عن مؤسسة “آفاق للدراسات والنشر والاتصال” مراكش المغربية المركز الثقافي، نشرت للكاتب المغربي محمد آيت علو نصوصه الأدبية تحت عنوان : ” كأَنْ لا أحَدْ ” زُينَ بغلاف جد معبّر يمثل قصة السيناريو، واللَّوحَة للفنان التشكيلي خالد عروب، تقع المجموعة في 112 صفحة ، وتضم عشرين عنواناً هي من الصفحة رقم 7 الى الصفحة رقم 108: وجوه وأفواه- إلى حين تمطر- أصبع صغير- زنزانة لاتضيء – كذلك بعد اليوم – صور رجال جبال – حائلُ الاشتهاء – احتضارُ حياة – طيفُ ابتسامة – اختراقٌ محموم – تردد – ذو الوجه النحاسي – الطفل الكهل – كوة في الغياب – آلة صماء والآخر إنسان –نظرة بنظرة – قناعُ ممثل – أيقونات الغفلة – أخيراً وحدك…. باختياراته الفنية والجمالية، وفاء منهُ لمنهجه المتميز والمختلف في صوغ المتن النص الحكائي والقصصي الموسوم بطابع التجريب والممانعة، المسكون بميل جارف لخلخلة الأساليب التقليدية للسرد القصصي، وخروجا بالنص إلى عوالم خاصة مفتوحة على احتمالات الدهشة والمغامرة، وكمواصلة للحفر عميقا في ذواتنا ولكواته، موغلة في أقاص يتقاطع فيها الواقعي والغرائبي والعجيب. وبجنوح ومغامرة واصطناع عوالم غريبة، حيثُ الكتابة عنده سفينة لزرع الآمال، وبحث عن كوات ضوء وفرج في عوالم مشروخة متشظية، ومفتوحة على الجرح المتجدد…إنها أمل يغلقُ مآسي الحياة، اللفتات والبوح والتأمل والانصات، حيث يصير الكاتب بوصلة… التجربة في إطار من التفاؤل والتطلع إلى المستقبل، مشحونة برؤى متداخلة من الوشائج الإنسانية، والمشاعر الذاتية التي تحدد فضاء إطار رومانسي، أو التأرجح الشعوري الوجداني للشخصية في علاقتها بذاتها وبالآخر.. تقف بك هذه التجربة بين ما هو كائن، وما هو محتمل في المسافة الفاصلة بين الواقعي والمتخيل، أو تضعك في مساحة زمنية ملتبسة في منطقة أكثر شفافية، حيث تتشكل حكايات غرائبية ومرعبة، تتراقص في دهاليزها الشخوص مثل الأشباح والظلال، تقتفي آثار نفسها، وتبحث في مرايا سحرية عن حقيقتها. اعتماداً على التخييل الخصب، والرمز على اختلافه وأنواعه، تتحرك ضمن أنساق دلالية يستحدثها الكاتب انطلاقا من تشعبات مشاربه الثقافية، وإحالاته الرمزية المتعددة والغنية بمرجعيات، تتجاور فيها الأشكال والمعارف وتتجاوز نفسها أحيانا… فالحكاية حاضرة في نصوص محمد آيت علو، لكنها تلبس لبوسا جديدة وأقنعة سريالية عصية أحيانا، تستلزم التسلح بترسانة من الخلفيات والمرجعيات الثقافية الحياتية المتنوعة. هي إذن كتابة واعية بنفسها، تؤسس لاختيار جمالي وتقني مختلف. و ليست تدميراً من أجل التدمير، ولكن من أجل لغة يتعانق فيها الحسي والمجرد، وترفل بزهو في انزياحاتها الباذخة…هذه اللغة الدالة، لغة المراوغة حيثُ تبدي أشياء وتوهم بوضوح الرؤية ولكنها تنتهي بما يفيد الدهشة أو الحيرة أوالتأويل…تكتمُ وتخفي أكثر مما تظهر وتبدي، إنها لغة مختزلة لماحة مختالة عميقة، وليست بلغة بريئة شفافة.. مع اعتماد عنصر المفارقات بين المواقف، بمستويات نابضة بالدينامية والحركية، وبرؤى عميقة وبفنية وحرفية عالية جدا، بأسلوب متميز بمستجدات وتقنيات اللعب اللغوي والأسلوبي والابتكار، اعتمادا على عنصر المفاجأة، وقفلة الادهاش والحيرة، والحلقة المفرغة لإثارة الفضول والأسئلة…مع اقتناص وصيد الدهشة والغرابة الممزوجة بملوحة الحياة، اقتناص الدهشة في غابات الحياة..بجمالها وأسئلتها، بغموضها وأسرارها ومظاهرها…كما أنَّ محمد آيت علو كاتب مسكون ببعد إنساني شاهق، النصوص الأدبية التي يُتْحفُنا بها تندرج ضمن مشروع نصوص منفلتة ومسافات، أراد لها المؤلف إسم : ” كأنْ لا أَحَدْ “، تجمع بين هذه النصوص لحمة قائمة على عدة مستويات، ولا سيما التيمات والشكل أيضا، مثل تيمة الفقد والوحدة..كما أن هذه النصوص تتماهى بين عدة مكونات، أو تيمات تشيد صرح البنية السردية منها ؛ القوى الفاعلة والبعد النفسي والعاطفي والوجداني، والبعد الفكري والفسلفي و العقلاني والبعد الاٍجتماعي والسياسي ، هذه القوى الرمزية الفاعلة كثيرة، وهناك قوى رمزية أخرى مثل الاٍعتراف والنصح و الحب والكراهية والسخرية أو التهكم والجدية والصراحة والتلميح والتصريح …الخ ، هذه القوى الرمزية أو التيمات تتفاعل داخل النص بين المد والجزر، مستفيدة من توظيف الكاتب تقنيات سردية متنوعة منها الحوار والاٍسترجاع والحوار الداخلي والوصف والخيال …الخ ، وهي تهدف كلها اٍلى جعل القارئ يعيش تجربة الحيرة النفسية نحو إشراقة للروحن، ففي هذا العمل، لم يضع الكاتب نصب عينيه تقنية جاهزة، فقد إستجاب إلى النص وحده، وانساق خلال الكتابة إلى طريقته في الحكي وهو يحاكي المشهد والموقف في حقيقته وصدقه، بمعزل عن أي داع، فالحكي يبقى عنده ارتجالا وفعلا شفويا. ولم يكن خزَّان الحكايا، بل كان مستندها ومُستودعَ الأسرار لها فتقاطعت النصوص وتناسلت، تفاصلت واختلطت..، ذلك أن الكتابة عنده استكشاف دائم، فالذاكرة ليس لها حدود، كما أن الذاكرة والزماني والمكاني وغير ذلك كله. يعتمل فيها بحركية الحياة ذاتها. تحرك سريع وباستمرار كتحرك الحياة، الماضي والحاضر، الواقعي والمتخيل، وهذا ما يجعل لكل صوت أو بَـوْحٍ أوقولٍ ذاكرة ولغـة، كما تصير اللحظـة الحـاملة لكل إرهاصات الذاكرة ولكثافة الزمن في حركية مستمرة. فضلا على أن الكتابة عنده إختراق للحياة، وأسئلة وخلخلة وتفكيك للرؤية، ثم إعادة تركيبها على نحو واعي يمنحها فاعلية حوارية، مع ذاكرة الكتابة وذاكرة القارئ، فالإبداع يشكل عنده متغيراً أساسياً لذاكرة، متعالقة بسؤال الحاضر والواقع وصيرورته ونقده. وَعْيٌ يتجاوزُ الكائن، ويَـجْنَحُ لكُلِّ ممكنات العمل الإبداعي، وكتجريب للتقنيات دون الإستسلام لتقنية بعينها، حيث إن الإبداع حالة مـعـقـدة مـن تداخـل وتـشـابك الـلاوعي الـذاتي والوجودي والإنـسانـي، والـوعـي الـفـنـي، ولكن بالتزام خـلاَّقٍ، وبـجرأة لها حـدود، والتي لم تحـجب حـرية الإبداع والفكر، لكـن التكـوين والـصورة كانا متـلازمين، مع الحذف والإضمار والتضمين والتكثيف اللغوي، كلمات ومضات لما آل إليه الوضع في أثره على الأرض والانسان، على الحال والمآل، بل إشارات وشظايا تبدو بعيدة، لغة مجازية تأتي تلقائيا في نسق شاعري برؤى متداخلة، من الوشائج الإنسانية والمشاعر الذاتية، حيث التأجج الشعوري الوجداني للشخصية، في علاقاتها بذاتها وبالآخر. وللإشارة فهذا المبدع سبق له كتابات عديدة “باب لقلب الريح” من خلال مشروعه:”نصوص منفلتة ومسافات” في طبعات، والدواوين الشعرية: “زورق ونورس، وعيون على سفر، وعزلة والثلج أسود، وطين الشتاء” والمجموعة القصصية: “منح باردة”.
هكذا نجد عوالم إنسانية مدهشة ومبهرة، إذ نجد استكشافا أساسيا ونقصد تصدي الكاتب للأمراض النفسية كالانتهازية، وحب الذات والحقد والتعالي والزهو الخادع…واسترجاع مناطق ظليلة من الماضي الجميل المحجوب والمنكمش، وحشية الطفولة ووحشية الواقع. تبقى مرحلة ظليلة غامضة ضمن هذه النصوص المنفلتة ولقد برع الكاتب محمد آيت علو لما اصطنع تلك المسافات بينها وبين القارئ، كما جاء في المقدمة للكاتب الراحل” المبدع:إبن الأثير عبده بن خالي: “…وهذا لايصدمُنا في شيء طالما أن هذه النصوص تتماهى مع حقيقة تكاد تترسخ كما هو الحال عند كافكا:” إنني أكتب خلاف ما أتكلم، وأتكلم خلاف ما أفكر، وأفكر خلاف ما يجب أن أفكر، وهلم جرا إلى أعمق أعماق الغموض” هكذا يتداخل هذا الإنفلات في تلك المسافات لتصبح المسافات انفلاتا حداثيا للإبداع، ثم إن الأعمال الإبداعية المتميزة لايحددها بعد مقياس ثابت فهذا لايحدث حتى في الحلم. كما أن العالم يفلت منا باستمرار، والإبداع يحاول القبض على هذا الإفلات، فنحن حين نستعيد بالإبداع هذا العالم الهارب منا، لانضعه في صورة مؤطرة ونحتفظ به كذكرى، لمسافات واسترجاع لما قد فات…وتمتد هذه المسافات في ذلك الإنفلات ليصبح الإنفلات مسافات بين التداخل والإمتداد رؤية في اتجاه أن نكون أو لا نكون…!
إنها الكلمة / الإبداع، والحكي عن الفرح الجامح بصخب وتوهج، عبير ينتشر عبر الأمكنة / الأزمنة من ضوء يغذي جوع العتمات المندوبة جراحها فينا كالنزيف، ومساءات الرغبة المبحوحة في الانفلات من ذاك العالم المسيج بالريح، واحتراق الكلمات الناضجة فينا، فتبقى المسافة بيننا طقوسا لانفلات لم نمارسه من قبل…!
فسلاما عليك أيها الواقف عند مدخل القلب، سلاما عليك أيها الجسد المنفلت فينا، حلما يراود الذات، ويسعى إلى تدميرالمألوف، سلاما أيها القلب الراقص على جدار الحزن الراكض في اتجاه النافذة بحثا عن كوة فرح، ملفوف بمرايا عشتار وأناشيد لوركا…يدك الريح على كف الشمس وسط الظلام، ومشيئة الظل الذي هو ظلك في ظلين…، الأول يحلق داخل متاهات الوجد وأزقة المدينة، يغازل الجرائد سيلا من رماد…، ويغطي الثاني رموزه بحدائق تحجرت نبوءاتها في دمه، و من أجل لا شيء، هو المرمى هناك بين نوافذ الريح، بين الندى والبحر، يبقى الإشتهاء لديك في الإنفلات إلى شرفة مضيئة، مطرزة بليل السمار الموسوم بالحكي والشغب المبدع…!
من هنا تبدأ الحكاية/ الكتابة والكلمات…، وحبك المشنوق بحبال المنع والردع والصفع، وحقيقة إنفجاراتك الداخلية، وكل التناقضات التي تجعل العالم يضيق أمام عينيك، حتى يصبح في حجم علبة الثقاب.