طالب همّاش:
بجوارِ الماءِ المترقرقِ يا جاري
بجوارِ الماءِ الجاري
في موسمِ أصواتِ النهرِ الزرقاءِ ..
معَ السقسقةِ المنغومةِ للموجاتِ العذبةِ ،
والموسقةِ الموزونةِ لأحاسيسِ النبعةِ ،
والثغثغةِ المهموسةِ للفوّراةِ ،
والدغدغةِ الورديةِ للضحكاتِ
وصوتِ الشلّالِ المتصادي
وعلى مقربةٍ من تغريدِ الحسّونِ
الشاردِ في الأعشاشِ
وزقزقةِ العصفورِ الشاعرِ في الأشجارِ
وإنشادِ الكروانِ الشَّادي
كمْ هوَ سهلٌ اسمُ السهلِ
ومهموسٌ اسمُ الليلِ
وكم هيَ هادئةٌ هبَّاتُ هواءِ الوادي !
كم هوَ رقراقٌ اسمُ النهرِ
ورائعةٌ أجنحةٌ الأشجارِ
المفتوحةُ للطيرانِ
وتحليقُ الغيماتِ المتهادي !
من شبّاكِ العرزالِ العالي
تستنشقُ رائحةَ الريحِ
ومن شبّاكِ الكوخِ
أشمُّ عبيرَ الأرضِ بكلِّ فؤادي .
من شبّاكِ العرزالِ
تراقبُ رفَّ ( شحاريرٍ) يتأرجحُ فوقَ حفافي التلِّ
ومن شبّاكِ الكوخِ
أراقبُ شلحَ زرازيرَ
يحوّمُ في هدآتِ الوادي .
فلماذا تجلسُ في حاكورةِ داركَ
يا جارُ
وتتركني أجلسُ مهجوراً في حاكورةِ داري ؟
تسمعُ أغنيةَ المطرِ الراجعِ في أيلولَ
وتتركني أسمعُ لحنَ الشتويّةِ في الشجرِ العاري !
ولماذا تملأُ بالدمعِ جراركَ من ينبوعِ الليلِ
ويملأُ ينبوعُ المغربِ بالعبراتِ جراري ؟
يا جاري الراهبَ ما نحنُ سوى جيران النهرِ
نعيشُ على إيقاعِ الريحِ
ونرتاحُ على صوتِ الماءِ الجاري !
.. جيران النهرِ
ورهبانُ الأريافِ الحلوةِ
حيثُ القريةُ ترتاحُ بقربِ أُخَيَّتها القريةِ ،
والكرمةُ ترتعُ تحتَ رخيخِ الغيمةِ ،
والدارُ تنامُ على كتفِ الدارِ ..
ما نحنُ سوى غيتارينِ غريبينِ
يبوحانِ بحزنٍ مجروحٍ
أنتَ تدوزنُ أوتاركَ كالبحّارِ
على رجعِ الحسراتِ العالي
وعلى رجعِ حفيفِ الحور ِ
أدوزنُ غربةَ أوتاري !
أنتَ العابرُ لا مرئيّا
بينَ حقولِ الليلِ الحيرى ،
وأنا الشاردُ لا مرئيّاَ بين براري وبراري
آهٍ يا جاري !
روحُكَ ترخيمةُ نايٍ تتنهنه بالحسراتِ مع الريحِ
وروحي تترخرخُ بالعبراتِ
كروحِ الشعراءِ المزروعةِ بالأمطارِ !
آهٍ يا جاري الراهبَ آهٍ يا جاري !
إنْ كنتَ تربّي الأشجارَ المرسلةَ الآهاتِ
فماذا سأربّي غيرَ الأشجارِ المرسلةِ التنهيداتْ ؟
إنْ كنتَ تربّي الريحَ المهجورةَ في أعشاشِ الدارِ
فماذا سأربّي في شتويّةِ داري
غيرَ نحيبِ التنويحاتْ ؟
أنتَ المغمضُ عينيكَ على أيّامٍ موحشةٍ
وأنا المغمضُ عينيَّ على حزنٍ ظمآنَ
تسيلُ جداولهُ المرّةُ بالدمعاتْ !
وأرقُّ من التنهيدةِ روحُكَ في ميزانِ الحزنِ
أرقُّ من الريشةِ روحي في ميزانِ الآهاتْ !
فاتركْ روحكَ حالمةً تحتَ سماءِ السهلِ
بساعاتِ هناءتها النهريّةِ ،
وأغانيكَ السكرى تتلامسُ موسيقاها الزرقاءُ
تلامسَ أجراسْ !
وتعالَ نرقرقْ روحينا
في ترعةِ ماءٍ جارية ٍبالصورِ البيضاءِ
ونغسلْ قلبينا في إحساسِ سعادتها
الموزونِ بميزانِ الذهبِ الحسّاسْ !
وسطَ سهولِ الحنطةِ ترقدُ مغموراً
بسلامِ الدنيا الورديّةِ
يغمرُ روحكَ طوفانُ القمحِ الذهبيِّ
حصاداً بعد حصادِ .
سهلُ الحنطةِ صورةُ موسيقى ..
وطريقُ المشمشِ إيقاعٌ ..
والمشي على أطرافِ الحقلِ
يطيّرُ أحلامكَ في أفراحِ القمحِ
كجوقاتِ الإنشادِ .
فدعِ الريحَ تمرجحُ رؤياكَ مع الأشجارِ
وكالطائرِ رفرفْ بجناحيكَ
وحلّقْ تحليقَ حمامٍ أبيضَ فوق حفافي الوادي !
مرأى النهرِ يصفّي ماءَ العينِ
وخضرةُ حقلِ القمحِ تنقّي ماءَ الروحِ
وجيرانُ الماءِ النهريُّونَ نقيُّونْ .
فاجلسْ يهدوءٍ كي نحلمَ
أحلامَ الطيرِ النهريّةَ
إنَّ سماءَ النهرِ مزيّنةٌ بالأسرابِ
ورائحةُ الطيّونِ تطيّبُ أجواءَ الليلِ
وما أطيبَ في العشقِ عبيرَ الطيّونْ !
وتموسقْ مثلَ مياهِ الساقيةِ الشفّافةِ ،
ومياهِ الشلّالِ الفوّاحةِ ،
ومياهِ الدمعِ الثغثاغةِ ،
واجعلْ سرَّ سعادتكَ الخضراءِ
سريراً لسباحةِ أجنحةِ الأحلامِ المفتوحةِ
وَهْيَ تحلّقُ فوقَ سعادةِ هذا السهلِ
مغنِّيةً أغنيةَ العشقِ بمائةِ لونْ !
يا جاري الراهبَ
ما أصعبَ إحساسَ الغربةِ في هذا الكونْ !
ما أصعبَ أنْ تجعلَ من شبّاكِ دموعكَ
عشَّ شتاءٍ لبكاءِ الحسونْ !
ما أقسى أنْ تقعدَ مكسوراً في هذا الوادي
لا قلبَ ليشفقَ بالحزنِ عليكَ
ولا تغرقُ من أجلِ فراقكَ بالعبراتِ عيونْ !
آه يا جاري
البحرُ وشيخوخةُ هذا الليلِ
تذكّرني بفراقِ صديقٍ ضاعَ
وتُغرقُ روحي في رقراق الدمع
فراقاً بعد فراقْ
الليلُ وشيخوخةُ هذا البحر الضائعِ
موسيقى متوحّشةٌ
تنشدها الشبّاباتُ مع الريحِ
وتعتصرُ القلبَ المفجوعَ من الأعماقْ !
يا جارَ الغربةِ
مَنْ يحكمُ ليْ بالشوقِ على مائةِ مشتاقْ ؟
ماءةُ دمعةِ حزنٍ تتدفقُ من قلبي ،
والوحشةُ شيطانٌ يشنقُ بالشؤمِ مئاتِ الأعناقْ !
الشتويّةُ والشيخوخةُ
قلبانِ يدقّانِ بايقاعِ الدمعِ
على الأبوابِ المهجورةِ
وبصوتِ رجاءٍ محترقٍ
يتمزّقُ صوتُهُمَا بالألمِ الشَّاقْ !
آهٍ يا إبرَ الحزنِ المغروزةَ في جمجمةِ الإرهاقْ !
آهٍ يا بركةَ ماءٍ
راقَ ترقرقُهَا الأزرقُ للقلبِ الظمآنِ
وكأسُ مرارتها ما راقْ !
ما نوَّمني عصفورُ النهرِ على شبّاكِ الفجرِ
ولا أيقظني عصفورُ المطرِ المجروحُ
على شبّاكِ فراقْ !
رحلتْ آخرُ أيّامِ الرّمَّانِ
وما عادتْ أوّلُ أيّامِ الدراقْ !
فتعالَ إلى داري وقتَ المغربِ يا جاري !
هدأتْ هضباتُ الليلِ
ونامَ فضاءُ الوادي بعدَ غروبِ الشمسِ
سفوحاً بعد سفوحْ .
يا جاري الراهبَ
لا تقلِ اليومَ وداعاً لحياةِ الناس ِ
ولا توحشْ بغيابكَ هذا القلبَ
ولا تغربْ كغروبِ الشمسِ عن الروحْ !
شجراتُكَ في الحقلِ جريحاتٌ
تتنهّدُ طولَ الليلِ
وأشجاري تصفرُ موحشةً بالصوتِ المجروحْ
شجراتُكَ في البردِ تعيشُ على إيقاعِ الريحِ
وأشجاري في الدارِ
تعيشُ على إيقاعِ نواحٍ مبحوحْ !
أنتَ تلوذُ وحيداً بصخورِ الوعرِ
المنحوتةِ كالرهّبانِ بوجهِ الريحِ
وإنّي اللائذُ بالعزلةِ
أبكي وأعاني وأنادي :
ما من أحدٍ في وحشةِ هذا الوادي !
غيرُ سراجٍ يغتالُ سهادكَ في الليلِ
وفانوسٍ مملوءٍ بالدمعِ الضائعِ يغتالُ سهادي .
أيُّ مصيرٍ ألقاكَ على هذا التلِّ الشاهقِ
يا مهجورُ ؟ ..
تموتُ وتبكي وتنادي :
ما من أحدٍ في وحشةِ هذا الوادي !
يا جاري الموحش فوقَ التلِّ
اتشحتْ بالوحشةِ روحُ الليلِ
وسالَ الصمتُ الأسودُ في الوعرِ المقفرِ كالغربانْ !
فتعالَ إلى السهلِ
ورقّقْ روحكَ بخريرِ الماءِ النهريّ
ومرآى الخضرةِ
والطرقاتُ المحفوفةُ بالرمّانْ !
لا تتركْ روحكَ قابعةً في زنزانةِ حزنٍ
عالية الجدرانْ !
خضرةُ حقلِ القمحِ تغنّي قربَ الدارِ
وأغصانُ المشمشِ كالأجنحةِ المفتوحةِ
شاردةٌ في تحليقٍ شفّافِ الطيرانْ ..
والأزهارُ البيضاءُ تهرهرُ في كلّ مكانْ ..
والقمرُ الورديُّ يسافرُ عبرَ الغيمِ
كساعةِ عرسٍ تتنقّلُ من سهرِ النعسانِ
إلى فرحِ السهرانْ
ما أجملَ أن يصفو صوتانِ بأغنيةٍ
في هذا الليلِ الصافي
ويدقّ صداقةَ كأسينِ على طاولةِ الليلِ صديقانْ !
فهنالكَ برهةُ نورٍ طيّبةٌ تتلألأُ في العينينِ
وثمّة أسرارٌ تسري كالنورِ على وجهِ السكرانْ
في السهلِ ستسمعُ شحرورَ الوادي
يجمعُ بالتغريدِ ثلاثَ قرى
ويثقّبُ بالزقزقةِ الزرقاءِ قميصَ الوديانْ
وستبصرُ تشكيلاتِ غيومٍ
تتهادى في أسرابِ رائعةٍ
ولفيفَ عصافيرَ يسافرُ
سِرْبَيْنِ فَسِرْبَيْنْ .
وعلى مرأى العينِ
سيغسلُ بستانُ اللوزِ طهارتَهُ البيضاءَ
قبالةَ مائةِ عينْ .
فتعالَ إلى السهلِ الهادىءِ
مستمعاً لسنابلِ موسيقى
تتغنَّى بسلامِ الدنيا الذهبيّةِ
بينَ حصادينْ !
ما أجملَ أن تهبطَ روحكَ كالهدهدِ من أعلى التلِّ
وأن تسبحَ روحي
كسحابةِ صيفٍ فوقَ القمحِ المتهادي
والليلُ الهادىءُ
كمْ هوَ سَهْلٌ اسمُ الليلِ
ومهموسٌ اسمُ السهلِ
وكمْ هيَ هادئةٌ هبَّاتُ هواءِ الوادي !
أغنيةُ النهرِ مغنَّاةٌ بالصوتِ العاشقِ
أغنيةُ البحرِ مرتّلةٌ بالحنجرةِ المجروحةِ
جرحٌ يدفعُ جرحاً
والبحرُ جريحْ !
فلماذا تسندُ ظهركَ كالحيرانِ
إلى جذعِ صنوبرةٍ ميتٍ
ولماذا أسندُ ظهري بعدَ رحيلِ الناسِ
إلى جدرانِ ضريحْ
آهٍ يا جاري
أنتَ النائمُ تحتَ حفيفِ الحورِ
تهزُّ سريرَكَ هبَّاتُ هواءِ البحرِ الحيرى
وأنا المُهْتَزُّ معَ الأغصانِ كتنويمةِ ريحْ
فلماذا تُسمعني أغنيةً باكيةً
رقراقُ مدامعِهَا في عينيكَ ؟..
ووحشةُ روحي لا حدَّ لها …
لا حدَّ لهذا الحزنِ
وليسَ لهذا اليأس حدودْ !
ولماذا تقفُ اليومَ وحيداً كالعرّافِ
وتقرأُ في الأفقِ الأسودِ
أقدارَ البشرِ السودْ ؟
فإذا كانَ المغربُ ألفيتُكَ سكرانَ
منَ الدمعِ
يقطّرُ ماءُ أساكَ الأسودُ
من مائةِ عنقودْ !
ولماذا تبذرُ حبَّاتِ دموعِكَ
في حقلِ الشتويّةِ كالبردانِ
وتتركني أبذرُ دمعي
في حاكورةِ داري ؟
وتغنّي عندَ منابع هذا النهرِ
غناءَ المشتاقِ
وتتركني أجمعُ دمعَكَ
من أغنيةِ الماءِ الجاري
غنَّيتَ وأبكيتَ
تعذّبتَ وأدميتَ
وحينَ وردتُ الماءَ مساءً
امتلأتْ بدموعِكَ يا جارُ جراري .