اسس (نيتشه) وعيه الجمالي – الانطولوجي عبر ابجدياته التاريخية للتراجيديا الاغريقية القديمة التي افعمت الحياة بمسلمات الجمال , فسمات أعماله ونثره الشعري المزخرف بالجمال, كان دليلاً على انه فنانًا قبل كل شي . إن النظرة الضيقة لـ(نيتشه) باعتباره عدميًا كارهًا للبشر والحياة غير صالحة اطلاقاً. فما مسعاه إلا كسب معنى الحياة واعادة صياغتها باساليب الفن , لذا نجد ان الحياة حسب (نيتشه) خالية من المعنى الا اذا منحها الانسان قوة وارادة جمالية عبر الفن الذي امتع الإنسان بنفسه ككمال وسعادة لفهم معنى الحياة ووجوده الاسمى , فالفن هو الكفيل لجعل الحياة قابلة للتحمل وممكنة وتستحق العيش .
كان (نيتشه) كله همه هو ربط الفن بالحياة عن طريق ارادة القوة , معنى ذلك ان الفن بأشكاله المختلفة يحوي أساسا على إرادة القوة ، أي انه أحسن معطى للحياة الإنسانية ، فالقوة تعطي للفن تقديرات للكشف عن حالة الأشياء دون شك أو خوف , لذلك كان إيمان (نيتشه) بإرادة القوة كونها تستنهض الذات الإنسانية وتعيدها الى مكانتها الصحيحة التي تتقبل الحياة وتتمتع بها بشغف كبير , لكن تتحقق بالإرادة النيتشوية وصانعها الانسان الأعلى (السوبرمان) , وهذا ما جعل (نيتشه) الفن مسرحاً لتخليص الحياة من بؤسها , فما عمله نيتشه هو ربط الفن بكل تفاصيل الحياة , وانشاء تواشج بين الفن والحياة لتجميلها وازدهارها بالوان الفنون المختلفة , بل راح الى تحويل النشاط الحيوي كله الى علاقه جديدة ووطيدة بين الحياة والفن والفلسفة , وتربية المعاني النبيلة , فالفن لا يعبر عن هزيمة الحياة بل هو تشكيل جديد لها .
ان الفنان كي يخلق عمله الفني ينبغي ان يتحرر من كل القيود والتقويمات التي تحده , وان يمارس دوره الفاعل ضمن حيز الحياة , فمن خلال إرادة القوة يتمثل الصراع الابولوني والديونيزيوسي , اللذان يجسدان فهماً ديالكتيكياً يسمو بالحياة الانسانية الى مستوى روائع الفن وتصبح الذات ابداعاً لا تعاني من أي جمود او رتابة, وهذا ما جعل (نيتشه) ان يلجأ الى الفن لتفعيل ارادة الفنان الخلاقة لتغييب عنه مفاهيم الحقيقة والعقل والضرورة , اذ نقل الأوهام الميتافيزيقية من مكانتاها المتعالية الى فضاءات الفن ومسرحتها جمالياً على ارض الواقع لتقبل الحياة واخفاء عكرها الزائف .
ان (نيتشه) وعبر انسانه المقتدر (السوبرمان) الذي يمثل الفنان , فعّل قوته وارادته لانقاذ هذا الوجود من العدمية القابعة على الحياة عبر الرؤى الجمالية الابداعية , ويستطيع مقاومة الياس والتشاؤم السلبي والقلق الذي سيطر على الانسان , فنعم السوبرمان للحياة نعم اثباتية تثّبت القيم الارستقراطية النبيلة ذات الطباع البطولي الإبداعي , فهو يستطيع ان يجد الحلول المناسبة والكلمات الملائمة في لحظة احساسه بالخطر المهدد للحياة من العدمية , فمتى تكون الحياة قريبة من الهاوية يتصدى لها بقوة وإرادة مبدعة . اذن ان السعي النيتشوي هدفه تحقيق الارادة الفردية وهو بلا شك يؤدي الى نشوء الذات المبدعة المتحررة التي تتفرد في عملية الخلق والابتكار بكل قوة وإرادة لتحقق أهدافها ضمن هذا العالم .
فالفنان حسب (نيتشه) دائماً يتجه الى اتيان البهجة والفرح عبر تزيين الحياة بأروع صور الجمال , من خلال صراع (ابولو) و(ديونيزيوس) ويشتد الصراع الجمالي بين النظام والفوضى حيث تتفجر الدوافع والارادات الفاعلة حتى تتلون الحياة بصبغة جمالية جديدة تبعاً لكل مرحلة من مراحل الحياة كي يحقق ارادته ويصل بها الى اعلى اهداف الجمال والسمو لفهم الوجود والعيش معه كهدف . لذلك كان طبيعياً ان يلجأ (نيتشه) الى الفن بوصفه الميدان البديل الذي تغيب عنه مفاهيم الحقيقة والعقل والضرورة , وبوصفه منتجاً للزيف والوهم , اذ قام (نيتشه) بنقل مفهوم الوهم من الميتافيزيقا الى الفن ليتحول الى مفهوم جمالي , فالفن والوهم مفهومان مرتبطان يشكلان وحدة ينبثق داخلها معنى جديد للحياة , حيث يتم التزاوج بين الفكر والحياة داخل أحضان الجمالي . وبهذا نجد ان (نيتشه) اعطى الفن اكبر قوة للوهم فهو يعظم العام بوصفه خطأ ويقدس الكذب ويجعل من ارادة الحياة ِ مثلا أعلى , فنشاط الحياة تجسيد لقوة الوهم ولكي تنجز هذه القوة لابد ان تضاعف وتكرر , أي ان ترفع الى قوة عليا يجب ان تتحول الى قوة الوهم الى حدود ارادة خداع ارادة فنان قادر وحده ِعلى التنافس مع امثال الزهدي ومعارضته , وعليه نجد ان (نيتشه) عدّ الفن في خدمة الوهم , تلك العقيدة الحقة في عرف (نيتشه) , وهي عقيدة تشي عن محبة الحياة , وإعطاء معنى جمالي للوجود , وزيادة تذوق امر الحياة تذوقاً فنياً .
يبدو ان (نيتشه) خصص الفن ككفيل لإنقاذ الانسان من عمق العدمية التي اوهمته بافتراضاتها الميتافيزيقية , والفن وحدة كفيل بإنقاذنا من كارثة العدمية او انحطاط الانسان الحديث . واتجه (نيتشه) الى تحميل الفن مسؤولية تبرير الانسان من أوهام ومخادع التراتبات النافية للحياة , والمصغرة لقيمها على الأرض , لذلك صعدّ (نيتشه) من الموضوعات الجمالية المتمثلة بالقيم الديونيزيوسية الجمالية وارجاعها الى عالم الأرض كي يعيد التراتب القيمي الذي فقد على يد السقراطيين , والعمل على بعث اللاعقلانية والعفوية والجمال في الوجود ، اذ ان الفنان صاحب الإرادة الخلاقة والمبدعة , وهو نتاج يتحصل نتيجة الممارسات المكثفة والمتكررة الابدية , نتاجه جدي , بمعنى ان الفنان الجيد , بفعل التجريب يخترع ويشرع ويخلق قيم جمالية أكثر أصالة , فمن خلال ذلك ندرك ان (نيتشه) يبحث عن شيء مفقود من زمن ٍ بعيد , ووجد هذا الشيء في مسعاه الاستاطيقي .