة بغطاء فانتازي مثير ، كما أنها خلقت لنا حبكة تراجيدية ، أنتجت فعل التطهير للقارئ ، خصوصاً حينما تم إصدار الحكم ظلماً على الشخصية المركزية وهي ( الدمية ) بسبب محاولتها البحث عن حريتها للخروج من هذا الركام ، والتمرد على ( اللاعب ) ، لقد احكمت الكاتبة زمكانية التعبير ، وجعلت الحاضر الإشاري ، واضحاً متماسكاً ، بوصف النص وحدة متماسكة أنتج لنا خطاباً تواصلياً ، برزت فعاليته في التأويل الكلي ، لان ذلك أدى دوراً محدداً في مطابقة الخطاب بوصفه نصاً على حد تعبير ( فان ديك ) .
في مسرحية ( الرجل الذي عاد ليرفض ) وهو نص مونودراما ، صورت الكاتبة عبره رحلة الإنسان العراقي ، عبر فرضية العودة من العالم الآخر ، بوصفه شهيداً ، وان لم ينل ذلك بشهادة الملكين ، فالرجل الذي استيقظ من موته ليجد نفسه وسط مقبرةً مكتظةً بالموتى ليسرد لنا فيما بعد رحلة حياته المليئة بالعذابات والانكسارات ، منذ ولادته ولحين مغادرته الدنيا ، حيث أصّلت الكاتبة هذا المعنى عبر فضاء مزدحم بالبالونات والصلبان الموزعة على إتجاهات مختلفة مع وجود التابوت ، فأعطت لكل شيء رمزية وفي مقدمتها البالونات خصوصاً عبر فعل الانفجار بعد نهاية كل حدث من أحداث المسرحية ، وبما أن النص هو نتاج من الجمل له معايير وخصائص بنيوية معروفة ، هذا في سياق قواعد النص وسياقاته التقليدية بحسب ما أشار إليه ( فان ديك ) في بحثه عن النص ووظائفه ، فان الكاتبة في هذا النص ، لم ترتكز على القواعد التقليدية في إنتاج بنى النص ، وإنما بحثت عن سياقات توليدية جديدة ، لكسر رتابة المونودراما من جهة ولخلق صور تعبيرية ومدهشة من جهة أخرى ، فحملت النص مجموعة من العلاقات المشتبكة بمرجعيات القارئ ، وأوغلت بالعلامات اللسانية ، كذلك وخزت الذاكرة الجمعية عبر الاتكاء ، على ( الجستس الاجتماعي ) ، من قبيل ذكر بعض الجمل والأناشيد ذات الإيحاءات الواضحة ، على سبيل المثال ( هاي الراده وهاي التمناه ) كذلك ( الله اكبر للنصر خطواتنه راياتنه فوق النجم راياتنه ) وهكذا ، جاء ذلك لتعريق الحادثة ، بل ولتحديد زمكانية الحدث .
أما المسرحية الأخيرة في المجموعة وهي ( ترانزيت ) ، فالمتأمل فيها يجدها ذاتاً تتحرك في ثلاثة انساق علاماتية ، تتمثل الأولى في نبوءة العرافة ، والثانية في الغجر ، والثالثة في ثنائية العهر / التطهير المتمثلة بشخصية الطبيبة ، وهذه المسلمات الثلاث تقترب بشكل أو بآخر من جانب النبوءة وتداعياتها من أسطورة ( أوديب ) لسوفوكليس ، فالكاتبة وإن خلقت عوالم مختلفة عبر اقتحام النص بمجموعة أيقونات مختلفة في المشهد الواحد ، إلا أنها أمسكت بزمام الوحدة العضوية للنص ، بدءاً من مشهد الولادة للفتاة ، مروراُ بأحداث الطبيبة ، وانتهاءً بهيمنة الفتاة على القرية وتحقيق النبوءة وقد عززت الكاتبة هذا النسق المتسارع للأحداث ، عبر ما قامت به من إجراءات داخلية للبنية الداخلية للنص ، سواءاً على مستوى الأحداث أو الشخصيات ، وتفعيل الأحداث ذات الحساسية المجتمعية ، بحسب ما أشار إليه ( ادموند اورتفيس ) في بحثه عن ( خطاب الرمز ) ، وهذا الكشف الصارخ الذي قامت به الكاتبة ، يعد قراءة حقيقية لكينونة المجتمع ، وهذا ما وصل إلينا من إنزياحات النص ، عبر الفكرة والحبكة وزاوية النظر وحركة الشخصيات واللغة . ويمكن إجمال بعض الملاحظات العامة حول المجموعة وهي على النحو الآتي :
أولاً : اقتربت المجموعة المسرحية بنصوصها الخمسة إلى الرؤية الإخراجية أكثر من النصية ، بلحاظ الكم الكبير من الملاحظات الإخراجية المتواجدة في كل النصوص ، وان كان ثمة لغة شعرية متناسقة إحتضنت الأفكار المرسلة ، بمعنى أن الكاتبة غلَّبت فعل الصورة أكثر من فعل اللغة أو الملفوظ الحواري .
ثانياً : جدلية ( الأسطورة والواقعة ) هي من أكثر المهيمنات الحاضرة في النصوص ، لتعرية الواقع من جهة ، ولتأثيث نسق حكائي فانتازي مثير ، يبعث على الدهشة والانجذاب من جهة أخرى .
ثالثاً : استخدام ( الصدمة المرجعية ) عبر الوخز المتكرر سواءاً على مستوى المفردة المتداولة أو على مستوى الحدث بوصفه موروثاً شعبياً ، لتعريق الحالات ولفتح خطوط تواصلية مع القارئ ، كي تحقق الكاتبة فعل الاندماج وخصوصاً في العرض المسرحي فيما لو قدمت النصوص على خشبة المسرح .
رابعاً : محاولة اللعب في أساليب الكتابة من نص لآخر بغية قراءة الواقع من زوايا متعددة ، كذلك إجتراح أسلوب ونمط خاص بالكاتبة تؤهلها للتميز عن قريناتها من الكاتبات .
خامساً : شخصياتها رشيقة تتنامى بشكل سلس وبسيط ، من دون مشقة ، وتُحدث تفاعلاً واضحاً ، ولغتها بسيطة تنسل إلى القلب بلا تكلفة ، وحبكتها تتصاعد هرمياً ، وتهبط مثل نبضات القلب متناسقةً مع الحدث .