وفاء عبد الرزاق:
** اللكْنَةُ الحقيَّقةُ ، هي ألَّا تعرفَ ماذا ستقولُ .
حِينَ تَجيءُ ، تلمِسُ اللامعنَى على الأبوابِ ، إذْ لا مَقابِضَ كما يفعلُ الآخرونَ في فَتحِ أبوابِهم .. تتخيَّلُ ما خلْفَ هذه الأبوابِ ، وتستنيرُ بِخيالاتِها حدَّ الوهمِ ،تطوِي صفحاتٍ ، تبدأُ بأُخرَى ، وتبقَى حيثُ هي .
أغطية ٌمرميَّة ٌ, معاطِفُ بهتَ لونُها ، أحذية ٌلا تدرِي مَنْ وضعَها هُناكَ ، كُتُبٌ تشتبِكُ حروفُها في السُّؤالِ .. أشياءٌ مُهِمَّة ٌوغيرُ نافِعةٍ ، كلُّ خيالٍ يأخذُها إلى الدَّاخلِ ، والأبوابُ كما الغابةِ .
الذين يختبِئونَ خلفَ الأبوابِ ، بيدِهم مقابِضُ الفتحِ ، كلُّ حُرٍّ في مِهنتِهِ ، وصَنْعةِ لِسانِه الحلو .. مُذنبٌ أغمضَ شفتَيهِ كي لا ترَى الكلامَ وهو يتلعثمُ بين مساماتِها الصَّفراءِ .. لا تعرِفُ مَنْ سيفتحُ قبلَ الآخرِ ، تَسمَعُ خشخشةَ المفاتيحِ وتنتظرُ أنْ يصيرَ للصَّمتِ شفة ٌ، فلا تجد غير الحلو المعسول مِن الكلام ..
لماذا تقترِبُ مِنَ البابِ رقم عشرين الذي رُسمت عليهِ علامةُ صليبٍ ، لا تدرِي ، إنَّما تنتظرُ أنْ يَفرِجَ لها المِقبضُ مِن الدَّاخلِ فَرجةَ الأملِ .
عدَّتِ الأسماءَ التي خطرتْ في بالها والتي لم تخطُرْ ، الأشكالَ المُتوقـَّعةَ , المُستحبَّةَ وغيرَ المُستحبَّةِ ، تخيَّلتِ الكلماتِ ، أخذها الخيالُ للعارياتِ مِنها ، والمَجهولاتِ .
تحرَّك البابُ بهدوءٍ ، بطُمأنينةٍ أمعنتِ النظرَ وبِهدوءِ المُستريبِ نظرَتْ .
صباحُ الخيرِ جارتي ، قالها كلبٌ كبيرٌ وكشَّرَ عن أنيابهِ ، قبلَ مُبادرتِهِ بالنّباحِ سحبَتْ البابَ وشدَّتْهُ بِوشاحِها الذي حشرتْهُ إلى الدَّاخل ليُعينَها على الهَرَبِ .
عند البابِ الأربعينَ ، توسَّلها مَنْ في الدَّاخل ودوداً ، أدخلها مِنَ النَّافِذةِ الخطأ ، فقد كانتْ يدُهُ مشلولة ًلا تقوَى على مَسكِ مِقبضِ فِضيٍّ , تُديرُهُ ، لِتُوارِبَ البابَ ، كان كلُّ شيءٍ تقليدياً ، الكراسي والطاولةُ ، عمرُهما تعدَّى الثـَّمانينَ أو أكثرَ ، الكُرسِيُّ العاشرُ منخورٌ …
العشرونَ بلا قوائمَ ، الثلاثونَ ، عليها أثرُ علاماتِ الاستفهامِ ، رُبَّما كانتِ المائدةُ لوليمةِ الأسئلةِ !!
حتَّى النَّافِذةِ صَدِئة ٌ، وفاحتْ مِن خشبِها رائحة ُماءٍ آسنٍ ، الطاولة ُمسننة ٌ، والأحذية ُحوافرُ ذِئبٍ .
رفعَ رأسَهُ ، شرِساً وقفَ بمواجهةِ لونِها الورديِّ ، وتحوَّلَ مُكوثُها إلى تابوت .
مُسرِعة ًقفزتْ مِنَ النّافِذةِ ، فتهدَّلَ خشبُها المُسِنُّ ، تعثـَّرتْ بهِ فتساقطَ حُلمُها الظـَّمآنُ .
فجأةً ، عند البابِ الخمسينَ ، تخضَّبتْ أصابعُها بالدَّمِ ، والفراشُ تلطـَّخَ بأنفاسِها الرَّطبةِ .. الحنشُ امتصَّها، بلُطفٍ ، واحتفظ لنفسِهِ ببعضِ سُمٍّ ، لو عاودتْها الحياةُ ، سيولعُ سيجارةَ السُّمِّ ويُطفِئُها في المنفضةِ ، لتلك التي وضعَ عظامَها في عُلبةِ الثـِّقابِ .
حين تحوَّلَ كُلُّ ما في البيتِ إلى تماثيلَ . تركتْ جُثـَّتَها وغادرتْ .
عند البابِ السِّتينَ ، أخرجتْ عظامَها مِن عُلبةِ الكبريتِ ، وقفتْ عارية ً، قضمتْ تفاحة ً، أقسمتْ بنفسِها قائلة ً:
ليفزعِ الليلُ مِن صوتي ، وليذهبِ البحرُ للبحرِ ويغرقْ .
حانَ الوقتُ ، ليعرِفَ الوقتُ ذاتُهُ ، أنَّ الحُلمَ المشكوكَ بهِ لا يليقُ بي ، بَصَقتْ عليه باشمئزاز ٍ، بينما صُورُ الأبوابِ الأخرَى لا تستحقُّ البصاقَ ..
عند الرَّسوِ ، قُربَ شاطئِها ، استخرجتْ مِن الخريفِ ورقتَهُ الأولَى ، لم تأبَهْ للونِهِ الباهتِ , ولخُصلتِهِ المُتدليَّةِ .
.. تحدَّثَ بِعَزمٍ مُنهكٍ ينوِي الوثوبَ(أخيراً، سينبثِقُ الزَّهرُ مِن الصُّخورِ).
في مِرآةِ بحرِها ، رأتْ قمراً يرمِي خاتَماً صَدِئاً نحو الأرضِ ، فصدأتِ الفُقاعاتُ ، واحدةً تُلو الأخرَى .