تمثل الاستعارة عملية ذكر احد طرفي التشبيه ونريد به الطرف الآخر , أي دخول المشبه في جنس المشبه به, والانتقال من المعنى الحرفي إلى المعنى المجازي, وتعد الاستعارة من مقومات الانزياح الاستبدالي, والاستعارة في اللغات الأوربية هيMetaphor أي ما وراء المعنى , وقد حدد أرسطو في كتاب الشعر(الاستعارة: بأنها نقل اسم الشيء إلى شيء آخر) لعلاقة المماثلة بينهما, اذ انتقل أرسطو من خلال الاشتراك القائم على المماثلة من مستوى المعنى اللغوي إلى مستوى الإحالة الاستعارية , حيث تؤسس الاستعارة القائمة على المماثلة مدلولها المتعالي وواقعها الهش غير القابل للبرهنة, وهو ما احتملته الصياغات التشكيلية الحداثية من خلال عمليات الانتقال والتغاير وانفتاح الدلالات او اندماجها وقد ذكر(اندريه بريتون): أنها القدرة الرائعة للامساك بواقعين متباعدين على نحو متساو من غير الذهاب إلى ما دون تجربتنا لكي نستمد من تجاورهما شرارة , ولكي نضع في متناول حواسنا أشكالا مجردة قادرة على إن تكون لها بقدر ما للآخرين من القوة ذاتها والتعزيز.
ولما كانت الاستعارة طريقا للانزياح فأن الدرس النقدي عند أهل الحداثة قد نظر إلى الاستعارة على نوعين: الأولى بسيطة وأولية وقوامها المشابهة دون علاقة الشبه وهي شائعة في الشعر قبل الحداثة , والثانية : المركبة التي تعتمد نقل دلالة الشيء الموضوعية له إلى شيء آخر لم تكن له , مما يخلق أفقا للتأويل يخرج الدلالة عن قصدها المعنوي وتنتهي في النص الشعري إلى الغموض ويمكن ربطها برسومات (بيكاسو) في استعارته للنساء والأشكال او أجزاء منها فتتغير بذلك دلالاتها بل تصل إلى حد الغموض , ذكر بيكاسو :(أحاول دائما إن أشاهد الطبيعة وكما ترى فقد وضعت في لوحتي (الحياة الجامدة) هذه صندوقا من الكراث , لقد أردت للوحتي إن تعبق برائحة الكراث إنني إصر على وجود شبه أكثر جوهرية وأكثر واقعية من الواقع لكي أحقق ما فوق الواقع) وقد فهم بيكاسو ما فوق الواقع ليس كما أشار إليه اندريه بريتون بأنه داخل اللاوعي الفرويدي أي نقله إلى ما دون عالم العقل , بينما لدى بيكاسو فالواقعان هما شكلان منفصلان من البيئة المستوعبة ينتج من تلامسهما في ذهن الفنان ومخيلته وعلى نحو متجاور على قماشة اللوحة واقع اشد قوة هو ما فوق الواقع, من خلال الاستعارة التي تمثل الانحراف عن الأسلوب الواضح..
استعمل (ت. س. اليوت) الاستعارة بالمعنى العام عندما وصف (الكوميديا الآلهية ) بأنها استعارة عظمى , اما جان كوهين فينظر للانزياح بالابتعاد عن استعمال الاستعارة القريبة من الشعر الحديث, فيقول: الاستعارة غاية الصورة , فالانزياح التركيبي لم يحصل إلا لأجل إثارة الانزياح الاستبدالي ,إلا إن الاستعارة الشعرية ليست مجرد تغير في المعنى أنها تغير في طبيعة أو نمط المعنى ,انتقال من المعنى ألمفهومي إلى المعنى الانفعالي- كما في رسومات المدرسة التعبيرية لدى فان كوخ مثلا – ليست الاستعارة مجرد تغير في المعنى بل أنها مسخ هذا المعنى, لأن الكلمة الشعرية هي في الآن نفسه موت وانبعاث اللغة , ومن خلال مسخ المعنى يمكن إيجاد مقاربة مع استعارات السرياليين ودور اللاشعور في إيجاد بدائل رمزية لأحداث واقعية تأخذ شكل (حلم) أو(رمز), لذلك فالانزياح نقيض الاستعمال العادي للغة, وكلما كثرت الانزياحات يكون ذلك دلالة على ارتفاع الكثافة الشعرية والفنية في النص لأنها تكشف عن أفق تأويلي ومقصدية فنية, كذلك الفن نقيض الواقع المادي المألوف, فكثرة الانزياحات = كثافة فنية = تجريد خالص.
والمقصدية الفنية يمكن إن نجد لها مثالا في احد الأبيات الشعرية ل(فاليري):
(هذا السطح الهادئ الذي تمشي فيه الحمائم)
إذ إن السطح في سياق القصيدة يعني البحر ,إما (الحمائم) فتعني السفن , ولو إن البيت كتب بالبحر والسفن لما كانت فيه أية شاعرية ,ويمثل هذا عند كوهن خرقا لقانون اللغة أي انزياحا لغويا يمكن ان ندعوه كما تدعوه البلاغة (صورة بلاغية) وهو الذي يزود الشعرية بموضوعها الحقيقي , وهناك استعارة رمزية سريالية في لوحة (سلفادور دالي) بعنوان (زورق في صحراء) بمعنى ان الفنان كالشاعر يستعير من مفردات الواقع ما يلائمه ويضفي عليها صيغ المنافرة والملائمة ليحدث الكثافة الفنية .
ويمكن إن نورد مثالا آخر للاستعارة الشعرية من كتاب الشعر والرسم ل(فرانكلين ر. روجرز: في قصيدة (مشهد بحري) للشاعر(ستيفن سبندر)عام1947 جاء فيها:
هناك أيام يرقد فيها المحيط السعيد
في أسفل اليابسة مثل قيثارة لم تلامس بالأصابع
الأصيل يذّهب كل الأسلاك الصامتة
في موسيقى تحترق من اجل العينين
على مرايا تضيء خطفا بين نيران مموسقة جيدا
فأن الشاطئ محمل بالزهور بالخيل بقمم الأبراج
يتجول على الماء ماشيا فوق رمل مضلع.
وهنا الاندماج المتداخل الذي يحقق التشاكل يتحرك بنعومة عبر التشبيه (مثل موسيقى تحترق) و(نيران مموسقة جيدا) و(ورمل مضلع) لقد كانت المعضلة في الحفاظ على الاستعارات الكثيرة على نحو تشاكلي مع الصورة الانتمائية لقيثارة تركبت فوق البحر واوتار القيثارة مرصوفة مع أهلة أمواج البحر والأوتار- الأهلة تعكس ضوء الشمس بإشراق مثل مدرج الموسيقى , يكون حالة تصويرية تجسيدية للموسيقى المسموعة أنها أشبه بلوحة سريالية ذات استعارات مدروسة ويرى (جان كوهن): إن المنبع الأساس لكل شعر هو الاستعارة وهي غاية الصورة الأدبية والفنية المتجسدة في العمل الأدبي والفني , وللاستعارة دور مهم في نفي الانزياح , فالمعنى الأول يحيل إلى معنى ثاني , وبهذا نعيد الجملة إلى المعيار, ثم يعلل (كوهن) حدوث انزياح فيقول: “إن الاقتصار على المعنى الأول يجعل الكلمة منافرة بينما تستعيد هذه الملائمة بفضل المعنى الثاني , وتتدخل الاستعارة لآجل نفي الانزياح المترتب على هذه المنافرة , ويلفت النظر إلى إن المنافرة تعتبر خرقا لقانون الكلام لأنها تتحقق على المستوى السياقي والاستعارة خرق لقانون اللغة لأنها تتحقق على المستوى الاستبدالي , ولا يتم فهم ما يحدث في دلالة المعنى إلا بوجود المتلقي “.
إن نظرية(ريتشارد) تتخطى فكرة المعنى إلى معنى آخر يقوم على التفاعل لا على المقارنة فالاستعارة في ظل مفهوم التفاعل أحدثت اضطرابا كبيرا في مفهوم الإنسان , هنا يجب ان يعاد فهمه وتنظيمه وإدراكه من جديد, أي نظام الدلالات المرتبطة بهذا الشي قد تم تجاوزها , ومن هذا المفهوم شاع مفهوم (معنى المعنى) , ويمكن ان نلحظ معنى المعنى في مقولة الفنان (فان كوخ):( اشعر أكثر فأكثر بأن الرسم التخطيطي للشخص عمل حسن له تأثير طيب في رسم المناظر الخلوية , فإذا ما رسم المرء صفصافة كما لو أنها كائن حي, هي حقا كذلك, فسيأتي بعد ذلك دور الأشياء المحيطة بها في الوقت المناسب, لو إن المرء ركز كل اهتمامه على تلك الشجرة بالذات فلا يستسلم حتى يبعث بعض الحياة فيها ,وكما قلت إذا نحن لم نرسم شكلا ما أو نرسم أشجارا كما لو كانت أشخاصا فأننا نرسم أناس بلا عمود فقري) ,إن تشاكل الصفصافة مع ما يحيط بها هو النتيجة الطبيعية للعملية التحولية في الاستعارة البصرية للصفصافة الإنسان, كذلك محاولته استعارة الدرجة اللونية للبطاطا في رسم لون الجسد للفلاحين في رائعته (آكلو البطاطا) وفي مقاربة أزاحية جيولوجية قام فان كوخ بحرث لوحاته كما يحرث الفلاحون أرضهم من خلال مقاربته ألوان الجسد للأشخاص لألوان البطاطا, فحاول الانتقال من البنية الجمالية التي اتسمت بها هندسية سيزان إلى بنية جمالية مغايرة الانتقال من المعنى الحرفي إلى المعنى المجازي فدمج العالم بحالته النفسية، باحثاً عن الضوء وعلاقته الحتمية باللون في تواتر بين لوحات نفسية داخلية وأخرى من محيطه الخارجي مع ملاحظة أساس هي من ناحية الشعور المباشر الذي تتركه كل لوحة من لوحاته فتبدو فيها الإزاحات الجوانية الطاغية لان ما يصوره هنا حتى وان كان مشهداً واقعياً فهو ليس الواقع بل كيفية انعكاس الواقع على ذاته أي إيقاظ الوجدان , فاعتمد الضوء تعبيراً داخلياً يقول عنه (فان كوخ) (حاولت أن اعبر باللونين الأحمر والأخضر عن اللوعات المروعة للكائنات البشرية) , وهو يرسم صخوره وأشجاره وكل أشكاله اللابشرية تتلوى من فرط العذاب الإنساني, وقد أشار (فان كوخ) في رسالة لأخيه (ثيو):” أنني يا ثيو قطعاً لست رسام مناظر طبيعية وحين ارسم مناظر طبيعية فسيكون فيها دائماً ثمة شخوص ومن المؤكد أن التفاعل الاستعاري بين الشكل الإنساني واللانساني يظهر بكامل قوته في رسالته تلك” فالاستعارة هنا هي أن تقول شيئا وتعني شيئا آخر، أن تقول شيئا بصيغة شيء آخر, ويبدو انه يقدم انزياحات مستمرة ما بين المادة والروح لذلك تبدو مشاهده غير مغلقة بل تنفتح لتتخذ معاني رمزية وتعبيرية متعددة فتواشج الألوان وتداخلها على اللوحة أضاف للحركة محمولا آخر للتعبير العاطفي الشعري ترك أثرهُ على اللوحة, كما يترك المعول أثره على الأرض بخطوط مائلة ومقوسة، في محاولة لإيجاد مقاربة جيولوجية، فسطوح أعماله غارقة بمزيج الألوان العالقة بشعر الفرشاة ومزيج من الألوان التي تمثل السيول الجارفة المتكونة من الطين والحشائش والأوراق الجافة بأشكالها المتعرجة وألوانها الخضراء والزرقاء والاوكر أشبه بانزياح التربة وانجراف سطوحها المتكرر، وهو يذكر لأخيه (ثيو) حاولت أن أضع الإحساس ذاته في المشهد كما أضعه في الشكل الإنساني، التعلق العاطفي ذاته بالأرض لكنه شبه ممزق بعصف الريح في استعارات متسلسلة من الطبيعة والأرض ..