بما ان الابداع هو فن الاكتشاف والاتيان بالجديد، فهو في نفس الوقت ادراك مكامن النفس عند المبدع، ايمانا منهم بالتغير و التمرد علی الموجود الراكد و عدم رضاهم عما حولهم، لذا ينظر المبدع الی الابداع كحق ذاتي مشروع و تلبية لرغبات و أمنيات ترسخت جذورها في العقل والوجدان. اضافة الی ذلك فأنه ضرورة حياتية تتجدد بتجدد مفردات الحياة و التغيرات السريعة الطارئة عليها، سواء أكانت اقتصادية، علمية، سياسية، اجتماعية، ادبية… ومحصلة كل ذلك تتبلور في خلق أسلوب و مفردات لغة جديدة لن يفهمها الجيل الذي سبقتها أو علی الاقل لا ينوون قراءتها ولا يسندونها و لا يتعاطفون معها، وهكذا يتطور و يتغير الأشكال الادبية بحثا عن لغة تناسب التغيرات العصرية، بالاستعداد والانسجام مع هذا الواقع الحياتي الجديد. ولأن الادب مرآة لهذا الواقع، فمن المستحسن ان ندرس النتاجات الادبية علی ضوء هذه الحقيقة الملموسة و نقرأ من خلالها الاستطلاعات اوالتنبٶات المستقبلية، حتی و لو ان الاذواق الشعرية و الافهام يتغير من حقبة لأخری، و لكن يتحرك في علاقة طردية مع كل المتغيرات المتفاوتة الباقية للأوجه الحياة الشتی، أو ما نسميها بسماة حضارية و مميزات العصر الجديد.. ناهيك عن ان النص الجيد سيبقی مفتوحا و لن يموت بموت مٶلفه أو نقد مناوئه. ولقد رأی أرسطو (٣٨٤-٣٢٢ ق. م) ان انواع الشعر مهما اختلف ليس الا طرائق للمحاكاة، بل ان المحاكاة هي عامل مشترك بين الشعر والفنون الاخری.
وكذلك ان التطور السريع للمدارس الشعرية من أوائل القرن الماضي لحد الآن خير دليل علی كلامنا الانف ذكره، ومن بين تلك التيارات: الرومانسية والواقعية والدادائية والانطباعية والرمزية والشكلانية والسريالية وألخ… و ليس شعراءنا بمنیء عن ذلك، بل ان أول من يجابه هذا الواقع الحياتي الجديد هم الشعراء، لكونهم أرهف حسا و أوسع تطلعا و أدق تعبيرا، مستعينا بالخيال تارة والفلسفة والعلوم الاخری تارة أخری.
لقد قرأت نصا شعريا متميزا في الايام السابقة تحت عنوان “المخلوقات العلمية” للشاعر الحداثوي سوران محمد و لاحظت فيه اختلاف هذا النص عن النصوص الاخری السائدة شكلا و مضمونا، بحيث تثيرر أسئلة كثيرة و تطرح مواضيع جوهرية و مصيرية خارج الاطر المتعارف عليها عند بعض الشعراء التقليديين، لكن في باديء الامر عندما نقرأ هذا النص نری انه ليس برومانسيا و لا تهيج العواطف فينا و ليس بنص مسجوع يتبع المنهج الكلاسيكي بمراعات الاذواق التقليدية أو مانسميه بالنظم الموزون والمقفی، و في نفس الوقت لا نستطيع أن نسميه بصنف أدبي آخر كالنثر أو القصة أو ما الی ذلك، الا ان نتعامل معه و نتداوله كنص حداثوي يمتزج الخيال العلمي بالواقع المزري لمجتمعاتنا ومن ثم بتنبٶات مستقبلية علی ضوء المعطيات التقدم العلمي، لكن قبل أن نلقي الاضواء علی مضمون هذا النص علينا الاشارة بنقطة مهمة الا و هي سايكولوجية الانسان بشكل عام في الرفض المطلق -علی الاقل في البدء- لكل ما لم يجربه وما مر عليه مسبقا، أو بمعنی آخر الخوف من التغيرات الجديدة وفي أكثر الاوقات عدم الاستيعاب عند فئة واسعة من القراء، الی أن يأتي الوقت المناسب لتهيئة الارضية المناسبة في نفسية و فكر القاريء للأحتكاك بهذا النوع من الحياة أو المفاهيم و النتاجات المتنوعة. وعلی نفس الوتيرة هنالك من القراء والكتاب من يتعاملون بحساسية شديدة غير مكشوفة مع اسماء الشعراء والادباء، بحيث يمتد قياسات النظر الی كل عوامل ما هو خارج عن الشعر والصنف الادبي بذاته، ونتيجة لهذا يقع هذا النوع من القراء في الاخطاء و لن يستوعبوا الابعاد المتفاوتة والمختلفة للنص و لا يتلذذون بفوننه و تقنياته المختلفة، وهكذا في الختام يفقدون الموضوعية والدقة والنظرة العلمية في عتمات النتاج الادبي أثناء تعاملهم مع النصوص..
ولأن الابداع نابع من الروح فليس من المهم أن يقبله الاخرون أو يرفضونه، وغالبا لم يفهم الناس المبدع في زمانه لانه يسبق زمانه، بل اكثر من ذلك و بسبب سباحته ضد التيار فغالبا ما يتعرض للأنتقاد و السخرية.
علی سبيل المثال ان تطرق النظرية النسبية الخاصة و العامة لألبيرت أنيشتاين (١٨٧٩-١٩٥٥) الی موضوع ماهية الوقت و تکوينها تعتبر من النتاجات النادرة لعقل عبقري، ومع ذلك مازالت والی الان صعب علی الاكثرية ادراکها و فهمها، لكن ومع ذلك لان التأريخ يكتبه المنتصر فلم نسمع من أحد بأن يٶشر الی دور انشتاين في صنع القنابل النووية، لقد رحل أنيشتاين الی الولايات المتحدة في عام ١٩٣٣ ولم يرجع لألمانيا بسبب مجيء هتلر الی السلطة، وهو كان من وراء اكتشاف و انشطار القوة النووية عندما صادق علی رسالة للرئيس فرانكلين روزفلت تنبهه الی التطور المحتمل لـ القنابل النووية ويوصي بأن تبدأ الولايات المتحدة في اجراء بحث مماثل أدی هذا في نهاية المطاف الی مشروع مانهاتن. والتي بدورها انهت الحرب العالمية الثانية و خلفت هذه الاسلحة الرهيبة أكثر من ١٠٠ألف قتيل في بلدتي هيروشيما و ناكازاكي اليابانية. لكن و في الجانب الاخر من المشهد العام سنری كيف يعالج ملايين الناس يوميا من الذين يعانون من أمراض السرطان في المستشفيات بأستخدام الطب النووي، بل انما طال هذا الأستعمال في توليد الطاقة الكهربائية النظيفة في بلدان متقدمة، اذن ان العلم سلاح ذو حدين ييمکن أن يقتل و يدمر وفي نفس الوقت يمكن ان يخدم البشرية و يعالج و يسهل الانماط الحياتية من اجل توفير الرفاهية للأنسان.
هنا في هذه القصيدة نلتمس ابراز خطاب العقل بدلا من العاطفي علی ضوء المعطيات ومن خلال أجواء النص، وهي محاولة الشاعر لتناول موضوع هام كموضوع مصير البشرية و نهاية العالم بأستخدام مفردات من زمن ثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل، اذ يعتبر الشاعر القرن العشرين مع كل مشاكله و مآسيه أهدء بكثير من القرن الذي تلته، ولو اننا في ربعه الاول لكن علی ضوء ما عشناه سيستنبط تنبٶات مستقبلية ربما يكون صعبا علينا في وقتنا الحاضر ان نستوعبها، لكننا نناقشه كفرضيات و احتمالات في زمن السرعة والطغيان المادي الذي صار العالم فيه قرية صغيرة يتحكم بها من لە باع طويل في الاختراعات والاستكشافات العلمية، وهكذا تذوب سلطات محلية شتی و يشطب حدود و البقاء سيكون للأصيل أو للأقوی.
اذ ان الذين تمسخوا في الماضي و جعلوا منهم قردة و خنازير هنا في هذا النص يقومون بأدوار أخری و أن نظرية الارتقاء لداروين ستنعکس تماما، بل العكس سيكون صحيحا هنا حينما يمسخ فئة من البشر و يتحولون الی قرود، شكلهم بشر لكن مضامينهم أدنی بكثير من صنف البشر، بل وفي أحسن الاحوال يتراجعون و يشكلون حيوانات أليفة و غير أليفة، فحركة الشخصيات في هذا السيناريو المرعب تتجه بأتجاهات متنافرة و بعضها متجانسة، اذ ان الشاعر يرضی بأن يكون في القاع لكن خارج هذا النظام الجديد الفارغ من الوجدان والاخلاق، والذي يصوره في مقاطعه کحلم مزعج أو کابوس رهيب، فلم لا؟ هل نعرف ماذا يجري وراء أبواب و شبابيك المختبرات العلمية و كواليس علماء العالم الرأسمالي الذين همهم الوحيد هو الربح والسيطرة علی العالم بأي طريقة کانت، أشرعية و قانونية أم غير ذلك؟ ولو ألقينا النظر في عصرنا هذاعلی مختبرات علماء الجينات علی سبيل المثال نری كيف وصل الامر ببعضهم الی تغير خلق الله و تكوين مخلوقات جديدة بأنتقاء و خلط جينات للحيوانات مختلفة، وكل هذه المکائن والآلات تشتغل بنفطنا أو ما رمز لە الشاعر هنا بالماء الاسود. فأين نحن من هذه المنافسات والصراعات الغير جلية؟ هل نهرب الی بر الامان والبساطة كي نسترد العافية والمكانة المرموقة بنا (کما فعل الشاعر هنا کفرد غير قادر علی مواجهة هذه الغطرسة الشرسة)، أم نواجه هذا النوع من الطغيان و موجاته القوية، لكن علينا الحذر والالتزام في حال اذا قلنا نعم فيجب علينا ان نسلح أنفسنا في نفس الوقت علميا بدلا من أن يستخدم أسلحتة متطورة ضدنا أو نستعملوه نحن كي نقتل بها بعضنا بعضا، وهكذا يتبين في هذا الرسم التوضيحي شخصيات هذا السيناريو الشعري الرهيب، مکانتهم و مواقفهم.. فالمدراء يطيرون بواسطة ألواح نفاثة والتي بدءت بالظهور للتو و في الاتجاه المعاكس وعلی الارض نری الشاعر الهارب لوحده علی بقعة نائية للكوكب الارض الحامي… و بالوسط في دائرة الصراعات نلاحظ وجود جنسان من المخلوقات تغير خلقهم وتحولوا الی كائنات أخری، اما اصطناعيا أو طبيعيا (ميتامورفوسيس) ويستخدموا في صراعات مصطنعة، كما يتم تجربة أرهب سلاح متطور عليهم من قبل سلطة تستعين بعلم خال من المورال، ويمكن أن نفسر كل هٶلاء كرموز بوجهه المجازي وليس شرطا أن يكونوا وجودهم هكذا واقعيا، لكن ربما لو نبحث في الواقع سيكون بوسعنا ان ننزلها علی الارض ونجدهم في أماكن ما كأفعال و معان و شخصيات، وقد ترك المجال للتأويل مفتوحا و لكن ربما هذا ما قد يحدث عندما يكون الغلبة لقوة الشر علی كوكبنا ثم الحق والعدل يعودا غريبا.. (كما يتبين في هذا الرسم التوضيحي موقع الشاعر أو من علی شاكلته والاخرين):-
وهكذا يصف الشاعر في المقطع الاخير من قصيدته، المتاهات و المخاطر التي تحدق بالعالم وهو بدوره كشاعر ذو رسالة انسانية ينعزل بل يتمرد و يهرب من كوابيس السلطة العلمية المتهورة التي تحاول جاهدا ان تجعل منا حقول تجارب لأكتشافاتهم الرهيبة، وهذا ما يقرب نهاية العالم والحياة علی وجه الارض، ان لم يسترجع للأخلاق دورها و مكانتها أثناء التعامل السياسي والاقتصادي بين الامم والافراد :
في هذا العالم الجديد
شعرت بغربتي
وعلمت انه ليس لي وطن هناك
سرعان ما خرجت منها
و وجدت نفسي
تائها
علی مشارف القرن العشرين
ثم اخذت بيدي الطمأنينة
من جديد
وانقذتني
من رعب هذا الکابوس اللعين
خلف قضبان الحديد!